فوائد من درس دلائل الإعجاز 23


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف

الأحد: 17 من ربيع الآخر 1446ه الموافق 20 من أكتوبر 2024م:

قبل أن أبدأَ الدرسَ أريد أن أُنبِّهَ إلى شيءٍ يجب أن تجعلَه بين عينَيْك؛ هو أن عقلَك وحضورَ عقلِك وحضورَ وعيك هو الذي يَجعلُ لِمَا تَسمعُه قيمة، ويَجعلُ لِمَا تقرؤه قيمة، ولو كان الدرسُ ضعيفًا وعقلُك يَقِظًا ومجتهدًا وحاضرًا ومُتطلِّعًا لأن يَرى شيئًا يَنفع فهذه اليَقظةُ منك ستجعل الدرسَ مفيدًا جدًّا وقويًّا جدًّا، وإذا كان الكِتابُ ضعيفًا وأنت تقرؤه بهذا الوعي فستجد في هذا الكِتاب ما يُفيد.

العقلُ الحيُّ يَستخرج ما يُفيد ممَّا لا يُفيد، والعقلُ الغافلُ لا يرى فائدةً في كل ما يُفيد؛ فلا بُدَّ أن تنتبهوا إلى هذا.

لا أعرفُ كتابًا ضعيفًا؛ لأن هذا الضَّعيفَ سيَشْغَلُني حتى أستخرجَ مِن تحت ضَعفِه شيئًا، وهذا طريقُك، ليس في القراءة فحَسْب، وليس في السَّماع فحَسْب، وإنما فيما تُزاول مِن أعمال، لا بُدَّ أن يكون عقلُك ووعيُك حاضرًا وقويًّا ويقظًا إلى أقصى الدرجات.

نبَّهتُ على ضرورة حضور عقلك ووعيك لأن في الدُّروس أشياءَ خفيَّةً ولطيفةً، والغفلةُ تَقتُلها، واليقظةُ تَجعلُها تُشرِق وتُفيد.

إذا وجدتَ العالِمَ يُكرِّر معانِيَ فاعلم أنه يُكرِّر أشياءَ ذاتَ أهمية ويُريد أن يُثبِّتَها في قلبك، والتَّكرارُ ليس عيبًا، القرآن مليءٌ بالتَّكرار؛ تَكرارُ المُهمِّ مُهِمٌّ.

عبدُ القاهر يُكرِّر مسألةَ خطأٍ كان شائعًا عند العلماء - ومنهم العلماءُ الكبارُ قبل زمن عبد القاهر؛ منهم أبو هلال العسكري، ومنهم ابن الأثير - وهو أن مزايا الكلام راجعةٌ إلى اللَّفظ، ولذلك وقف عبد القاهر عند هذه المسألة وألحَّ عليها كثيرًا ليَقتلِعَ من نُفوس الكبار والصِّغار فكرةَ أن مزيَّة الكلام ترجع إلى ألفاظه، وأنا عَذَرْتُه؛ لأني عايَنتُ هؤلاء الكبار يؤكِّدون ذلك، ويَعقِدون أبوابًا تحت ما كانوا يُسمُّونه: «الصِّناعة اللفظية»، أراد عبد القاهر أن يؤكِّد الحقيقةَ التي هي حَقٌّ ومَحْضُ حَقِّ؛ مِن أنَّ مزيَّة الكلام ترجع إلى معانيه، و«معانيه» ليس المراد بها «أغراضه»؛ لأن الجاحظ قال إن الأغراض مطروحةٌ في الطريق يَعرِفُها العربيُّ والعَجَمِيُّ، وإنَّما المرادُ ب«المعاني» علاقةُ معاني الكلمات بعضِها ببعض؛ لأن الكلمات بدون هذه العلاقات لا تدلُّ على معنى، وإنَّما الذي يدلُّ على المعنى الذي أريدُه هو رَبطُ معنى الكلمة بمعنى الكلمة، فكأن هذه الرَّوابط وهذه العلاقات هي مَساكِنُ المعاني ومَواطِنُ المعاني.

عبارةُ «مزايا الكلام» تحتَها كلُّ علوم نقد الأدب والشِّعر، وتحتَها علمُ الإعجاز؛ فالخطأُ في معرفة أصل مزايا الكلام يُدمِّر علوم البلاغة والنقد ويُعمِّي علمَ الإعجاز.

اتَّفق العلماء بعد عبد القاهر - وفيهم قاماتٌ تُساوي قامةَ عبد القاهر - وأجمعوا على ما قاله مِن أن مزيَّة الكلام راجعةٌ إلى «النَّظْم»، ولم يَنتقِدْه أحدٌ فيما قاله، ولهذا لم يَعُدْ أحدٌ يتكلَّم عن مزايا الألفاظ بعد عصر عبد القاهر، وهذه قيمةُ العالِم: يُغيِّر فِكرًا، يُغيِّر عقلًا.

قلتُ لكم كثيرًا إن الكتابَ المقصودُ منه هو تغييرُ العقل، وإن الدَّرسَ المقصودُ منه هو تغييرُ العقل، وقلت لكم قبل ذلك: إذا خَرجَ الطالبُ مِن دَرْسِي كما دَخلَ فأَوْلَى بي أن أجلسَ في بيتي.

أنا لا أُعلِّم طالبي أنَّ «كان» تَرفعُ المبتدأ وتَنصِبُ الخبرَ فقط، أنا أُنمِّي فكرَه، وأُنمِّي عقلَه؛ فالمقصودُ من العِلم هو تغييرُ المستوى الفكريِّ للإنسان.

قيمةُ عبد القاهر أنه لمَّا أراد أن يُغيِّرَ حقيقةً علميةً أقنع الناسَ جميعًا بها.

أيُّ لُغةٍ مزيَّةُ الكلام فيها راجعةٌ إلى النَّظْم، وتَوخِّي معاني النَّحْو - الذي هو العلاقاتُ فيما بين الكَلِم - عامٌّ في كل الأجناس، الفَرقُ أن كلَّ متكلمٍ يتعامل مع مفردات لُغته على أساس دلالة هذه المفردات، ولذلك أرى أن علم البلاغة علمٌ إنسانيٌّ وليس علمًا عربيًّا.

«الجاحظ» حين تكلَّم في البلاغة قبلَ عبد القاهر كان يتحدَّث عن البلاغة عند الفارسيِّ، وعند الهنديِّ، وعند اليونانيِّ؛ فكان يتكلَّم عن البلاغة عند الأمم.

علمُ النَّحو وعلمُ الصَّرف غيرُ علم البلاغة: علمُ النَّحو خاصٌّ ب«العربيَّة»، علمُ الصَّرف خاصٌّ ب«العربيَّة»، إنما علمُ البلاغة علمٌ عامٌّ في جميع اللُّغات.

حين تقرأ قولَ الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} لا تَقُلْ لي إن {لَعَلَّكُمْ} هذه خاصَّةٌ بالعَرَب؛ لأن القرآن ليس دِينَ العرب فقط، إنَّما هو دِينُ النَّاس كافَّةً؛ فالمراد: لعلَّكم أيها المُطالَبون بالقرآن.

بلاغةُ القرآن المُعجِزةُ هي بلاغةُ الإنسان، ولذلك قال العلماء إن الذي يُحْسِنُ البلاغةَ في لُغةٍ ثم يتعلَّم لُغةً أخرى تراه يُحْسِنُ البلاغةَ فيها، وضربوا المَثلَ ب«عبدالحميد الكاتب»؛ قالوا إنه كان بليغًا في لسان الفُرْس، فلمَّا تعلَّم العربيةَ كان بليغًا في لسان العرب.

البلاغةُ رُوحٌ إنسانيةٌ ليستْ خاصَّةً بأُمَّةٍ من الأُمم، والقرآنُ المُعجِزُ ببلاغته للناس كافَّةً، فأحسستُ أن هناك تقاربًا شديدًا جدًّا بين المسألتين: بيْن أن البلاغةَ رُوحٌ إنسانية وأن كِتابَ النَّاس كافَّةً - الذي هو القرآنُ - مُعجِزٌ ببلاغته.

القرآنُ مُعجِزٌ ببلاغتِه، ليس مُعجِزًا بنَحْوِه؛ لأن النَّحوَ ليس علمًا إنسانيًّا، هو علمٌ خاصٌّ بلُغةٍ مُعيَّنة، وهذه أشياءُ كلُّها مُحتاجةٌ إلى مراجعة، ومُحتاجةٌ إلى وَعْي، ومُحتاجةٌ إلى تفكير.

قلتُ إن عبد القاهر ألحَّ كثيرًا على نَزْعِ فكرةِ أنَّ مزيَّةَ الكلام ترجع إلى ألفاظه؛ لأنها تَجذَّرتْ في عقولٍ كبيرةٍ وعقولٍ صغيرة.

ليس هناك كتابٌ ضعيفٌ وكتابٌ قويٌّ؛ لأن المطلوبَ منك أن تَستخرِجَ قوَّةً من الضَّعيف، وأن تَستخرِجَ ما يُفيد ممَّا لا يُفيد، وإلا فالزم بيتَك واطلبْ عملًا آخر.

عامِلُ النَّظافة المُتقِنُ لعمل النَّظافة أفضلُ من أستاذ الجامعة غيرِ المُتقِنِ لعمل أستاذ الجامعة؛ قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحْسِنُه.

كلمةُ سيِّدنا عليٍّ رضي الله عنه: «قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يُحْسِنُه» كلمةٌ تَصنَعُ حضارة، ليستْ قيمةُ كلِّ امرئٍ ما يَعمَلُه، أَحْسِنْ نظافةَ الطريق تَكنْ أفضلَ مِن كبيرٍ لا يُحْسِنُ عملَه، فكأن سيِّدنا عَليًّا يقول: «هذه الأمَّةُ أمَّةُ الإحسان»، والله قريبٌ من المحسنين، والله يُحِبُّ المحسنين؛ فأين الإحسان!

قولُ سيِّدنا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: "وجُعِلَتْ لي الأرضُ مسجدًا" ليس مرادًا به أنْ أُصلِّي عليها فقط، وإنَّما هي عبادة، أنا عابدٌ ما دُمْتُ ذاكرًا لله وأنا أَصنَع، وأنا أَزْرَع، وأنا أُدرِّس، وأنا أُتاجِر. أتحرَّك على الأرضِ وأنا ذاكرٌ لله فقد صارتْ لي الأرضُ مسجدًا؛ فهي مسجدٌ للصَّانِع المُتقِن المُتَّجِه إلى الله، هي مسجدٌ للزَّارع المُتقِن المُتَّجِه إلى الله.. هذا هو الفَهْم.

أعجبني توفيق الحكيم حين قال - وقُلتُه لكم قبلَ ذلك -: «إن العقلَ الذي يُحوِّل الفكرةَ القديمةَ إلى فكرةٍ جديدةٍ أفضلُ من العقل الذي يأتي بجديد»؛ لأن إحياء القديم أدلُّ على فَرْط النُّبوغ من المجيء بالجديد، لا تَقُلْ: «هذه أفكارٌ قديمة»، نعم هي أفكارٌ قديمة، ولكنْ عليك أن تَجعلَها أفكارًا جديدة، فإذا لم تَجعلْها جديدةً فلا تَدخُل الميدانَ إلا وأنت مِن رِجالِه.

إلحاحُ عبد القاهر على نَزْع فكرةِ رُجوع المزيَّة إلى الألفاظ أتعلَّم منه أكثرَ ممَّا أتعلَّم مِن مسائل العلم: مَوقِفُ العالِم مِن الخطأ، وإصرارُه على نَزْع الخطأ، وإصرارُه على زَرْع الصَّواب في النَّفْس الإنسانية، يَرُوقُني جدًّا، ويُربِّيني، ويُنشِّئني أفضلَ من أن أَدْرُسَ قواعدَ العلم فحَسْب؛ قواعدُ العلم مُهمَّةٌ جدًّا، ولكنْ بشرطِ أن يكون وراءها رُوحٌ تَحرِص على غَرْسِ الصَّواب ونَزْع الخطأ.

تَعلَّمْنا المُسالَمةَ مع أشياءَ لا تَجوزُ فيها المُسالَمة؛ تَسالَمْنا مع الفساد، وتَسالَمْنا مع الجهل، وتَسالَمْنا مع الفشل؛ فعبدُ القاهر بصنيعِه يُنادي فيك، مُؤذِّنٌ يؤذِّن؛ يقول لك: لا تتصالحْ مع الفساد، وإنَّما عليك أن تَقِفَ مع الفساد حتى تَقتلِعَه من نُفوس قومِك.

عبد القاهر يُعلِّمك: لا تَهدِمِ الخطأَ مِن غير أن تَعرِفَ مِن أين جاء الخطأ، لا تَهدِمِ الباطلَ مِن غير أن تَعرِفَ متى وُلِدَ هذا الباطلُ ومِن أيِّ فكرةٍ وُلِدَ هذا الباطل.

تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «لم يَستطيعوا أنْ يَنطِقوا في تصحيح هذا الذي ظنُّوه بحَرف»، قال شيخُنا: عبد القاهر يَدلُّك على طبقةٍ من الناس يعتقدون اعتقادًا راسخًا في شيء، ثم لا يَجِدون عندهم كلمةً واحدةً للدِّفاع عنه، يا سلام! يا سلام على تعرية أهل الباطل! يا سلام على قُدرة أهل الحقِّ على بيان تعرية أهل الباطل.

حين أقرأ كلامًا لعالِمٍ آخُذُه، لكني أجد نفسي راغبةً في معرفة الذي دار في نَفْسِ العالِم حتى أنطقَه به، وبهذا لا تكون فقط دخلتَ في فِكر العالِم، وإنَّما في قلب العالِم وعقلِه، ويا بُعْدَ ما بين مَن يَدخُل في فِكْر العالِم ومَن يَدخُل في قَلبِ العالِم وعقلِه.

القاضي عبد الجبَّار - رضيتَ أو لم تَرْضَ - عَلَمٌ من أعلام الأمَّة، ومِن كبار علمائنا، لا شكَّ في هذا، وكونُه رأسَ المعتزلة هذه قضيةٌ أخرى ليس لها أيُّ قيمة، صار لها قيمةٌ عندنا لمَّا ضَعُفَتْ عقولُنا عن استيعاب الخلاف.

النِّزاعُ بين الأشعريِّ والمعتزليِّ ظهرَ في الأمَّة لمَّا ضَعُفَتْ عقولُها وشاع الجَهلُ فيها؛ لأن شُيُوعَ العلم يَسمحُ بوجود الخلاف، وشُيُوع الجهل يعني أن الخِلافَ مُنازعة.

إذا وجدتَ الناسَ يَستوعبون الخِلافَ فاعلمْ أن العِلمَ مُنتشرٌ بينهم، وإذا وجدتَ الناسَ لا يَستوعبون الخلاف فاعلمْ أن العِلمَ ذَهبَ عنهم.

يَقظةُ العقولِ بالعُلوم تُضيِّقُ مَسافات الخُلْف، والجَهلُ يُوسِّعُها.

المعتزلةُ ليسوا خارجين عن الدِّين، بل إن المعتزلة لهم مواقفُ أشدُّ تَحرُّجًا من غيرهم.

مسائلُ الخلافِ بين المعتزلة وأهلِ السُّنَّة خَمْسٌ، لو لَقِيتَ الله وأنتَ لا تَعرِفُ واحدةً منها فلن يَضِيرك ذلك شيئًا.

حين تُنكِر عبقرية طه حسين لأنك لا ترضى بعضَ آرائه فأنتَ لا قيمةَ لك، اعترفْ للرَّجلِ بفِكرِه وعلمِه وأنت تُخالِفُه.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply