بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتقوا الله عباد الله واستمسكوا بكتاب ربكم، وتدبروا آياته لتصيبوا من بركاته، وتنتفعوا بعظاته، وتهتدوا بهداياته، وتكونوا من أهل القرآن، الذين هم أهل الله وخاصته .. {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} ..
معاشر المؤمنين الكرام: هذه هي الحلقة العاشرة من سلسلة دروس الدار الآخرة، وكنا قد تحدثنا في الحلقات الماضية عن أشراط الساعة وعلامات قربها .. وفي هذا اليوم سنتحدث بإذن الله عن قيام الساعة .. يقول الحقُّ جل وعلا في مطلع سورة الحج: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} .. ويقول جلَّ وعلا: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}، ويقول عزَّ وجلَّ: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} ... قيامُ الساعةِ يا عباد الله: هو إعلانٌ شاملٌ لإنهاء الحياة في الكون كله، وموتٌ لجميع الخلائق، وبدءِ مرحلةٍ جديدة .. فحينَ يأمرُ اللهُ جل وعلا اسرافيلَ عليه السلام بالنفخ في الصور، فقد أذن الله بقيام الساعة .. ويا لها من لحظةٍ ما أروعها .. إنها بداية نهاية الدنيا، فـ{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} ..
والصور في لغة العرب هو القرن أو البوق الذي يُنفخ فيه .. جاء في حديث صحيح: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال ما الصور؟ قال: "الصور قرن ينفخ فيه" .. قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} .. فالصور بوقٌ عظيمٌ مكلفٌ به ملك كريمٌ من الملائكة العظام المقربين، وهو اسرافيل عليه السلام، جاء في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: "أذن لي أن اتحدث عن ملكٍ من ملائكة الله تعالى، من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام" .. وقد جاء في الأثر أن سِعةَ دائرةِ البوقِ سِعةَ السمواتِ والأرض، وهذا وإن لم يثبت بحديثٍ صحيح، فإنَّ لك أن تتخيل حجمَ البوقٍ الذي يتناسبُ مع حجم ذلك الملَكِ الضخم، والذي إذا نُفخَ فيه صعِقَ ومات كُل من في السموات والأرض إلا من شاء الله .. وفي الحديث الصحيح، قال رسول الله ﷺ: " كيف أنعم وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يؤمر أن ينفخ، فينفخ" .. صححه الالباني .. والنفخ في الصور كما جاء في الآية مرتين، الأولى تسمى نفخة الصعق، والثانية تسمى نفخة البعث وسنتحدث عنها في حلقة قادمة بإذن الله ..
فقيام الساعة هو بداية الأهوال، والهلع الشديد، والروع المذهل، الذي تشيب له الولدان، وتضعُ كلُّ حاملٍ حملها، وتذهل كُل مرضعةٍ عن وليدها، وتبلغُ القلوب الحناجر، وترى الناسَ من شدة الفزع يتخبطون ويتمايلون، لا تستقيم مشيتهم، ولا تحملهم أرجلهم، يركضون فيقعون، ولا يدرون إلى أين يذهبون، يتخبطون تخبط السكارى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ .. تأمل: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} .. فالساعة ستقوم على أولئك الأشرار، وهم في معمعة الحياة وخِصامها، وأثناء تعاملاتهم العادية، وفجأة تتوقف الحياة، وتتسمر الأجساد، فلا يستطيعون بعدها أن يفعلوا شيئًا .. جاء في الحديث الصحيح: "ولتقومن الساعة وقد نشرَ الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لُقحتهِ فلا يطعمه، ولتقومن الساعة وهو يلوط حوضه، فلا يسقي منه، ولتقومن الساعة وقد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها" .. إنه أمرٌ يفوق الخيال والتصور .. قال تعالى عنها: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} .. ففي أولِ الأمرِ سترجُفُ الأرضُ كلها رجفًا شديدًا، وكأنها بدايةُ زلزالٍ مهول، ثم تُرجُ رجًا عنيفًا حتى يزولَ كلُّ ما عليها من معالم وبيوتٍ ومنشآت، ولا يبقى إلا الجبال الراسيات، ثم تُدكُّ الأرضُ دكًا متتابعًا، {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}، فتتشقق وتتباعد أجزائها عن بعضها، ويُصبحُ بينها أخاديدَ عظيمة، ثم تُحملُ هي والجبالُ فتدكُّ دكَّةً واحدةً عظيمة، وهي أعظمُ الهولِ وأشدَّهُ .. كمن يرفعُ شيئًا ثم يرمي به بقوةٍ، ليتحولُ بعدها إلى فُتاتٍ مُتناثر .. تأمَّل: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} .. وتأمَّل أيضًا: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}، ويقول جل وعلا: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}، ويقول تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} .. آياتٌ عظيمةٌ، ينبغي أن يتأملها المؤمنُ طويلًا، فالأرضُ تزلزلُ زلزالًا عنيفًا، وتُخرجُ ما في جوفِها من الحِمم والبراكين، وتقذِفُ بالنيران والمعادن الملتهبة، لمسافاتٍ بعيدة، ثم تعودُ لتغطي الأرض كلها بلهيبها السائل، في منظرٍ يخلعُ القلوب، حتى يتساءل الناسُ حينها ما لها، ما الذي جرى لها .. حتى أنَّ الجبال العظيمة، الجامدة الصلدة، التي جعلها الله رواسي وأوتادًا، كلها تتحولُ إلى سرابٍ وهباءٍ منثور، وعهنٍ منفوشٍ كالقطن، وكثيبٍ مهيلٍ كالرمل، وقاعًا صفصفًا مُتساويًا، بلا قنابل ولا متفجرات، ولا آلات ولا طائرات، وإنما بأمر ربها الذي أوحى لها .. {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} .. ويقول سبحانه في سورة الواقعة: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} .. ويقول تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} .. ويقول جل وعلا: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} .. ويقول في سورة القارعة: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} .. آياتٌ كثيرةٌ تدل على أنَّ أمرًا عظيمًا سيحدثُ لهذه الجبال الضخمة، والرواسي الشامخة، فيحولها إلى سرابٍ وهباءٍ وعهنٍ منفوشٍ، وكثيبٍ مهيل، وقاعًا صفصفًا، لا ترى فيه عوجًا ولا أمتا .. وليست البحار بأقلَ حظًا من الجبال .. فعند قيام الساعة ستتحولُ جميع البحارُ بكلِّ ما فيها إلى دمارٍ وخرابٍ مروع، وخنادق هائلةٍ من النار الملتهبة، تُسعَّرُ وتُسجَّر، وتشتعِلُ فيها النيران اشتعالًا، فتبدو معها الأرض كُلها وكأنها كُرةٌ من النار المشتعلة .. قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}، وقال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}، وقال تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} ...
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
معاشر المؤمنين الكرام: قيامُ الساعةِ لا يختصُ بالأرض وحدها، بل يشملُ الكونَ كله، بكل ضخامتهِ الهائلة، واتساعهِ المذهل، وبكلِّ ما فيهِ من أفلاكٍ ومجرات، ونجومٍ وكواكب، وما الأرضُ بكلِّ ما عليها إلا نقطةٌ صغيرةٌ بين مليارات المجرات .. ولكي نتصور شيئًا من ضخامة هذا الكون الهائل، فإن هذه الشمس التي نرها بوضوح، تبعد عنا قرابة الـ 150 مليون كم، بمعنى أنه لو أراد أحدٌ أن يقطعَ هذا المسافةَ بالطائرةِ مثلًا، فسيحتاج إلى طيرانٍ مستمرٍ لمدةِ 15 عامًا، فكيف بما هو أبعد من النجوم البعيدة .. إنها مسافات هائلة سحيقة يصعب تصورها ... تأمل ماذا يقول الله تعالى عن هذه السموات العظيمة، قال تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} .. وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} .. وقال جل وعلا: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} .. وقال سبحانه وبحمده: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} .. وقال تبارك وتعالى: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} .. وقال سبحانه: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} .. وقال سبحانه: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} .. فهذه السماوات العظيمة رغم نظامها المحبوك المتماسك، ورغم بناءها الشديد المحكم، ورغم اتساعها الهائل الفسيح، وبكل ما فيها من مجراتٍ ونجومٍ وكواكب لا تعد ولا تحصى .. إلا أنها إذا قامت الساعة تصبحُ ضعيفةَ واهية، متشققة متداعية، تتفتح أبوابها، وتنفرج أطرافها، وتتفطر أجزائها، وتتناثر أجرامها، وتنكسف أقمارها، وتنكدر نجومها، وينطمس ضوئها، وتكشط طبقاتها، فتمور السماء مورًا، وتطوى كطي السجل للكتب طيَّا .. يقول الحق جل وعلا: {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا}، ويقول تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ}، ويقول سبحانه: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}، ويقول تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ}، ويقول سبحانه: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} ..
فكل شيء يا عباد الله ينصاعُ لأمر الجبار جل وعلا .. الكون كله وبكل ما فيه من أصغر ذرة وإلى أكبر مجرة ينصاع لإرادة خالقة تبارك وتعالى .. اعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ * وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد