فوائد من درس دلائل الإعجاز 21


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف، الأحد: 26 من ربيع الأول 1446ه = 29 من سبتمبر 2024م:

أحيانًا أُراجع ما شرحتُه فأجد فيه دقائقَ ورقائقَ لم أشرحها؛ فأردتُ أن أقول لكم: إن الذي يَجعل الكتابَ له قيمةٌ هو أنت؛ بوَعْيك، ويَقَظتك، وحِدَّةِ ذهنك، وكلمة «حِدَّةُ الذِّهن» هذه من كلام العلماء وليست من كلامي أنا.

قد يقرأ غيرُك الكتابَ ولا يَجِدُ له قيمة؛ لأنه لم يكن يقرأ بكامل اليَقَظة وكاملِ الجِدِّ، وكذلك سَماعُ الدَّرس؛ يَقَظتُك وحِدَّةُ ذهنك تجعلان لِما تَسمعُه قيمة، وغفلتُك تجعل لِمَا تَسمعُه لا قيمة له؛ فالمسألةُ ترجع إليك أنت، وعليك أن تكون شديدَ اليَقَظة في أمركَ كلِّه، ليس في الدَّرس فقط ولا في القراءة فقط، وإنما في حياتك كلِّها.

مِقدارُ بَذْلِكَ لمجهودِك هو الذي يُحدِّد قيمتَك.

موضوعُ اليوم قد يبدو سهلًا، ولكنَّه له قيمةٌ علميةٌ في تكويني أنا القارئَ؛ لأن المسألةَ هي أنَّ القرآن مُعجِز، وأن الذي أنزله هو الذي خَلَقنا، وهو الذي قال لنا إنه مُعجِز، ثم جاء هذا العالِمُ الجليلُ (عبدُ القاهر) - الذي هو مِن نِعَم الله على الأمَّة - وأخذ يُفتِّش في القرآن عن الشيء الذي أعجزَهم: هل هو في المفردات؟ هل هو في الحَرَكات والسَّكَنات؟ هل هو في الفَواصِل؟.. إلخ؛ لينتهيَ إلى أنه في التأليف والتركيب، ثم يبدأ من هذه النهاية - وعَجَبٌ للعُقول التي تبدأ من النِّهايات!! - ويتحدَّث عن مفهوم النَّظْم.

ليس كلُّ كتابٍ اسمُه «كتاب»، ولا كلُّ متكلمٍ اسمُه «متكلِّم»، وإنَّما القضيةُ هي القدرةُ الرَّائعةُ على أن تُقنِعَ العقولَ بما تستيقنُ أنت من أنه حقٌّ وأنه صواب.

حين أبذلُ أقصى مجهودي لأقفَ على ما أَدرَكَه الكرامُ ثم لا أَقِفُ = أكونُ راضيًا؛ لأنني بذلتُ أقصى ما عندي.. ومُبْلِغُ نَفْسٍ عُذْرَها مِثْلُ مُنْجِحِ.

أُذنُك أنت هي التي تُعطي للعلم قيمةً.

تعليقًا على قول الجاحظ: «ولو أنَّ رجلًا قرأ على رجلٍ مِن خُطبَائهم وبُلغَائهم سُورةً واحدةً لَتَبيَّن له في نِظامِها ومَخْرَجِها مِن لَفظِها وطابَعِها أنه عاجزٌ عن مِثْلها، لو تُحُدِّيَ بها أبلغُ العربِ لأظهرَ عَجزَه عنها»، قال شيخُنا: لاحِظْ أن الجاحظ حين قال: «لَتَبيَّن له» إنما يَضَعُ إصبعَه على موضِع الإعجاز، الجاحظُ لم يَجعلِ الإعجازَ في معاني المفردات، ولا في الحَرَكات والسَّكَنات، ولا في الفواصل، الجاحظُ لخَّص الإعجازَ في: النِّظَام، ومَخْرَج المعنى من اللفظ، والطَّابَع.

وأنا في سِنِّكم وقفتُ عند عبارة الجاحظ، ثم قلتُ: أفهمُ أن النِّظَام هو التأليف والتركيب، لكنْ ما معنى «مَخْرَجها مِن لفظِها»؟، وما معنى «طابَعها»؟. «مَخْرَجها مِن لفظِها» معناه: خروجُ المعاني من الصِّيغ، معناه الوَعْي باستخراج المعنى من المبنى، معناه نَسَقُ الكلام وبناءُ اللُّغة. أمَّا «الطَّابَع» فهذا هو الذي لا أعرفُ له معنًى إلا الذَّائقة البيانية، التي تَجِدُ لشِعْر زُهيرٍ طابَعًا، ولشِعْر النَّابغة طابَعًا، ولكلامِ فُلانٍ طابَعًا؛ لأن المُدْرِك للطَّابَع هو الطَّبْع، ولذلك هذا الطَّبْعُ هو الذي عوَّل عليه السَّكاكيُّ في آخر زمانه لإدراك الإعجاز، وهذا هو ما فَهِمْتُه، ولا أقول لك إن هذا هو الصَّواب.

لاحِظْ أن الجاحظ يُكلِّم بعبارتِه هذه جيلًا منه المُبرِّد، ومنه الأئمَّة الذين كانوا في زمانه، وأنَّ مِثلَ هذا في كلام الجاحظ هؤلاء يُدركون مَغْزَاه ومَرْمَاه، وأنا إذا كلَّمتُ جيلي بما كلَّم به الجاحظُ جيلَه أكون مُزوِّرًا؛ لأن الجاحظ كلَّم جيلًا يُدرِك مَغْزَى كلامِه ومَرْمَاه، وجيلي أنا لا يُدرِك مَغْزَى كلام الجاحظ ومَرْمَاه.

كنتُ دائمًا أجمعُ تعليقَ العلماء على شِعْرٍ مُعيَّن، هذا الشِّعرُ علَّق عليه الجاحظُ في القرن الثاني وقال كذا وكذا، ثم علَّق عليه فلانٌ الذي كان في القرن الرَّابع أو الخامس وقال كذا وكذا، وهناك اختلافٌ في المستوى الثقافي والعلمي بين القرن الثاني والقرن الرَّابع والخامس، فأجدُ أن تعليقَ المتأخِّر مختلفٌ عن كلام المتقدِّم؛ لأنه يُخاطِب جيلًا مختلفًا؛ فلا بُدَّ أن يكون كلامُه فيه مَزيدٌ من البيان ومَزيدٌ من الشَّرح.. وهكذا.

الطَّامَّةُ أن تُخاطِبَ هذا الجيلَ بما خاطبَ به العلماءُ أجيالَهم؛ لأن هذا الجيلَ لن يستطيع الفَهْم؛ فكلُّ عالِمٍ يُخاطِب الجيلَ الذي يُخاطِبه على مستوى وَعْي الجيلِ ويَقَظتِه وفَهْمِه.

لا أريد أن أقول لك ما قاله الناس، أنا أريد أن أقول لك ما يَنفعُك، ولا بأس أن أقول لك ما يقوله الناسُ إذا شَرَحْتُه لك وبَيَّنتُه لك؛ لأن غاية الناس الأوائل أن يصنعوا الإنسانَ الأفضل، وغايتي أنا أن أصنع الإنسان الأفضل، وغاية علماء كلِّ جيلٍ أن يصنعوا الإنسان الأفضل، ولن يَصنعوا الإنسانَ الأفضلَ إلَّا بالعِلم الظَّاهر البَيِّن.

رَحِمَ الله «مالِكًا»؛ حين قال: «كلٌّ يؤخَذُ من كلامِه ويُترَكُ إلا صاحبَ هذا القبر» لم يكن يريد فقط أن كلامَ الناس فيه الصَّوابُ وفيه الخطأُ إلا كلامَ صاحبِ القبر صلواتُ الله وسلامُه عليه وإنَّما كان يريد أيضًا أن يقول لك: اقرأ وأنت في قمَّة اليَقَظة؛ لأن كلام الناس منه ما يؤخَذ ومنه ما يُترَك، ولن يَهدِيَك إلى ما يؤخَذُ وما يُترَك إلا العقلُ بالغُ اليَقَظة.

لا تظنَّ أنك بمجلسك عند الشيخ ستكون عالِمًا؛ لا تَجلِسْ عند الشيخ وحَرِّكْ عقلَك ولو كنتَ في سِردابٍ من الأرض.

المُدهِشُ في اللغة ليس أن اللفظَ المذكورَ يُفيد معنًى، المُدهِشُ أن اللفظَ المَعدومَ غيرَ المذكور يُفيد معنًى، المُدهِشُ ليس أنَّ «الواو» إذا وُجِدتْ أفادتْ، وإنما المُدهِشُ أن «الواو» إذا غابتْ أفادتْ.

السَّكاكيُّ مِن الذين يُحاولون أنْ يُحدِّدوا لكلِّ شيء قيمةً؛ يَضَعُ كلَّ شيء في قاعدة، ثم جاء عند القرآن وقال: «ومُدْرِكُ الإعجاز عندي هو الذَّوْق».. يا أيُّها الرَّائع، تُعوِّل في أعظمِ قضية على الذَّوق وأنت طول حياتك تَعملُ فيما تُسمِّيه ضَبْط المَعاقِد ووَضْع اللَّمَحات في قاعدة.

تعليقًا على كلام الإمام عبد القاهر حول الموازنة بين قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} وقولِهم: «قَتْلُ البعضِ إحياءٌ للجميع»، قال شيخُنا: العَجَبُ أن كلامَ العربِ العالي والشِّعرَ العالي إذا وُضِعَ بإزاء آيةٍ ذَهَب عُلوُّه.

مع تقديري الشَّديد لما يقوله الشيخُ عبدُ القاهر فإني أجِدُ أن التلاؤم الصَّوتي في الكتاب العزيز شيءٌ واقعٌ لا كلامَ فيه؛ تلاؤم أصوات الحروف في الكلمة يُعطيها عُذوبة، وتلاؤم أصوات الكلمات في الآية يُعطيها عُذوبة، وتلاؤم أصوات الكلمات في السُّورة يُعطيها عُذوبة، إلَّا أن العلماء قالوا إن هذا التلاؤم ليس هو أصلَ الإعجاز.

لا أقبل موضوع «الصَّرْفة» ولكنِّي أعذر القائلين به؛ لأن أوَّل من قال به هو إبراهيم بن إسحاق النَّظَّام، وإبراهيم بن إسحاق النَّظَّام كان كهفًا من كُهوف العلم - كما قال عنه الجاحظ - وكان شاعرًا، وكان ذوَّاقةً لكلام العرب، والجاحظُ وَصَفَه بأنَّ الله نجَّى به كثيرًا من عباده مِن الهَلَكَة، أي إنه صحَّح مفاهيمَ كثيرٍ من الناس، ولو بَقِيتْ هذه المفاهيمُ لكانوا بها من الهالكين؛ «النَّظَّامُ» قيمة كبيرة.. أعذر الذين قالوا ب«الصَّرْفة» لأني حين أقرأ «الفاتحة» أو «البقرة» أو «آل عمران» أجِدُ الإعجازَ، لا شكَّ في ذلك، ولكن حين أقرأ في القرآن نِصْفَ صفحةٍ من كلام قُريش: {وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا... }.

فكيف كان مُعجِزًا؟ ولماذا لم تَقُلْ قريشٌ: يا محمَّد، أتُعْجِزُنا بكلامنا؟ وإذا كان القرآن قد غيَّر في كلامِ قريش فهل قالتْ قريشٌ لرسول الله: إننا لم نَقُلْ هذا الذي تَنْسُبه إلينا، وإنك غيَّرتَ في هذا الذي قُلناه وعَدَّلتَ. لم يقولوا هذا، وسلَّموا بأن ما جاء في القرآن على لسانهم هو مِن كلامهم؛ فأيُّ شيءٍ أعجزَ في هذا؟ كيف صار كلامُ قريشٍ مُعجِزًا لقريش؟ فأنا أجِدُ في الإعجاز أمورًا غريبةً جدًّا - ولا شكَّ في أنه إعجاز - تُغْرِي بأن الله صَرَفَهم عن أن يأتوا بمثله، وهذا هو الذي قاله «النَّظَّام»، وكلامي هذا ليس دفاعًا عن كلام «النَّظَّام»؛ لأن «النَّظَّام» مخطئٌ مائةً في المائة.

جَهْلُنا نحن، وعَجْزُنا نحن، وضَعْفُنا نحن = يَهدِمُ عِلمَ العالِم لو وقعَ منه على خطأ، مع أن «مَالِكًا» قال: «كلٌّ يؤخَذ مِن كلامِه ويُترَك»، وأنا حين أرى قامةً كقامةِ «النَّظَّام» أخطأتْ لا يُدهشِني ذلك؛ لأن كلَّ ابنِ آدمَ خطَّاء؛ فارحموا الناس حين يُخطِئون، ولا تُذهِبُوا حسناتِهم بسيئاتهم، وإنما أَذْهِبُوا السَّيئاتِ بالحَسَنات.

ابنُ سِنانٍ الخَفَاجِيُّ، المِسْكِين؛ زَهِدَ الناسُ في كتابه «سِرُّ الفصاحة» بسبب حديثه عن «الصَّرْفَة»؛ لمَّا رأيناه قال إن القرآنَ مُعجِزٌ بالصَّرْفة أدركْنا أنه لا حِسَّ له في فَهْم كلام العرب.

«النَّظَّامُ» كان أستاذًا ل«الجاحظ»، وأوَّلُ مَن رَدَّ على «النَّظَّام» في مسألة الصَّرْفة هو الجاحظ؛ لأن الحقيقةَ العلميةَ ليس فيها كبيرٌ أو صغير، أنتَ شيخي نَعَمْ، ولكنَّك أخطأتَ؛ فتِلميذُ «زَيدٍ» البَرُّ هو من يتحدَّث عن أخطاء «زيد»، وكان الشَّيخُ قديمًا يكون في غاية السُّرور حين يَنقدُه تلميذُه، لأن الشَّيخَ لا يقولُ ليُقالَ: «قال»، وإنما يقول ابتغاءَ وجهِ الله، ومَن يُنبِّهُه إلى خطئه في الذي يقولُه ابتغاءَ وجهِ الله يَصيرُ عزيزًا عليه جدًّا.

عبدُ القاهر أوَّلَ ما كَتبَ كَتبَ «أسرار البلاغة»؛ لمعرفة فَضْلِ كلامٍ على كلام، ثم كَتبَ في نهاية حياته «دلائل الإعجاز»؛ لمعرفة فَضْلِ كلامِ الله على كلِّ كلام، وكَتبَ بين الكتابَيْن رسالةً عن الصَّرْفة؛ لأنه ما دام قد نَوَى على الدُّخول في «دلائل الإعجاز» فلا بُدَّ أن يَنفِيَ القولَ بالصَّرْفة؛ لأن القولَ بالصَّرْفة يُلغِي كتاب «دلائل الإعجاز»، وهكذا يكون ترتيبُ الأفكار والكُتُب.

العِلمُ لا تَقبَلُه العقولُ النَّائمة؛ العِلمُ بُعِثَ ليُخرِجَ العقلَ من النَّوم.

الجَهلُ خِزيٌ وعارٌ وشَناعة، ولذلك أحرارُ الأُمَم لا يتصالحون مع الجَهلِ وخرابِ التعليم، والذين يتصالحون مع الجَهلِ وخرابِ التعليم ليسوا هم أحرارَ الأُمَم.

لو لم يُقدِّم الخليلُ بنُ أحمد للأمَّة إلا سيبويه لكان ذلك كافيًا، ولو لم يُقدِّم أبو عليٍّ الفارسيُّ للأمَّة إلا أبا الفتح بن جنِّي لكان ذلك كافيًا، ولو لم يُقدِّم «النَّظَّامُ» للأمَّة إلا الجاحظ لكان ذلك كافيًا.

يا أيها «النَّظَّامُ» الرَّائع، الذي كان من تلامذتك الجاحظ، كلامُك بالصَّرْفة خارجٌ عن المعقول؛ لأن الله لو صَرَفَهم لكان إعجابُهم مِن صَرْفِ الله لهم هو مَثارَ حديثهم، لا أن يكون حديثُهم عن عُلُوِّ القرآن ومنزلتِه في الفصاحة، ولا أن يَقولوا: «إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطُلاوة، وإنَّ أسفلَه لمُعْذِق، وإن أعلاه لمُثمر!» .

حين تَجِدُ العالِمَ الجليلَ أخطأ فيما لا يخطئ فيه العقلُ البشريُّ فهذا يُعلِّمك أنك لا بُدَّ أن تقرأ بعقلك.. لو أخذتَ كلامَ الكبار لأنهم كبارٌ فخُذِ الصَّرْفةَ عن «النَّظَّام»؛ لأن «النَّظَّام» كبيرٌ، لا شكَّ في أنه كبير، إنَّما جعل الله لك عقلًا هو الذي يَهدِيك، وفَرَضَ عليك في كلِّ ركعةٍ أن تَدعُوَه وتقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ}؛ لأن الخطأ يُحيط بك، واحتمال الخطأ قائمٌ فيك.

العِلمُ فيه دقائقُ ورقائقُ لا أستطيع أن أُوصِّلَها لكم، إنما عليكم أنتم أنْ تَفْهَمُوها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply