بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
السمات العامة، ومرتكزات المعالجة: خصائص وسمات القواعد الفقهية:
لعله من الأهمية بمكان في مستهل هذا البحث الإشارة إلى أن القواعد والضوابط الفقهية بشكل عام إنما وضعت لتقريب استيعاب المسائل الشرعية، خاصة في جزيئات الفقه المشتهرة بين أهل العلم ب: (علم الفروع)، وهي تتميز بمجموعة من الخصائص، من أهمها:
1 - أنها صياغة بشرية: وضعها الفقهاء استنباطا، وهذا يجعل حصر جميع متعلقاتها الشرعية أمرا فوق الطاقة البشرية [1]، ومن ثم فهي أغلبية تشمل معظم الجزئيات التي تتعلق بها وليست كلية، والغاية من وضعها أن: تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه من مآخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد, وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كل متباعد.
2 - أنها نسبية: شأنها شأن كثير من الضوابط العلمية في اللغة والنحو والقراءات، التي وضعت في وقت متأخر عن نشوء العلم المعين [ص: 31] الذي يتلقى تلقيا، وحاول واضعوها إدخال عدد من الجزئيات العلمية فيها، ولذا تجد أن أهل ذلك الفن يكثرون من الاستثناءات من ذلك الضابط في فنهم. ومن ثم فقد يقال بأن القاعدة الفقهية المعينة صحيحة بالنسبة لهذه الجزئية غير صحيحة بالنسبة لأخرى، ويترتب على هذا أن يستعان بالقاعدة للرجوع إلى النص المتعلق بها، ويجعل القاعدة الفقهية محل استشهاد لا استدلال.
3 - أن فهمها إنما يكون بحسب ما يفهم منها أصل الوضع لا بحسب ما يعطيه العقل من ظاهر لفظها: مما يعني عدم الاغترار بما يظهر من تعميم لعبارات أهل الفنون واصطلاحاتهم وتطبيقها على القضايا المتناولة مع عدم بذل الجهد في معرفة طبيعة القاعدة، وقرائنها الحالية المصاحبة، وأصل وضعها.
4 - أهمية الحذر من الانسياق إلى التعميم في الأدلة والقواعد قبل الفحص: ذلك أن كثيرا من نصوص القواعد الفقهية توهم العموم المطلق، وهذا يحتاج إلى التروي فيه. وإذا كان العموم المطلق في الأدلة الشرعية مما يتروى في الاستدلال به فأولى أن يكون ذلك في القواعد الفقهية البشرية الوضع ، وقريب من هذا أن ظاهر بعض القواعد الفقهية ذاته قد يكون خاضعا لعصر معين أطلقت فيه تلك القاعدة: ومثلها القواعد الأصولية فمصطلح: (سنة)، تختلف دلالتها الأصولية والفقهية الخاصة عن معناها [ص: 32] الشرعي العام، ومن ذلك قول ابن عباس : الله أكبر سنة أبي القاسم [2] في حج التمتع؛ يعني بها: طريقة النبي صلى الله عليه وسلم الشاملة للوجوب والاستحباب، ومثله قول ابن مسعود : «ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم» [3]... بينما هي في اصطلاح الأصوليين مرادفة للمندوب غالبا.
5 - لا بد من مراعاة التطور الدلالي في فهم القواعد الفقهية [4] : لأن دلالة الخطاب إنما تكون بلغة المتكلم وعادته المعروفة في خطابه، لا بلغة وعادة واصطلاح أحدثه قوم آخرون بعد انقراض عصره وعصر الذين خاطبهم بلغته وعادته كما قال سبحانه وتعالى : (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) (إبراهيم:4)” [5].
وهذا كله يوجب على المستشهد بقاعدة فقهية أو ضابط علمي أن يلتزم نوعا من الورع القلبي والعلمي الخالص؛ لكي يتمكن من الوصول إلى البينة الحقيقية في المسألة محل البحث لا أن ينقاد للهوى المزين كأنه بينة.
كما قال سبحانه وتعالى : (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم) (محمد:14). [ص:33]
6 - بناؤها على أساس النصوص: فالنص الشرعي هو مرجع القواعد الفقهية، وإليه تحاكم، فلا يغالى فيها حتى يحاكم النص إليها، فإذا جاءت القاعدة مخالفة للنص الشرعي اطرحت واتبع النص الشرعي ضرورة؛ إذ كيف تعود على أصلها بالإبطال؟
7 - بعض القواعد الفقهية مجرد ضوابط لفهم نص بعينه أو مجموعة نصوص، وليست قواعد مطردة: ومن ذلك مثلا قاعدة: “النص الوارد على خلاف القياس يقتصر على مورده”، أوردوها لفهم جواز بيع السلم، وبيع الاستصناع، وبيان وجود نص دل على جوازهما مع أنهما على معدوم، بخلاف غيرهما من العقود التي تكون على معدوم فتدخل في إطار نص آخر يمنعها، فالقاعدة هنا مجرد بيان لعدم جاز القياس على هذين العقدين [6].
8 - التقابل بين القواعد الفقهية الذي يؤدي إلى التكامل: ذلك أنه بسبب النسبية والوضع البشري في القواعد الفقهية، ولكونها أغلبية فإن كل قاعدة يقابلها - في الغالب- قاعدة أخرى، حتى يتم ضبط المسائل الشرعية من جميع الجوانب المأمور بها [7]، ومثال ذلك: قاعدة “الضرورات [ص: 34] تبيح المحظورات” لم تف بضبط النص الذي هو أصلها، وهو:(فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه) (البقرة:173)، فأردفوها بقاعدة أخرى تكملها وتضبطها، وهي: “ما أبيح للضرورة يقدر بقدرها”.
وفي ضوء هذه الخصائص والسمات منع أهل العلم الإفتاء المحض بموجب القواعد الفقهية دون تدبر في أصولها النصية، وتحرير لمحل الفتوى: هل يدخل في هذه القاعدة أو تلك، ولذا قال الإمام ابن نجيم : لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط؛ لأنها ليست كلية بل أغلبية، وقال ابن دقيق العيد : الفروع لا يطرد تخريجها على القواعد الأصلية [8].
وعلى هذا أيضا تكون القواعد الفقهية محل استشهاد لا استدلال [9]، ولا يصح للمفتي أن يرد استدلاله على فتوى معينة إلى هذه القاعدة أو تلك، بل يستعين بالقاعدة للرجوع إلى النص المتعلق به، إلا أن يكون متأكدا من دخول الجزئية المعينة تحت هذه القاعدة، مع الأخذ بعين الاعتبار ما سبق من خصائص القواعد الفقهية، فلا بأس على ما هو الشائع في فتاوى أهل العلم. [ص: 35]
مرتكزات المعالجة تتمحور المرتكزات الرئيسة لمعالجة هذا الموضوع حول أربعة مفاهيم وأسس عقدية إيمانية، هي:
- الاستسلام لله رب العالمين.
- الأخوة الإسلامية، ولزوم جماعة المسلمين العامة.
- الاجتهاد في طلب الهدى الشرعي.
- اختلاف الآراء طبيعة بشرية، وفطرة إلهية.
أولًا: الاستسلام لله رب العالمين:
الاستسلام لله رب العالمين معنى يكشف عن سر تسمية الدين الحق ب: (الإسلام)، ذلك أن هذه التسمية تحوي في طياتها معاني: «الانقياد، وإظهار الخضوع» [1]، والإخلاص وكمال الاتباع... ولذا فما يقال: فلان مسلم، إلا لأنه يحمل معنيين:
أحدهما: أنه المستسلم لأمر الله. والثاني: أنه المخلص لله العبادة [2]، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين) (الزمر:11- 12). [ص: 36] ولأن الأمر كله لله فإن المسلم المستسلم لربه كثيرا ما يردد في أول صلاته:
(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) (الأنعام:162- 163)
[3] من أجل ذلك كان الاستسلام والانقياد للأمر الشرعي من صفات المؤمنين في مقابل صفات المنافقين كما في قوله سبحانه وتعالى : (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون) (النور:51).
وبذلك تظهر منافاة الإسلام ومنهج المسلمين في التلقي لكل تصور فكري أو حركة عملية يظهر فيهما شائبة تمرد على إرادة الله سبحانه وتعالى الكونية القدرية، أو أمره الشرعي الواجب، إما منافاة كلية وإما منافاة جزئية بحسب الواقع.
وينتج عن هذا الأساس أساس آخر هو: قداسة النص المعصوم (القرآني والنبوي الصحيح)، فيكون للنص المعصوم تعظيمه وتقديسه، وهيبته، فلا يستحيي المسلم - بمقتضى ذلك- أن ينعت بأنه رجل (نص)، أو أن مجتمعه (مجتمع نصي أو نصوصي)، ولا يفر من التسليم للنص ببعض العبارات التي لا تنتمي للنص [4]، ويكفي أن الرضا بأمر الله سبحانه وتعالى وقضاء [ص: 37] رسوله صلى الله عليه وسلم، وانتفاء شائبة الحرج الصدري هو دليل وجود الإيمان لا غير،كما قال سبحانه وتعالى : (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء:65).
ثانيًا: الأخوة الإسلامية:
وأما الإخوة الإسلامية فدعامة أساسية من الدعائم التي يقوم عليها الدين، ويتربى عليها المسلمون، ولذا ذكر الله أخوة الدين، باعتبارها: أعظم النعم التي أمتن بها على المسلمين في قوله:(واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم) (آل عمران:103- 105).
أعظم النعم التي امتن بها الله على النبي صلى الله عليه وسلم في قوله سبحانه وتعالى : (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم) (الأنفال:62- 63) [ص: 38] "وذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالمعنى ذاته فئة من المسلمين فقال: يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي، وعالة فأغناكم الله بي؟" [1].
من أسباب إقامة أمر الدين؛ ذلك أن الاجتماع على إقامة الدين هي وصية الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة ومن سبقها من أمم الأنبياء،كما قال الله تعالى: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه) (الشورى:13). لقد بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين، والألفة والجماعة، وترك الفرقة والمخالفة [2]، كما أن في ذلك توجيها بأن لا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلف اليهود والنصارى، أو كما كنتم متفرقين فى الجاهلية يحارب بعضكم بعضا [3].
وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم نعمة الاجتماع والألفة والأخوة في أظهر ما يجتمع عليه المسلمون فقال:"اقرءوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه" [4] ؛ أي: اقرأوا والزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه، فإذا وقع الاختلاف أو عرض عارض شبهة تقتضي المنازعة الداعية إلى الافتراق فاتركوا القراءة وتمسكوا بالمحكم الموجب للألفة، وأعرضوا عن المتشابه المؤدي إلى الفرقة [5]. [ص: 39] والأخوة في الدين حقيقة قاطعة، ترد إليها كل مسألة ظنية محتملة، فالإسلام آخى بين المسلمين ووحدهم، فهو: بمعنى تحالف شامل لكل المسلمين، يقتضي التناصر والتعاون بينهم على من قصد بعضهم بظلم [6]، لقوله تعالى: (إنما المؤمنون إخوة) (الحجرات:10)،وقوله: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة:71).وقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". [7]، وقوله صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". [8]، وقوله صلى الله عليه وسلم : "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره". [9]، وقوله صلى الله عليه وسلم :"المؤمن أخو المؤمن، فلا يحل للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر". [10]، (وقوله صلى الله عليه وسلم : "المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم" [11].فمن توفرت فيه هذه الصفات الإيمانية بحسب ظاهره كان أخا لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه، وإن لم يجر بينهما عقد خاص، فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما بما سبق.
والمؤمن الذي تثبت له أخوة الإيمان هو الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: [ص: 40]" من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله، فلا تخفروا الله في ذمته" [12]، ففي هذا الحديث المحكم: أن أمور الناس محمولة على الظاهر، فمن أظهر شعار الدين أجريت عليه أحكام أهله ما لم يظهر منه خلاف ذلك [13].
ويتفرع عن هذا الأساس أسس أخرى، منها:
1 - النصوص من الآيات والأحاديث التي وردت في الأخوة الإيمانية أو تحدثت عن الجماعة ولزومها إنما وردت في الأخوة العامة، ولا يحل لأحد أن ينزلها على الأخوة الخاصة مع مصادرة مدلوها العام، أو أن يستدل بها على أخوة لحزب أو تنظيم أو جماعة إسلامية، أو مذهب فكري، أو فقهي.
2 - مشروعية الأخوة الخاصة بحيث تحكمها الأخوة العامة، الأخوة الإسلامية العامة مقدمة على كل إخاء جزئي، أو عقد تحالف خاص في حال التعارض، والأصل أن الأخوة الخاصة إنما تكون لزيادة التثبيت على مبادئ الإسلام والقيام بها، وعلى رأس تلك المبادئ التي يلزم القيام بها النصح للمسلمين والقيام بحقوقهم، فإذا كانت هذه الحقيقة مستقرة فلا بأس من الإخاء الخاص في ضوء ذلك كما قال النووي : المؤاخاة في الإسلام، والمحالفة على طاعة الله، والتناصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى وإقامة الحق، هذا باق لم ينسخ... وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : "وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة"، وأما قوله صلى الله عليه وسلم :"لا حلف في الإسلام" فالمراد به: حلف التوارث، والحلف على ما منع الشرع منه[14] [ص: 41]
3- الأخوة الإسلامية العامة ثابتة بحقوقها وواجباتها، مهما ظهر من اختلاف فرعي بين المسلمين، فالأخوة الإسلامية ولزوم جماعة المسلمين، والحرص على بقاء ذات البين متسامية عالية يهيمن عليها الحب، وتطغى عليها الألفة ركيزة من ركائز الدين، وشعيرة عامة من شعائره: (فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) (الأنفال:1)، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا". [15]، "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" [16]، وقال: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى. قال: صلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة". [17]. ومن ثم فإن حقوق المسلم على المسلم ثابتة، مهما اختلف معه في وجهة نظر، أو مسألة فرعية، ومن حقوقه عليه أن ينصحه مع اصطحاب الرفق والحب واللين والحكمة والموعظة الحسنة حال خلافه في مسألة فيها دليل شرعي على خلاف ما ذهب إليه. وعند حدوث اجتهادات في مسألة محتملة تتفاوت فيها المدارك، وتتجاذبها الأدلة فلزوم الجماعة حقيقة قاطعة، تقدم على ما قد [ص: 42] يثيره الاختلاف الطبعي بين المسلمين، فلا يثير الاختلاف رغبة تفرق، وإرادة بغض.
ومن الحوادث التي تنسحب عليها هذه القاعدة، ما جاءعن سعد بن أبي وقاص قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاءته جهينة، فقالوا: إنك قد نزلت بين أظهرنا، فأوثق لنا حتى نأتيك وتؤمنا. فأوثق لهم فأسلموا، قال: فبعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رجب ولا نكون مائة، وأمرنا أن نغير على حي من بني كنانة إلى جنب جهينة، فأغرنا عليهم، وكانوا كثيرا، فلجأنا إلى جهينة فمنعونا، وقالوا: لم تقاتلون في الشهر الحرام؟ فقلنا: إنما نقاتل من أخرجنا من البلد الحرام في الشهر الحرام. فقال بعضنا لبعض: ما ترون؟ فقال بعضنا: نأتي نبي الله صلى الله عليه وسلم فنخبره. وقال قوم: لا، بل نقيم هاهنا. وقلت أنا في أناس معي: لا بل نأتي عير قريش فنقتطعها. فانطلقنا إلى العير وكان الفيء إذ ذاك من أخذ شيئا فهو له، فانطلقنا إلى العير وانطلق أصحابنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه الخبر، فقام غضبانا محمر الوجه، فقال: "أذهبتم من عندي جميعا وجئتم متفرقين؟ إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة، لأبعثن عليكم رجلا ليس بخيركم، أصبركم على الجوع والعطش". فبعث علينا عبد الله بن جحش الأسدي، فكان أول أمير أمر في الإسلام) [18]. فقد اختلف الصحابة هنا على ثلاثة اجتهادات، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كره تفرقهم، وعدم اجتماعهم.
إن الأخوة الخاصة توثق القيام بواجبات الإسلام القطعية، ومنها أخوة [ص: 43] المسلمين العامة، ذلك أن الأصل في عقد الأخوة الخاصة - وهي التي كان يسلكها أتباع المذاهب قديما، وأتباع الجماعات والأحزاب حديثا، وأصحاب الصداقات الخاصة عموما- أن تكون أول أبجدياتها القيام بواجبات الإسلام، وعلى رأسها التزام حقوق المسلمين عموما، وهي الحقوق التي وجبت بمقتضى الأخوة الإيمانية التى أثبتها الله جل جلاله بين المؤمنين عموما، فهذه الحقوق واجبة بنفس الإيمان، والتزامها بمنزلة التزام الصلاة والزكاة والصيام والحج، والمعاهدة عليها كالمعاهدة على ما أوجب الله ورسوله، وهذه ثابتة لكل مؤمن على كل مؤمن وإن لم يحصل بينهما عقد مؤاخاة [19]. فمن كان قائما بواجب الإيمان كان أخا لكل مؤمن، ووجب على كل مؤمن أن يقوم بحقوقه وإن لم يجر بينهما عقد خاص، فإن الله ورسوله قد عقدا الأخوة بينهما [20].
واجتماع بعض المسلمين على طاعة الله ضمن إطار خاص لا يسقط حقوق الأخوة العامة، ولا يسول لهم التعصب لمن دخل فى حزبهم بالحق والباطل، والإعراض عمن لم يدخل فى حزبهم؛ سواء كان على الحق أو الباطل، فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان [21]. [ص: 44]
ثالثًا: الاجتهاد في طلب الهدى الشرعي:
وأما الاجتهاد في طلب الهدى الشرعي، فذلك ببذل الجهد الشرعي - من أهله- للوصول إلى الهدى المستقيم في نصرة الله عز وجل : وهذا يقتضي - مما يقتضيه- إعمال العقل في البحث عن مراد الله سبحانه وتعالى في كلامه أو كلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وإعمال الجوارح في القيام بما يحب الله عز وجل، وفي ذلك يقول الله سبحانه وتعالى : (ولينصرن الله من ينصره) (الحج:40)، (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) (محمد:7)، ونصرة الله عز وجل تشمل القيام بدقائق الإسلام وجلائله؛ إجهادا للنفس في الوصول إلى مراد الله سبحانه وتعالى، مما يؤدي إلى الاستقامة على الهدى المستقيم:(وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم) (الحج:54)، (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) (العنكبوت:69)، ولذا عرف صاحب (مسلم الثبوت) الاجتهاد: بأنه بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني [1].
ولكن هذا الإعمال للعقل والجوارح ابتغاء مرضاة الله عز وجل مقيد بالضوابط العلمية لفهم النصوص؛ وهي ضوابط جمعت من استقراء النصوص، ومقيد كذلك بكيفية فهم الرسول صلى الله عليه وسلم للنصوص وتطبيقه لها، وكيفية اتباع الصحابة رضي الله عنهم لذلك؛ إذ قد شرفهم الله سبحانه وتعالى بصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، فتأهلوا لتأويل نصوص الوحي المعصوم، ووضعه في مواضعه بما لم يتأهل له غيرهم، كما قال إبراهيم [ص: 45] التيمي : خلا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذات يوم يحدث نفسه، فأرسل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد، وكتابها واحد، وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس رضي الله عنه : «يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم أنزل، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يعرفون فيم نزل، فيكون لكل قوم فيه رأي، فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا.» فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس رضي الله عنه، ثم دعاه بعد فعرف الذي قال، ثم قال: إيه أعد علي [2].
لقد كان الصحابة رضي الله عنهم من أوائل من أرادوا المسلمين على التزام ضوابط الفهم للنص المعصوم، فعن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: قلت لعائشة زوج النبي، وأنا يومئذ حديث السن: أرأيت قول الله عز وجل : (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (البقرة:158)، فما نرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما. فقالت عائشة : كلا، لو كانت كما تقول كانت: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما. إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة، وكانت مناة حذو قديد، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك فأنزل الله: (إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) (البقرة:158)” [3]. [ص: 46] وأحكام الدين من حيث كونها محكمة أو مجالا للاجتهاد ومن ثم الاختلاف ترجع إلى قسمين:
- قسم هو أساس الدين: سواء ما يتصل منها بالعقيدة أو الأمور العملية، وقد وردت في آيات محكمة لا تحتمل التأويل، ولا تثير الاختلاف؛ لأن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون هذه الأمور ثابتة على مر العصور كأصول العقيدة الإسلامية، ومنها أركان الإيمان الستة إجمالا، وأركان الإسلام الخمسة، وأكثر أحكام المواريث، وأصول أحكام الأحوال الشخصية، وأصول الأحكام الحارسة للكليات الخمس.
- وقسم تنتمي إليه معظم أحكام الفقه الفرعية، وقليل من الجزئيات العقدية الموغلة في الفرعية: فكانت محلا لاختلاف الأنظار بحسب مبلغ علم كل ناظر، وبحسب جهده في إعمال أدوات الاستنباط في كل مسألة، وهذه حكمة العليم الخبير. وعلى هذا فاختلاف الأنظار لا ضير فيه؛ إذا لم يكن مبنيا على الهوى والتشهي، وكان المراد منه تحري الصواب قدر الإمكان، وهذا دال على مدى قصد الشارع لاجتهاد من يملكون أدوات الاجتهاد في الاستنباط، وإن وقع الاختلاف بينهم [4]والاجتهاد لا يكمن فقط في إدراك الحكم الشرعي في الواقعة الجزئية، والاستسلام لحكم الله فيها بعد معرفته بل في الاجتهاد أيضا في تنزيلها على الواقع وفق الشرع، وفي هذا الباب قد تتفاوت الأنظار، وتختلف الموازنات، وباستصطحاب الأسس السابقة يتم التعامل في المختلف فيه. [ص: 47]
رابعا: اختلاف:
[1] الآراء طبيعة بشرية وفطرة إلهية: وأما كون اختلاف الآراء طبيعة بشرية وفطرة إلهية فذلك لطبيعة نقص الإنسان وقصوره. فالاختلاف بين أفراد البشر أمر طبيعي، بل إنه آية من آيات الله تعالى في الخلق:(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم) (الروم:22). والاختلاف داخل ضمن [ص: 48] قسمة رحمة الله بين عباده في الدنيا للابتلاء والاختبار، (أهم يقسمون رحمت ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات) (الزخرف:32)،(ولا يزالون مختلفين) (هود:118)، (وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون) (الفرقان:20).
ومن جملة الاختلاف: اختلاف الآراء والأفهام والاستيعاب للنصوص، الذي ظهر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم في عهد الخلفاء الراشدين؛ أي: في عهد خير القرون. ومن صور الاختلاف في الرأي ما يرجع إلى الحفظ، ومنه ما يرجع إلى الفهم [2]، ومنه ما يرجع إلى اختلاف التقدير في مراعاة المقاصد العليا للشريعة، ومن ذلك انقسام الصحابة حول أسرى بدر إلى فرق ثلاث؛ للاختلاف في الفهم والنظر إلى المقاصد الشرعية العليا، فقد كان الاختلاف بين ثلاثة من الصحابة (أبو بكر، وعمر، وعبد الله بن رواحة، رضي الله عنه) ثم انقسم الصحابة بعدهم إلى فرق ثلاث تبعا لهم، وسبب الاختلاف هو الفهم والنظر إلى المقاصد العليا للشريعة وتنزيلها على الواقع. فقد أخرج الإمام أحمد أنه: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ قال: فقال أبو بكر : يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم. قال: وقال عمر : يا رسول الله، [ص: 49] (أخرجوك وكذبوك، قربهم فاضرب أعناقهم. قال: وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله، انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرم عليهم نارا. قال: فقال العباس : قطعت رحمك. قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد عليهم شيئا. قال: فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. قال: فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام قال: (فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم) (إبراهيم:36)، ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى قال: (إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم) (المائدة:118)، وإن مثلك يا عمر كمثل نوح قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا) (نوح:26)، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى قال: (واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) (يونس:88).
-وقد بقي الاختلاف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم جاريا بسبب ذلك، كما في حادثة بني قريظة وصلاة العصر، فإن من صلاها في وقتها نظر إلى النص وإلى فهم مراد النبي صلى الله عليه وسلم من الأمر بصلاتها في بني قريظة وهو الإسراع والتعجيل، ومن أخذ بظاهر أمره نظر إلى ضرورة عدم التقدم بين يدي الله ورسوله وبناء الأمور على الظاهر؛ كما (قال النبي صلى الله عليه وسلم مرة لما استوى يوم الجمعة: «اجلسوا» فسمع ذلك ابن مسعود فجلس على باب المسجد، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «تعال يا عبد الله بن مسعود [3]. [ص: 50]
-كما اختلف المهاجرون والأنصار ومسلمة الفتح إلى فرقتين في الفهم المقاصدي، نظرا لعدم بلوغهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : فعن عبد الله بن عباس : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج إلى الشأم حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه، فأخبروه أن الوباء قد وقع بأرض الشأم. قال ابن عباس : فقال عمر : ادع لي المهاجرين الأولين. فدعاهم فاستشارهم وأخبرهم أن الوباء قد وقع بالشأم فاختلفوا، فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادعوا لي الأنصار. فدعوتهم، فاستشارهم فسلكوا سبيل المهاجرين واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فدعوتهم، فلم يختلف منهم عليه رجلان. فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. قال أبو عبيدة بن الجراح : أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر : لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله. أرأيت لو كان لك إبل هبطت واديا له عدوتان إحداهما خصبة والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي في هذا علما، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه.» قال: فحمد الله عمر، ثم انصرف. [ص: 51] [4].
_لقد اجتمع في هذا الحديث عدة أسباب للاختلاف:
1 - الاختلاف في تنزيل المقاصد العليا للشريعة على نازلة الطاعون، فبعضهم نظر إلى الحفاظ على رجال المسلمين، وبعضهم رأى عدم الرجوع فيما عزم عليه خليفة المسلمين من أمر خطة سفره بدخول الشام. وهذا الخلاف هو بين خيرة أهل الأرض بعد الأنبياء؛ بين المهاجرين الأولين والأنصار ثم مسلمة الفتح رضي الله عنهم.
2 - الاختلاف في فهم الصحابيين المبشرين بالجنة: عمر وأبي عبيدة رضي الله عنهما في مسألة القدر، وتبرير الموقف المتخذ.
3 - الاختلاف كان بسبب الفهم؛ نظرا لفقدان النص من حافظة الجيش كاملا مع من استقبلهم من الصحابة في الشام حتى أخبرهم به واحد هو عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه.
وهذا يجعلنا نقرر أن الاختلاف طبيعة بشرية، وواقع لا مفر منه [5].
ولعل من أهم دلالات ذلك على الفرد والمجتمع: استيعاب واقعية الخلاف في الواقع، فيتم تقبل وجوده كظاهرة، وعدم أخذه بعنف أو استفزاز؛ لأنه يدخل ضمن الحكمة الإلهية، وإنما يقابل بما أمر الله به ورسوله بحسب أنواعه، وأسبابه. [ص: 52] والخلاف إجمالا يمكن تقسيمه إلى: اختلاف تنوع، واختلاف تضاد. حيث تكاد تتفق نظرات أهل العلم قديما وحديثا على ذلك.
-واختلاف التنوع : كثير في المسائل الفقهية، بل في المسائل الدينية عموما، حيث يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقا مشروعا، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم حتى (زجرهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: «كلاكما محسن » [6]، ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان والإقامة، والاستفتاح، ومحل سجود السهو، والتشهد، وصلاة الخوف، وتكبيرات العيد، ونحو ذلك مما قد شرع جميعه [7].
ومن ذلك مثلا: ما جاء عن غضيف بن الحارث قال: قلت لعائشة : أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة في أول الليل أو في آخره؟ قالت: ربما اغتسل في أول الليل، وربما اغتسل في آخره. قلت: الله أكبر، الحمد لله، الذي جعل في الأمر سعة. قلت: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر أول الليل، أم في آخره؟ قالت: ربما أوتر في أول الليل، وربما أوتر في آخره. قلت: الله أكبر، الحمد لله، الذي جعل في الأمر سعة. قلت: أرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجهر بالقرآن أم يخفت به؟ قالت: ربما جهر به، وربما خفت. قلت: الله أكبر، الحمد لله، الذي جعل في الأمر سعة.
[8] ص: 53] لذلك يمكن القول: إن اختلاف وسائل العمل الإسلامي، من اختلاف التنوع ؛ فمن المسلمين من ينهد لإحياء العلم الشرعي، ومنهم من ينهد للجهاد في سبيل الله، ومنهم من ينهد لإحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهم من ينهد لنفع الناس وقضاء حوائجهم والتخفيف من كرباتهم. ومما يعبر عن ذلك أصدق التعبير أن الله تعالى قال:(وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم) (التوبة:122)
فذكر قوما نفروا للجهاد في سبيل الله، وبين أن المؤمنين لن ينفروا له كافة وما كان لهم ذلك؛ شرعا وقدرا، وأنه ينبغي أن تنفر فئة منهم لطلب العلم وبثه بين الناس، واستحداث الوسائل المساعدة على تحقيق ذلك الهدف.
-وأما اختلاف التضاد : فينقسم إلى سائغ، وغير سائغ. وهو ليس مذموما على إطلاقه، ولكن المحرم منه نوعان:
أحدهما: «كل ما أقام الله به الحجة في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم منصوصا بينا لم يحل الاختلاف فيه لمن علمه [9]،
فإن الله تعالى يقول: (وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة) (البينة:4)،
وقال جل ثناؤه: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) (آل عمران:105)
فذم الاختلاف فيما جاءتهم به البينات [10]. [ص: 54] وثانيهما: كل بغي ينشأ عن اختلاف لا بد منه كاختلاف التنوع أو اختلاف الاجتهاد فيما يجوز فيه الاجتهاد. فالمنع هنا للنتيجة، وإن كانت المقدمة صحيحة، وذلك لقطعية الأخوة الإسلامية في مقابل الظنون التي تنشأ عن الاجتهادات.
-ويمكن إزالة بعض الخلاف بزوال أسبابه، يمكن تحويل عدد كبير من مسائل الاختلاف إلى مسائل اتفاق؛ إذ أن سبب الخلاف فيها عائد إلى الطبيعة البشرية في عدم الإحاطة بالعلم كله، فإذا كان سبب الخلاف غياب النص عن أحد الطرفين، أو أخذه بجزئية في مفهوم نص مع احتماله لغيره، فيمكن إبراز النص لمن علمه فيختفي الاختلاف، وهذا ما كان الصحابة رضي الله عنهم يفعلونه، فيحيلون كثيرا من مسائل الخلاف إلى مسائل اتفاق بعد وضوح النص عند من حفظه، كما في حادثة الطاعون المتقدمة، وأشار الشافعي إلى هذين الأمرين فقال: الناس مختلفون في هذه الأشياء، وفي كل واحد منها كتاب أو كتاب وسنة. قال: ومن أين ترى ذلك؟ فقلت: تحتمل الآية المعنيين فيقول أهل اللسان بأحدهما، ويقول غيرهم بالمعنى الآخر الذي يخالفه، والآية محتملة لقولهما معا؛ لاتساع لسان العرب. وأما السنة فتذهب على بعضهم وكل من ثبتت عنده السنة قال بها إن شاء الله ولم يخالفها؛ لأن كثيرا منها يأتي واضحا ليس فيه تأويل [11]. [ص: 55] وعلى الرغم من عدم إمكانية زوال الخلاف في الرأي مطلقا، إلا أنه قد يوجد في الاختلاف المنضبط مقاصد شرعية؛ فالخلاف في الرأي لم يزل منذ خير القرون، لذلك فتصور بعضهم أنه يمكن إزالة هذا الخلاف هو مما ينافي الشرع والطبيعة والواقع والعقل.
أما الشرع: فظاهر أن الله سبحانه وتعالى شرع بعض الأحكام التي تختلف فيها اجتهادات البشر، كما تختلف في استنباط دلالات نصوصها؛ وهي غير المحكمات الشرعية القطعية، وهذا بحد ذاته دال على جواز الاختلاف [12] لا على جواز إرادة الخلاف.
وأما الطبيعة: فلأن الله تعالى جعل الاختلاف في الأرزاق من آياته في طبيعة الناس؛ ومنها رزق الذكاء والذاكرة وقوة الفهم والحفظ.
وأما الواقع: فإن واقع الصحابة - وهم خير القرون- يقول: بأنهم اختلفوا، فكيف غيرهم؟
وأما العقل: فإن كل ما سبق يطبع العقل على وجود الخلاف، حتى أن الشخص الواحد قد يخالف رأيا ارتآه بالأمس في دليل شرعي، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مسألة (المشركة) حيث اختلف قضاؤه فيها عنه قبل عام: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي [13].
واستقرار حقيقة عدم زوال الخلاف بين الناس يوسع صدور المسلمين [ص: 56] لاحتماله [14] خاصة ما كان سائغا، وينبغي أن تقوم مناهج التربية على تطبيع المسلمين على هذه الحقيقة وتقبلها، والتعامل معها وفق الشرع بمختلف أقسامها.
ويظهر من كلام من تشدد في ذم الخلاف مطلقا أنه يعني: النزاع والفرقة، وليس مجرد الاختلاف في الرأي مع بقاء عصمة الأخوة وحقوقها [15]، بل إن الاختلاف قد يكون نعمة في ذاته ما دام في حدوده المنضبطة لم يخرج إلى نزاع أو اقتتال، ولذا ألف السيوطي كتابه: (جزيل المواهب في اختلاف المذاهب).
والنفسية السوية يسهل عليها أن تستوعب وقوع الخلاف في المجتمع الواحد، خاصة إذا كان اختلاف تنوع، بل يعد ذلك من ضرورات قيام الحياة وإعمارها، ومن ضرورات كون الخلق خلقا كما قال الله
عز وجل : (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) (الذاريات:49)،
ولذا فإن الذم في ذلك يكون واقعا على من بغى على أخيه الآخر، لا على الاختلاف من حيث هو اختلاف، وقد دل القرآن على حمد كل واحد من الطائفتين في مثل ذلك؛ إذا لم يحصل بغي،
كما في قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله) (الحشر:5)،
وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار، فقطع قوم وترك آخرون، [ص: 57] وكما في قوله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) (الأنبياء:78- 79)،
فخص سليمان بالفهم، وأثنى عليهما بالحكم والعلم؛ وكما في إقرار النبي صلى الله عليه وسلم يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة. وكما في قوله: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب".. [16].
وعليه فإن سلف الأمة وجميع الأئمة لم يختلفوا ليخالف بعضهم بعضا، أو يخطئ بعضهم بعضا، وإنما اختلفوا في سبيل الوصول إلى الحق وتحقيق مقاصد الشرع، بما يتوصلون إليه من فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم [17].
وقد استوعب الفقه الإسلامي وجود الاختلاف؛ لأن كثيرا من النصوص يحتمل التأويل ويدرك قياسا [18]، فذهاب المتأول أو القايس إلى معنى يحتمله الخبر أو القياس اجتهاد يؤجر عليه ولو أخطأ، ما دام قد سلك سبيل الاجتهاد، وإن خالفه فيه غيره.
وإذا كان الخلاف أمرا واقعا، وضرورة خلقية، فإنه لا يحدث الفرقة ما دام منضبطا بميزان الشرع، بل إن الذي يحدث الفرقة هو بطر الحق، والتعصب للرأي، والاستعلاء على الآخرين، وقد تنازع بعض التابعين [ص: 58] تنازعا شديدا في القراءات مع أنها جميعا مشروعة حتى قام عثمان رضي الله عنه بالعمل العظيم في تعميم المصاحف، وذكرهم بمشروعية القراءة على الأحرف المنزلة.
وعلى الرغم مما يلحظ في زماننا هذا من أن أكثر أعمال الحركات والاتجاهات الإسلامية هي أعمال تكاملية؛ إذ أن معظم الأعمال التي يبرز فيها هذا الاتجاه أو ذاك هي أعمال نوعية تعود إلى اختلاف التنوع، إلا أن النزاع والتنافس ونبذ استيعاب هذا النوع من الاختلاف هي السمة الطاغية، وقد يجمع كل طرف من أطراف الاختلاف حقا وباطلا، فتحل العصبية الذميمة، وتصادر من كل طرف حقه وباطله، ثم يضيع الهدى نتيجة لهذا التنازع الذميم، ويترتب على ذلك التقاطع والتدابر والمكر ببعضهم.
وقد يكون سبب ذلك إما عدم استيعاب وقوع الخلاف فكريا أو نفسيا أو عمليا، وإما الإصرار على تثبيت الخطأ والصواب من كل ذي انتماء على أنه صواب محض من حزبه وفئته، وقد يستدل على ذلك بأدلة منها قاعدة: (لا إنكار في مسائل الخلاف)، إذ التعصب سبب يرسخ العقائد في النفوس، وهو من آفات علماء السوء، فإنهم يبالغون في التعصب للحق، وينظرون إلى المخالفين بعين الازدراء والاستحقار، فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة والمعاملة، وتتوفر بواعثهم على طلب نصرة الباطل، ويقوى غرضهم في التمسك بما نسبوا إليه، ولو جاءوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة لا في معرض التعصب والتحقير لأنجحوا فيه، ولكن لما كان الجاه لا يقوم إلا بالاستتباع، ولا يستميل الأتباع مثل التعصب واللعن والشتم للخصوم، اتخذوا التعصب عادتهم [ص: 59] وآلتهم، وسموه ذبا عن الدين ونضالا عن المسلمين، وفيه على التحقيق هلاك الخلق، ورسوخ البدعة [19].
فإذا عرف أن الاختلاف حقيقة واقعية، بل إن الاختلاف فى الأحكام أكثر من أن ينضبط سهل تربية النفس على الموقف الصحيح منه، نابذا ابتداء كل تقطيع لعرى الأخوة لمجرد وقوع الخلاف بينهما، ولو كان كل ما اختلف مسلمان فى شىء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة [20].
إن وقوع الاختلاف يفترض أن يؤدي إلى أخذ الصواب من كل طرف، ولا تمنع هيبة المخطئ من الإنكار عليه، لكن دون حط أو تفريط في حقوق الأخوة الإسلامية؛ كما قال الذهبي : وبين الأئمة اختلاف كبير في الفروع وبعض الأصول، وللقليل منهم غلطات وزلقات، ومفردات منكرة، وإنما أمرنا باتباع أكثرهم صوابا، ونجزم بأن غرضهم ليس إلا اتباع الكتاب والسنة، وكل ما خالفوا فيه لقياس أو تأويل، وإذا رأيت فقيها خالف حديثا أو رد حديثا أو حرف معناه فلا تبادر لتغليطه... وإنما وضعت المناظرة لكشف الحق، وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه، وتنبيه الأغفل الأضعف [21]
وقد يكون مع كل طرف شيء من الصواب وشيء من الخطأ فيؤخذ الصواب من كل طرف مع التماس العذر في وقوع الخطأ. [ص: 60].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد