بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتقوا اللهَ تعالى حقَّ التقوى، وتزودوا من الدنيا للأُخرى؛ فإن من ورائكم قبورًا موحشةً، ولحوداً مظلمةً، ومن ورائها بعثٌ ونشورٌ وحسابٌ، وأهوالٌ وصِعاب، ولا نجاةَ إلا بالتقوى، قال جلَّ وعلا: {وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} .. جعلني الله واياكم من المتقين ..
معاشر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقةُ التاسعةُ من سلسلةِ دروسِ الآخرة، وكنَّا قد تحدثنا في الحلقةِ الماضيةِ عن مجموعةٍ من الآياتِ الكبرى وشبهِ الكبرى، فذكرنا آيةَ الدخانِ، وطلوعِ الشمسِ من مغربها، وخروجِ دابةِ الأرض، ورفعِ المصاحفِ وذهابُ الإسلام، وعودة الشركِ وعبادة الأوثان، ثم الريحٌ اللينة التي تقبضُ أرواح المؤمنين، وتحدثنا عن هدمُ الكعبة الشريفة، وخراب المدينة المنورة وهجرانها، وذكرنا أن من آخر الآياتِ العظيمة، حدوثُ ثلاثةِ خُسوفاتٍ، خسفٌ بالمشرق، وخسفٌ بالمغرب، وخسفٌ بجزيرة العرب .. وتبقى من كل العلامات والآيات، الآيةُ التي نصَّ النبي ﷺ على أنها آخرُ الآيات، وهي نارٌ تخرجُ من عدن تسوقُ الناسَ إلى محشرهم .. جاءَ في صحيح مُسلم: عنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ الغِفَارِيِّ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: «مَا تَذَاكَرُونَ؟» قَالُوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ قَالَ: «إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْنَ قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ» فَذَكَرَ الدُّخَانَ، وَالدَّجَّال، وَالدَّابَّةَ، وَطُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَنُزُولَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ وَيَأَجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَثَلاَثَةَ خُسُوفٍ خَسْفٌ بِالمَشْرِقِ، وَخَسْفٌ بِالمَغْرِبِ، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ العَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ مِنَ اليَمَنِ، تَطْرُدُ النَّاسَ إِلَى مَحْشَرِهِمْ" .. وفي لفظٍ: «وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قُعْرَةِ عَدَنٍ تَرْحَلُ النَّاسَ» .. وفي حديثٍ صححهُ الألباني، قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «سَتَخْرُجُ نَارٌ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ مِنْ بَحْرِ حَضْرَمَوْتَ، أَوْ مِنْ حَضْرَمَوْتَ تَحْشُرُ النَّاسَ» قَالُوا: فَبِمَ تَأْمُرُنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالشَّأْمِ» .. ومن حديثٍ متفقٍ عليه، قال النَّبِيِّ ﷺ عن هذه النار: «تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قالوا: وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا، وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أصْبَحُوا، وَتُمْسِي مَعَهُمْ حَيْثُ أمْسَوْا» ..
أيها الأحبة الكرام: عرفنا سابقاً أنَّ الساعةَ لا تقومُ إلا على شِرار الخلقِ وعبدةِ الأوثانِ، وبعدَ أنَّ تَقبِضَ الريحُ اللينةُ أرواحَ جميعَ من تبقى من المؤمنين .. ففي صحيح مسلم، "ثم يُرْسِلُ اللهُ رِيحًا باردةً من قِبَلِ الشامِ، فلا يَبْقَى على وجهِ الأرضِ أحدٌ في قلبِه مِثْقالُ ذَرَّةٍ من إيمانِ إلا قَبَضَتْهُ، حتى لو أنَّ أحدَكم دخل في كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْ عليه، حتى تَقْبِضَه، فيَبْقَى شِرَارُ الناسِ، في خِفَّةِ الطيرِ، وأحلامِ السِّباعِ، لا يَعْرِفُونَ معروفًا، ولا يُنْكِرونَ مُنْكَرًا، فيتمثلُ لهم الشيطانُ، فيقولُ: أَلَا تستجيبونَ؟ فيقولونَ: بِمَ تَأْمُرُنا؟ فيأمرُهم بعبادةِ الأوثانِ، فيعبدونَها، وهم في ذلك دارُّ رِزْقُهُم، حَسَنٌ عَيْشُهُم، ثم يُنْفَخُ في الصورِ" .. فعلى هؤلاء الاشرار تقومُ الساعةُ وينفخُ في الصور، وعندهم تنتهي الدنيا، وتبدأُ أحداثُ الآخرةِ .. والسببُ في كونِ أرضِ الشامِ هي أرضُ المحشر لهؤلاء الأشرار، أنها أرضُ الأمنِ والإيمانِ، فخيرها وبركتها لا تنقطع حتى بعد قبض المؤمنين، ولأنَّ النار التي تحشرُ الناسَ حين تنتشرُ في كل البقاع، تكونُ في جهة الشام أخفَّ من غيرها، فيقصدها الناس لذلك .. جاء في حديث صححه الالباني، قال ﷺ: "الشام أرضُ المحشر والمنشر".. ففي بداية الأمر تخرج تلك النار العظيمة من عدن، من بحر حضرموت، ثم تنتشر في كل الارجاء لتسوق أولئك الاشرار إلى بلاد الشام، وهناكَ تقومُ عليهم الساعة، ففي صحيح البخاري عن أنَسٍ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: «أمَّا أوَّلُ أشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إِلَى المَغْرِبِ» .. والحكمة من خروج هذه النار وحشرها للناس والعلم عند الله أنه نوعٌ من العذابِ لهؤلاء الأشرار في الدنيا قبل الآخرة ..
أيها الكرام: لقد سخَّر الله تعالى للبشر في هذه الازمان المتأخرة أجهزةٍ علميةٍ متقدمةٍ، ووسائلَ تقنيةٍ مُتطورةٍ، كالأقمار الصناعية، والتلسكوبات الدقيقة، والغواصاتِ الضخمة، فتمكن الانسانُ بها أن يصلَ لأماكنَ عميقةٍ جداً، ما كانَ له أن يصل بدونها، كقاع البحارِ والمحيطاتِ، وإلى أعماقٍ تزيدُ عن العشرةِ كيلومترات تحت سطحِ البحر، فاكتشفوا أنَّ هناك أخاديدَ ناريةٍ هائلة، يمتُدُ بعضها لآلافِ الكيلومترات، حتى أنهم تمكنوا من تصويرها بكل دقة .. ففي قاع البحرِ الأحمر مثلاً فالقٌ بحري طويل، يمتدُ من أوله لآخرة، وكثيرٌ من أجزاء هذا الفالق الطويل عبارةٌ عن أخاديدَ ناريةٍ مُشتعلة، تزيدُ كلما اتجهنا جنوباً، وتكونُ أكثر زيادةً قربَ باب المندب ومدينة عدن ... فهل لهذه الأخاديد الهائلةِ علاقةُ بالنار التي ستخرجُ في آخر الزمانِ وتحشرُ الناسَ إلى بلاد الشامِ .. الحديثُ الصحيحُ يشيرُ إلى أن ناراً عظيمةً ستخرجُ من قاع أرضِ عدن، وفي روايةٍ صحيحةٍ ستخرجُ نارٌ من بحر حضرموت تطردُ الناسَ إلى محشرهم .. كما أنَّ المتأمِّلَ في كتاب اللهِ تعالى، يُلاحظُ أنَّ الله جلَّ وعلا أقسمَ في سورة الطَّورِ بهذا النوع من البحار المشتعلةِ، فقال تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ}، وتأمَّل في جواب القسمِ في الآية التي تليها، قال تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} .. فالتشابهُ واضحٌ، والقرآن حمَّال أوجه، لكن لا دليلَ على الربطِ بينهما، واللهُ أعلمُ بالصواب .. وبارك الله لي ولكم ...
الحمد لله كثيراً كثيراً، والصلاة والسلام على المبعوث بالحق بشيراً ونذيراً ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه ...
أيها الأحبة الكرام: لا شك أن مُدارسةَ أشراطِ الساعةِ وآياتها .. لها فوائدٌ كبيرةٌ، وثمراتٌ عظيمةٌ .. فمن أهم فوائدها: أنَّ كثرةَ احاديثِ الفتنِ وأشراطِ الساعةِ وآياتها وتنوعِها واستفاضتها يدلُ على شِدةِ اهتمامِ النبي ﷺ بهذا الأمر، وشدةُ اهتمامه بأمرٍ ما، دليلٌ على شِدةِ خطورة هذا الأمر، وعلى ضرورة التنبُّهِ لهُ، وأخذِ الأسبابِ المنجيةِ منهُ .. ويدلُ كذلك على عِظمِ شفقةِ النبي ﷺ، وشِدةِ حرصه ونُصحهِ لأمته، فقد أكثرَ ﷺ من التَّحذيرَ من تلك الفتن العظيمة، وشدَّد على خطورتها، لتكونَ أجيالُ المسلمينَ على مرِّ العصورِ على درايةٍ تامَّةٍ بأسبابِ النجاةِ وطُرقِ السلامةِ، ولتتضحَ لهم جادةُ الصوابِ، فهو القائل ﷺ: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك" .. يقول الامام السفاريني رحمه الله: "ولما كان أمرُ الساعةٍ شديداً، وهولها مزيداً، وأمرُها بعيداً، كانَ الاهتمامُ بشأنها أكثر من غيرها، ولهذا أكثرَ النبي ﷺ من بيانِ أشراطِها وأماراتها، وأخبر عمَّا بين يديها من الفتن البعيدة والقريبة، ونبَّه أمَّتهُ وحذَّرهم ليتأهبوا لتلك العقبةِ الشديدة" .. ويقول العلامة البرزنجي رحمه الله: لذا كان حقاً على كلِّ عالمٍ أن يُشيعَ أشراطها، ويبثَ الأحاديثَ والأخبارَ الواردةَ فيها بين الأنام، ويسرُدها مرةً بعد أخرى على العوام، عسى أن ينتهوا عن بعضِ الذنوب، ويَلينَ منهم بعضُ القلوب، وينتبِهوا من سِنةِ الغفلةِ، ويغتنموا الفُرصةَ قبل نفادِ المهلة ... ومن الفوائد المهمة: أنَّ تعلُّمَ أشراطِ الساعةِ ومدارستِها، والاكثارَ من العبادات والأعمالِ الصالحة .. هاذانِ هما أقوى أسبابِ دفعِ الفتنِ، والسلامةِ منها حتى عند وقوعها .. ولذلك علَّمنا رسولُ الله ﷺ تفاصيلَ الفتن، كالوصف الدقيقِ للدجالِ، وهو أعظمُ الفتن، وصفاتِ النساءِ الكاسياتِ العاريات، وغيرها .. وقال في الحديث الصحيح: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم"، وقال في صحيح مسلم: "بادِرُوا بالأعْمالِ سِتًّا:" وذكر بعض الأشراط ... ومن الفوائد العظيمة: أنَّ مدارسةَ أشراطِ الساعةِ وآياتها يزيدُ في إيمانِ المسلمِ باليوم الآخرِ وما يتعلقُ به من أخبارٍ وغيبياتٍ، ويُساهِمُ في إيقاظِ القلوبِ من غفلتها، فإذا استيقظت القلوب وازدادَ الإيمانُ، ازدادَ المسلمُ حِرصاً على الاعمال الصالحةِ، وبُعداً عن الاعمالِ السيئة .. وفي المقابلِ فإنَّ البعدَ عن مُدارسةِ أشراطِ الساعة وآياتها، يمُدُ في الأمل، ويُضعِفُ الإيمان، ويُقلِلُ من مكانة الساعةِ وخطورتها في القلب، ويُزهِدُ في التزودِ من الاعمالِ الصالحةِ، لا سيما في هذا العصرِ الذي كثُرت فيه الملهيات ومُسببات الغفلة، فما أعظمَها من نصيحةٍ، وما أشفقهُ من ناصح صلوات الله ... ومن الفوائد العظيمة لدراسة أشراط الساعة: أنَّ وقوعَ الاحداثِ وفقَ ما اخبرَ به الصادِقُ المصدوق ﷺ يعتبرُ من أقوى مثبتاتِ الإيمانِ في القلوب، ومن أكبرِ أسبابِ زيادةِ اليقينِ بصدق ما أخبرَ به سيدُ المرسلين، وأنَّ العاقبةَ ستكونُ للمتقين، وأنَّ الخزيَ والبوارَ سيحِيقُ بالظالمين والمكذبين ... ومن أعظمِ فوائدِ تعلُّم أشراطِ الساعة، معرفةُ التَّصرفِ الصحيحِ عندَ وقوعها، كعدم الأخذِ من جبلِ الذَّهبِ، والهروبِ من الدجال وعدمِ اتيانه، ومعرفةُ الصفةِ الصحيحةِ للمهدي، وعلامةِ خروجه، إلى غير ذلك من التوجيهات والوصايا المهمَّة، التي أرشدَ إليها المصطفى ﷺ للسلامة من الفتن، والثَّباتِ على الحق ... ومن الفوائد الجميلة: بيانُ شموليةِ الإسلامِ لكل مناحي الحياة، وصلاحيتهِ المطلقةِ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، وأنَّ فيه بياناً شافياً لكل ما يحتاجهُ الناسُ من أمور دينِهم ودنياهم في كلِّ زمانٍ ومكان ... ومن الفوائد كذلك: إشباعُ فضولِ الانسانِ نحو معرفةِ أحداثِ المستقبل وما غُيِّبَ عنه، فالإنسانُ مفطورٌ على ذلك، يقول الامام ابن القيم رحمه الله: "العلم بما سيكون وما سيحدث في المستقبل، علمٌ حلو عند النفس، فلا أحد إلا وهو يتمنى أن يعلم الغيب، ويطلع عليه، ويدرك ما سوف يكون في غدٍ" انتهى كلامه رحمه الله .. وعلم أشراط الساعة وآياتها، من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله, وقد بين الله بعضه للنبي ﷺ، فبينه لنا كأننا نراه راي العين .. فالحمد الله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .. ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد