مرحبًا يا رمضان


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

اتقوا اللهَ عباد الله واعلموا أنَّ في القلبِ شعثٌ، لا يلمّهُ إلا الإقبالُ على الله، وفيهِ وحشةٌ، لا يُزِيلُها إلا الأُنسَ بطاعة اللهِ، وفيهِ قلقٌ وحزنٌ، لا يُذهبهُ إلا إدامَةُ ذِكرِ اللهِ، وفيهِ فاقةٌ، لا يسُدُّها إلا محبةُ اللهِ والإنابةِ إليهِ.. {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.. وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}..

معاشر المؤمنين الكرام: لا شكَّ أنَّ شهرَ رمضانَ المبارك، هو أعظمُ مواسِمِ المؤمنِ وأغلاها، وأفضلِها وأشرفِها وأزكَاها.. إنهُ موسمٌ نفيسٌ جليل، ليسَ لهُ في المواسمِ شبيهٌ ولا مثيل.. فأهنِئكم أحبتي في الله ونفسي بقربِ قدومه.. وأبشركم كما كانَ المصطفى يبشرُ أصحابه فيقول: "أتاكم رمضان، شهرٌ مبارك، فرضَ اللهُ عليكم صيامه، تُفتحُ فيه أبوابُ السماء، وتُغلَّقُ فيه أبوابُ الجحيم، وتُغلُّ فيه مردةُ الشياطين، للهِ فيه ليلهٌ خيرٌ من ألف شهر، من حُرمَ خيرها فقد حُرم".. ويقول : "أتاكُم شهرُ رمضان، شهرُ بركةٍ، يغشاكُمُ الله فيه برحمتِه، ويحُطُّ الخطايا، ويستجيبُ الدعاءَ، ينظرُ إلى تنافُسِكُم فيه، ويُباهي بِكُم ملائكتَه، فَأروا الله مِن أنفُسَكُم خيرًا، فإن الشقيَّ من حُرِمَ رحمَة الله"..

إنها يا عباد الله بِشاراتٌ عظيمةٌ.. وحقَّ للمؤمن أن يُبشرَ بشهرٍ مُليءَ بالخيرات والبركات، وتزايدِت فيه النفحاتُ والرحمات، وضُوعِفت فيه الحسناتُ والدرجات، حُقَّ للمؤمن أن يُبشرَ بليلةٍ مميزة، فهي خيرٌ من ألف شهر، من حُرمَ خيرها فهو المحروم حقًا،  حُقَّ والله للمؤمن أن يُبشرَ بموسمٍ عجيب، تتضاعفُ فيه فُرصُ الربحِ والنجاح، وتكثرُ عوامِلُ التشجيعِ والمرغبات، وتُزالُ عنهُ المعوقاتُ والمثبطات.. فَمَرَدَةُ الشياطينِ قد صُفِّدت، وسحائِبُ الإيمانِ قد هبَّت وأقبلت، وبيوتُ اللهِ قد ازدانت وتهيَّئت، ونفحاتُ الرحمنِ دنت وتنزَّلت، ودعواتُ المسلمين قد لهجت وصعدت.. والنفوسُ قد تشوَّقت وترقَّبت، والربُّ الرؤوفُ الرحيمُ جلَّ وعلا، قد أكرمنا بعفوِه وحِلمِه، وغمرنا بمغفرتِه وسِتره.. ينادينا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.. ويؤكدها لنا بصيغة المبالغة: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}، "يبسُطُ يدَهُ بالليل ليتوبَ مسيءُ النّهارِ، ويبسُطُ يدَهُ بالنهار ليتوبَ مسيءُ الليل"، وينادي جلَّ وعلا: "يا ابنَ آدم، إنّك ما دعوتني ورجَوتني، غفرتُ لك على ما كان منك ولا أُبالي.. يا ابنَ آدم، لو بلغَت ذنوبك عَنانَ السماءِ، ثم استغفرتني، غفرتُ لك.. يا ابنَ آدم، إنك لو أتيتني بقرابِ الأرض خطايا، ثم لقيتَني لا تشرِك بي شيئًا، لأتيتُك بقرابها مغفرةً"..

فحري بنا يا عباد الله: أنَّ نقْدِرَ لرمضان قدْرَه، وأنَّ نعرفَ له شرفَهُ وفضلَه، وأنَّ نستقبلهُ أحسنَ استقبال، ونفرحَ بقدومه غاية الفرح، وأنَّ نستعِدَّ له أحسنَ استعداد، وأنَّ نُقبِلَ عليه أفضلَ إقبال..

فمرحبًا يا رمضان، شهرُ الخيرِ والبركةِ والإحسان، شهرُ التقوى والهدى والإيمان، شهرُ التوبة والأوبة، شهرُ البشائرِ والذخائر، شهرُ الرحمات والنَّفحات، شهرُ الغُفرانِ والعتقِ من النيران، في الحديث الصحيح، قال : "من صامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ لهُ ما تقدمَ من ذنبه"، وقال : "من قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ لهُ ما تقدمَ من ذنبه"، وقال : "من قامَ ليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفرَ له ما تقدمَ من ذنبه"..

مرحبًا يا رمضان، شهرُ القُربِ والطاعة، شهرُ الفرجِ والشفاعة.. ففي حديثٍ صحيح، يقولُ النبي : "الصيامُ والقرآنُ يشفعانِ للعبد يومَ القيامةِ، يقولُ الصيامُ: أي ربِّ منعتهُ الطعامَ والشهوات بالنَّهار فشفعني فيه، ويقولُ القرآنُ: منعتهُ النومَ بالليل فشفعني فيه، قال: فيُشَفَّعان"... مرحبًا يا رمضان، شهرُ الصبرِ والإخلاص، شهرُ الفضلِ والاختصاص، ففي الحديث الصحيح: "كُلُّ عملِ ابن آدمَ يُضاعفُ، الحسنةُ بعشر أمثالها إلى سُبعمائةِ ضعفٍ، قال اللهُ عزَّ وجلَّ: إلا الصوم، فإنهُ لي وأنا أجزي به".. وفي محكم التنزيل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}..

مرحبًا يا رمضان، شهرُ الفرحةِ والبهجة.. ففي صحيح مُسلم يقول النبي : "للصائم فرحتانِ يفرحهما: إذا أفطرَ فرحَ بفطره، وإذا لقي ربهُ فرحَ بصومه"..

مرحبًا يا رمضان، شهرُ الكرمِ والعطاء، شهرُ إجابة الدعاء.. ففي الحديث الصحيح، يقولُ النبي : "ثلاثُ دعواتٍ مُستجاباتٍ: دعوةُ الصائم، ودعوةُ المظلوم، ودعوةُ المسافر"..

إنها يا عباد الله مُناسبةٌ غاليةٌ غالية، وأوقاتٌ نفيسةٌ جِدُّ نفيسة، فهل من مُدكر، وهل من مستعدٍ ومُشمِّر.. فالسعيدُ واللهِ من اغتنمها، وبالطاعة عَمرَها واستثمرَها.. وواللهِ لو قيلَ لأهل القبورِ تمنّوا.. لتمنوا يومًا من رمضان.. فيا من أدركَ رمضان، استشعر قيمةَ ما وُهِبَ لك، وبادِر وقتك، واستثمر فُرصتك.. واعلم أنَّ اللهَ جلَّ جلالهُ يدعوك للمُسَابَقَةِ في الخيرات، وَيدعوك للمُنَافَسَةِ والمُسَارَعَةِ في الطاعات، يقولُ جلَّ وعلا: {فَاستَبِقُوا الخَيرَاتِ}، وَيقَولَ تعالى: {وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرضُ أُعِدَّت لِلمُتَّقِينَ}.. وَيقَولُ تبارك وتعالى: {سَابِقُوا إِلى مَغفِرَةٍ مِن رَبِّكُم وَجَنَّةٍ عَرضُهَا كَعَرضِ السَّمَاءِ وَالأَرضِ أُعِدَّت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ}.. وَيقَولُ سبحانهُ وبحمده: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * في جَنَّاتِ النَّعِيمِ}.. وتَأَمَّلُوا عِبَادَ اللهِ قَولَ رَبِّكُم جَلَّ وَعَلا: {مَن ذَا الَّذِي يُقرِضُ اللهَ قَرضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أضعافًا كَثِيرَةً}، لِتَعلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَدِ استَقرَضَكُم أَموَالَكُم، وَأَعمَارَكُم، وَأَعمَالَكُم، لِيُوَفِّيَكُم أَجَورَكُم، وَيُضَاعِفَ حَسَنَاتِكُم.. فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله، وَاستَعِدُّوا لرمضان، وَاعقُدُوا العَزمَ عَلَى المُتَاجَرَةِ مَعَ اللهِ بِأَحسَنِ مَا تَجِدُونَ...

{إِنَّ الَّذِينَ يَتلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقنَاهُم سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرجُونَ تِجَارَةً لَن تَبُورَ * لِيُوَفِّيَهُم أُجُورَهُم وَيَزِيدَهُم مِن فَضلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}..

 

الحمد لله كما ينبغي لجلاله وجماله وكماله....

معاشر المؤمنين الكرام: تخيلوا رجلًا مسكينًا مُحتاجًا، يمرُّ عليهِ تاجرٌ كريم، فيقولُ لهُ افتح جيبك لأملئه لك ذهبًا، فيقولُ له المحتاج، ليس لي جيوب، فيقولُ لهُ المحسنُ فأتني بوعاءٍ أملئهُ لك، فيقولُ المسكين، ليسَ عندي وعاءٌ، فيمضى المحسنُ دونَ أن يغنمَ المسكينُ منه شيئًا.. ليصبحَ هذا المحرومُ بعدها مضرَبًا للمثل في دناءة الهمَّةِ، وبلادة العجز: خُذ يا فقير، قالَ ليسَ معيَ ماعون..

وصدق من قال: ولم أرَ في عيوب الناسِ عيبًا – كعجز القادرينَ على التَّمام.. هذا هو واللهِ يا عباد الله، ما حذرنا منهُ المصطفى بقوله في الحديث الصحيح: "أتاني جبريل فقال يا محمد: من أدركَ شهرَ رمضان فمات ولم يُغفر له فأُدخلَ النار فأبعدهُ الله، قل: آمين، فقلت آمين"... فاستعيذوا بالله يا عباد الله: أن تمرَّ بكم مواسِمُ الخيرِ وفرصُ السعادة، ثم لا تَزدادون هُدىً، ولا ترعوونَ عن هوىً.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : "بمحلوف رسولِ اللهِ ما أتى على المسلمين شهرٌ خيرٌ لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهرٌ شرٌّ لهم من رمضان، ثمَّ قال في نهاية الحديث: هو غُنمٌ للمؤمن، ونِقمةٌ للفاجر)..

رمضانُ أحبتي في الله فُرصةٌ وأيّ فرصة، زمانٌ وأيُّ زمان، إنه موسِمٌ عظيمٌ، يدعونا للجدِّ والعمل، وتركِ التَّواني والكسل.. فلنستنفر يا عباد الله، كل طاقاتنا ووسعنا، ولنستثمر كل أوقاتنا وقدراتنا، عسى أن نوفق فيرضى عنا ربُّ العالمين.. وعسى أن لا نفرط فنكون من المحرومين الخاسرين..

رمضانُ أيها الكرام، كما قال جلَّ وعلا: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ}، فلنجِدَّ ونجتهدَ في اغتنامها بالخيرات، ولنسارع في عِمارتها بالصالحات، ولنحذر أن يضيعَ شيئًا منها في التفاهات والترهات.. الله.. الله يا عباد الله.. أروا الله من أنفسكم خيرًا..

فها هي أسواق الآخرة قد فتحت أبوابها فأين هم المتاجرون؟!

وها هي الجوائز الكبرى قد أعلنت فأين المتسابقون المتنافسون؟!

وها هي الرحمات والبركات تتنزل، فأين المشمرون المثابرون ؟!

ها هي أبواب الجنة قد فتحت، فأين المسارعون المجتهدون ؟!

ها هي أبواب النيران قد غلّقت، فأين التائبون النادمون ؟!

وها هي مردة الشياطين قد صفدت، فأين المجدون العازمون ؟!

فيا من يطمع في المغفرة وقبول التوبة.. ها قد أقبل رمضان.. فماذا نويتَ وقرَّرت ؟!.. وعلام عزمتَ واجمعت ؟!..

ألا فاتقوا عباد الله في هذه الفرصةِ الغالية، وحفزوا هممكم، وشدّوا عزائمكم، وابذلوا قصارى جهدكم، وأروا الله من أنفسكم خيرًا، وعليكم بالصبر والمصابرة، والجدّ والمثابرة.. فبالجدِّ والاجتهاد فاز من فاز، وسعُدَ من سعُد.. {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ}..

فعاهد نفسك يا عبد الله: لئن بلغني اللهُ رمضان: ليَرينَّ اللهُ ما أصنع.. ولئن بلغني اللهُ رمضان: لأصحبنَّ كتاب اللهِ ليلًا ونهارًا، تلاوةً وحفظًا وتدبرا.. ولئن بلغني اللهُ رمضان: لأذكرن الله ذكرًا كثيرًا، ولأسبحنَّهُ بكرةً وأصيلًا.. ولئن بلغني اللهُ رمضان: لأحافظنَّ على تكبيرة الإحرام مع الإمام.. ولئن بلغني اللهُ رمضان: لاجتهدنَّ في طاعة الرحمن، وإغاضةِ الشيطان، وأعداءِ الإيمان.. ولئن بلغني اللهُ رمضان: لأحافظنَّ على الأوقات، ولأقاطعنَّ الشاشات، ولأهجرنَّ المنكرات، وكُلُّ ما يحرقُ الحسنات..

عاهد نفسك يا عبدالله.. ف{من المؤمنينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}.. ومَا أَحسَنَ عَاقِبَةَ الصِّدقِ مَعَ اللهِ يا عباد الله: فوَاللهِ مَا مِن عَبدٍ يَطَّلِعُ اللهُ عَلى قَلبِهِ.. فَيَرَى أَنَّهُ صادق.. يُرِيدُ الفَوزَ في رَمَضَانَ.. إِلاَّ أَعطَاهُ اللهُ مُرَادَهُ.. كيف لا وهو الذي يفرحُ بتوباتنا، ويتقرب إلينا أكثرَ مما نتقربُ إليه.. ففي الحديث القدسي الصحيح: "من تقرب مني شبرًا تقربت منه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هروله".. فَالصِّدقَ الصِّدقَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، فَعَلَى قَدرِ الصِّدقِ يَكُونُ الفَوزُ والفلاح، قال سُبحَانَهُ: {فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ}.. فاصدقوا اللهَ يصدقكم.. اصدقوه يا عباد الله يصدقكم، واستقبلوا شهركم بتوبة خالصةٍ نصوح، وعودةٍ قويةٍ صادقة، ونيةٍ في الخير عازِمةٍ جازِمة، استروحوا روائِح الجنان، وتعرضوا للنفحات الكريم الرحمن، وتزودوا بزاد التقوى والإيمان.. بلغني الله وإياكم شهر البر والإحسان، وجعلنا فيه دومًا من أهل الذكر والقرآن..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان..

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply