بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف يوم الأحد: 20 من جمادى الآخرة 1446ه = 22 من ديسمبر 2024م:
• قلتُ، وأُكرِّر: إن معرفة مُراد المُصنِّف مِن كلامه هي إحدى الفوائد في قراءة كلامِه، وليست كلَّ الفوائد، وربما كانت فائدةً محصورةً مِن فوائدَ كثيرةٍ مُتَّسعة.
• كلامُ المُصنِّف فيه من الفوائد والدَّقائق ما يَزيد على الفائدة التي نتصوَّر أنه لا فائدةَ سواها.
• أكرمُ فائدةٍ ننتفع بها مِن قراءة كلام العالِم، الذي هو حقيقٌ بهذا الوصف، هي أنه يُعلِّمنا كيف نُفكِّر، وإذا تَعلَّمتَ كيف تُفكِّر كنتَ يومًا من الأيام مُفكِّرًا.
• ليس هناك أفضلُ على الأرض مِن صفة الإنسان الذي يُحْسِنُ أن يُفكِّر؛ لأن الإنسانَ الذي يُحْسِنُ أن يُفكِّر هو الإنسانُ الذي تَعْمُر به الأرضُ، ولم تَخْرُب الأرضُ ولم تَخْرُب البلادُ والعبادُ إلَّا بالإنسان الذي لا يُحْسِنُ أن يُفكِّر؛ لأن الذي لا يُحْسِنُ أن يُفكِّر هو الجاهل، والجاهلُ هو الفاشل، ووَيْلٌ للنَّاس، ثم وَيْلٌ للنَّاس، ثم وَيْلٌ للنَّاس إنْ كان أمرُهم بيَدِ جاهلٍ فاشلٍ لا يُحْسِنُ أن يُفكِّر.
• إنْ أردتَ أن تَعْمُرَ الأرضُ فاصنعِ الإنسانَ الذي يُفكِّر يَصْنَعْ هو فيها كلَّ شيء نافع، ولا تَشْغَلْ نفسَك بشيء أكبرَ مِن شُغلِك بصناعة الإنسان الذي يُحْسِنُ أن يُفكِّر.
• إنْ صنعتَ لوطنك الإنسانَ الذي يُحْسِنُ أن يُفكِّر تكونُ قد صنعتَ لوطنك كلَّ خير، وإنْ صنعتَ لأهلِك ولشَعبِك ولأحفادِك الإنسانَ الذي يُحْسِنُ أن يُفكِّر فقد صنعتَ لهم كلَّ خير.
• صناعةُ الإنسان الذي يُحْسِنُ أن يُفكِّر مسألةٌ مفهومةٌ مِن يومِ أنْ خلقَ الله آدمَ؛ لأنه قبل أن يَنزل الأرضَ علَّمه الأسماء، و«علَّمَه» معناها: «علَّمَه كيف يُفكِّر»؛ لأن التعليمَ والتفكيرَ شيءٌ واحد.
• لو قرأتَ كتابًا جيِّدًا في الفقه يُعلِّمُك كيف تُفكِّر، وقرأتَ كتابًا جيِّدًا في علم الطبِّ يُعلِّمُك كيف تُفكِّر، ستَجِدُ الكتابين كأنهما كتابٌ واحدٌ، مع أن مادَّة العلم في الفقه غيرُ مادَّة العلم في الطبِّ، لكنَّ جَوْهَرَ الكتاب يُعلِّمني كيف أفكِّر.
• متى تَجِدُ الكتابَ يُعلِّمُك كيف تُفكِّر؟ حين تَجِدُ المؤلِّفَ يَدخلُ بك في غوامض قضية ربما كانت لا تحتاج إلى هذا، مِثل القضية التي نحن فيها الآن مع عبد القاهر، وهي قضيةٌ يسيرة جدًّا؛ قضيةُ أنَّ فَضْلَ الكلام يَرجع إلى معناه، وهذا ما عليه النَّاس، لكنَّ هناك فئةً قليلةً ضيِّقةَ العَطَن ضيِّقةَ الفَهْم تقول إن فَضْلَ الكلام يرجع إلى لفظه؛ فمِن فَضْلِ الله علينا أنَّ عبدَ القاهر وقف عند هذه الفئة ضيِّقةِ العَطَن قليلةِ الفَهْم، ولم تكن القيمةُ أنه وقف ليُقنعَها؛ لأنها لن تَقتنع، وإنَّما القيمة أنه علَّمنا كيف نتدسَّس ونتدخَّل في غواض المعاني، الفكرةُ نفسُها فيها مُتَّسعٌ لأن يَندسَّ فيها عقلُك، وأن يَستخرج من الفكرة فكرة، وهذه مسألةٌ مهمةٌ جدًّا، تتقدَّم بها العلومُ والأفكارُ والحياة.
• العقلُ الذكيُّ يَجِدُ له مُتَّسعًا في كلِّ شيء.
• حين أقول لك إن العقلَ الذَّكيَّ يَتدسَّس في الفكرة حتى يستخرجَ من الفكرة فكرةً فإنك تتوهَّم أنني أقول كلامًا جديدًا؛ لأنك لم تقرأ، الحقيقةُ أن هذا كلامٌ قديمٌ جدًّا جدًّا، وأدهشني أن سيِّدنا رسولَ الله ﷺ لما قالتْ له الصَّحابيةُ الجليلةُ: «إن أمِّي نَذَرتْ أن تَحُجَّ، ثم ماتت قبل أن تَحُجَّ، أفأحُجُّ عنها؟»، فكان المقتضى أن يقول لها: «حُجِّي» أو «لا تَحُجِّي» فقط، ولكنَّ صانِعَ الإنسان الأفضل، الذي هو سيِّدنا رسولُ الله ﷺ قال لها: "أرأيتِ لو كان على أمِّك دَيْنٌ؛ أكنتِ قاضيتَه عنها؟"، فأراد أن يُعلِّمها كيف تَستخرجُ ما لا تَعْلَم مِن الذي تَعْلَم، وشَرَعَ لها طريق قياس المجهول على المعلوم، لم يُعلِّمْها الحكم، وإنَّما علَّمها كيف تَستخرِجُ الحُكمَ، وهذا هو الفرقُ بين أن نُعلِّم أبناءنا المعرفة، وأن نُعلِّمهم كيف يصنعون المعرفة.
• أنت إنسانٌ رائعٌ إذا عُلِّمْتَ ورُبِّيتَ في دولة ذكية تُعلِّمُك كيف تَستخرج ما لا تَعْلَمُ مِن الذي تَعْلَم.
• يا سيِّدنا، الفرقُ بين المتخلِّف في قاع التخلُّف والمُتقدِّم في قمَّة التقدُّم هو أن المُتخلِّف في قاع التخلُّف هو الذي تَعلَّم المعرفة، والمُتقدِّمَ الذي في قمَّة التقدُّم هو الذي تَعلَّم كيف يَصنع المعرفة.
• عِلمُ صناعة المعرفة كان بلاغًا لنا مع رسول الله ﷺ وتَخلُّفُنا في هذا العِلم منَّا نحن، ودائمًا أقول إن التخلُّفَ ليس منَّا ولسنا منه؛ لأن سيِّدنا رسولَ الله ﷺ الذي علَّمَنا قراءة «الفاتحة» علَّمَنا كيف نصنع المعرفة.
• أنت إنسانٌ رائعٌ حين تُحصِّل العلمَ، وأنت أروعُ من الرَّائع حين تبدأ تُفكِّر فيما حصَّلْتَ من العلم؛ حين تبدأ طلبَ العلم بعد نهاية تحصيل العلم؛ لأنك حين تبدأ طلبَ العلم بعد نهاية تحصيل العلم تبدأ تَستخرج من العلم عِلمًا.
• أنْ أقولَ لك: «لا بُدَّ أن تَستخرِجَ من العلم علمًا» ليس وَهْمًا، ولا تشديدًا منِّي، ولا ثقافةً عاليةً منِّي؛ لأن النبي ﷺ عَلَّمَ الصَّحابيةَ الجليلةَ كيف تَستخرِجُ من العِلم علمًا.
• أنْ تَستخرِجَ من العِلمِ عِلمًا هذا من الأساسيات التي إذا رُبِّيتَ عليها تكونُ إنسانًا يَستبشِرُ التُّرابُ الذي تَمشِي عليه بأنه سيكون ترابًا مَحمِيًّا برجاله، وإذا بقينا في الغفلة والجهل فالتُّرابُ الذي هو عظامُ آبائنا سيَضِيقُ بنا.
• عليك أنْ تَعْلَمَ ما تقرأ، وأنْ تُعلِّمَ ما عَلِمْتَ؛ لأن العِلمَ عندنا ليس أن تُحصِّله، وإنَّما أن تَعمَلَ به، ومِن العَمَلِ به أن تُبلِّغه مَن لم يَعْلَم؛ فكلُّ المسلمين مُتعلِّم ومُعلِّم، وتَصوَّرْ مجتمعًا كلُّ أفراده يَتعلَّمون ويُعلِّمون.
• قلتُ لكم قبل ذلك إنه ليس هناك كتابٌ تافهٌ، والكتابُ الذي تراه تافهًا شاهدٌ على أن عقلَك أنت تافه؛ لأن المطلوب منك أن تَستخرجَ النَّادرَ مِن قلب التَّافه، وأن تَستخرجَ الجديدَ مِن قلب القديم.
• مخاطبًا حُضورَ الدَّرس، قال شيخُنا: أنا متأكِّدٌ أنه سيكون فيكم مَن هو أفضلُ مني، ولكنْ بشرط ألَّا ينام.
• لو ضاقتْ عليك الدُّنيا ورأيتَ الظلامَ المُطْبِقَ في كلِّ أُفْقٍ من آفاق البلاد فتأكَّدْ أن الخير في الأمَّة إلى يوم القيامة.
• عبد القاهر لا يُصحِّح فقط أخطاء الآخرين، وإنَّما يَبحث كذلك عن عِلَلِ هذه الأخطاء ليُحذِّرَنا منها؛ فهو حين يُبيِّن لي كيف ضَلَّ الضَّالُّ يُحذِّرني مِن الطريق الذي أَضَلَّ الضَّالَّ.
• تعليمُ التفكير مُهمٌّ جدًّا، والقضيةُ التي يتحدَّث فيها عبدُ القاهر يسيرةٌ جدًّا، ولكنَّ الشيخَ عبدَ القاهر دَقَّق، فلمَّا دَقَّق علَّمَنا كيف نُدقِّق، ومَن تُعلِّمُه كيف يُدقِّق تكون قد علَّمْتَه كيف يُفكِّر.
• عَمَارُ الأرض، التي هي تُرابُ آبائك وعِظامُ آبائك، إنَّما يكون بالعقل الذي يَعرف كيف يُفكِّر، ومَن لم يُربِّ العقلَ الذي يَعرف كيف يُفكِّر لم يُربِّ على الأرض شيئًا، وإن ملأها ناطحات سحاب، ناطحاتُ السَّحاب لن تَصنعَ الإنسان، وإنَّما الإنسانُ هو الذي يَصنع ناطحات السَّحاب.
• ليس لنا غايةٌ إلَّا أن نَعيشَ كِرامًا على أرضِنا، حُماةً لأرضِنا، عِيشةً طيبةً سَخِيَّة.
• أعجبني جدًّا ابنُ قُتيبةَ الرَّائعُ حين قال في كتابه «عيون الأخبار» إن الطُّرقَ المُوصِّلةَ إلى الله كثيرة، وليست طريقًا واحدًا هو العلمُ بالشريعة، كأنه يُخاطبنا نحن المُغفَّلين؛ فعِلمُ الحكمة تَصِلُ به إلى الله، عِلمُ التاريخ تَصِلُ به إلى الله، كلُّ معرفةٍ يَنمو بها العقلُ الإنسانيُّ طريقٌ يَصِلُ بك إلى الله.
• التقط الرَّائعُ القُرطبِيُّ كلمةً تناقلتْها الكُتب؛ لمَّا قال: «النِّياتُ الصَّالحاتُ يُحوِّلن المُباحات إلى طاعات»؛ يعني إذا تَريَّضْتَ في الهواء هذا من المُباحات، فإذا كنتَ تَريَّضْتَ بنِيَّة التَّهيؤ لعملِ شيءٍ نافع للأمَّة صار هذا التريُّضُ طاعة.
• يَنْقُصُكَ شيءٌ واحدٌ؛ هو أن يكون لله حضورٌ دائمٌ في قلبِك، وهذه مسألةٌ مُريحةٌ جدًّا، وغيرُ مُتعِبة، ولا هي «دَرْوَشة».
• يا عزيزي، كُنْ إنسانًا رائعًا تَعْمُرْ بك الأرضُ، وتَعْمُرْ بك الدُّنيا، وتَعْمُرْ بك الآخرة.
• يا عزيزي، أَصْلِحْ ما على هذه الأرض تَجِدْ صلاحَه يومَ أن تكون في باطن هذه الأرض.
• إصلاحُ الحياة الدُّنيا - مع ذِكْر الله - هو نفسُه إصلاحُ الحياة الآخرة، وهذا هو الدِّين الغائب.
• قصَّةُ سيِّدنا نُوح عليه السَّلام مع قومه، ولُبْثُه فيهم ألفَ سنةٍ إلَّا خمسين عامًا، تفيد أن إصلاحَ الإنسان على الأرض عَملٌ شاقٌّ جدًّا، ونحن قلنا إن بناء الإنسان أشقُّ مِن بناء ناطحات السَّحاب وأنفعُ منه.
• تعقيبًا على كلام الإمام عبد القاهر في صدر الصفحة رقم (416)، قال شيخُنا: هذا الكلامُ أقرؤه كأنِّي أقرؤه لأوَّل مرة؛ لِخفاء معانيه ودقَّة معانيه، ومن الصَّعْبِ جدًّا أن تَفهمَ الكلامَ الدَّقيق، وأصعبُ مِن الصَّعبِ أن تَشرحَ الكلامَ الدَّقيق.
• تدبُّرًا لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}، قال شيخُنا: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} حَسْبُ هذا الكتابِ أنه تنزيلُ ربِّ العالمين، وهو لا يُوصَفُ بأعلى من أنه تنزيلُ ربِّ العالمين، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} الذي هو خَيرُ الملائكة، {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ} وأنت خيرُ الخَلْق، {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}؛ ما معنى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}؟ هل سيُمدَحُ القرآنُ بمَنقَبةٍ
وفضيلةٍ ومِدْحةٍ أفضلَ من أنه كلامُ ربِّ العالمين؟ حاولتُ أن أجِدَ لها دلالةً بعيدةً عن الثناء على القرآن؛ لأنه لا يُثنَى على القرآن بأكثرَ مِن أنه تنزيلُ ربِّ العالمين، فرأيتُ أنه إشارةٌ إلى إعجاز بيانه، وأن هذا مَدحٌ للِّسان العربي المُبين، على حد قول القائل:
فإذا مَدحْتُ مُحمَّدًا بقَصِيدتِي.. فلقد مَدحْتُ قَصِيدتي بمُحمَّد.
• مُواءمةُ اللِّسان العربي للفِطْرة جَعلتْ مِن خَيرِ شُعرائه مَن ليسوا مِن قومه؛ مثل: بشَّار وابن الرُّومي، وجَعلتْ مِن خَيرِ عُلمائه مَن ليسوا مِن قومه؛ ك: سيبويه والجاحظ وابن جني وأبي علي الفارسي.
• لم أعرف في تاريخ العربيَّة أدقَّ في تَذوُّق أسرارِ بيانها مِن لِسان الجاحظ، الذي هو مِن أبناء «حام»، وهذا شيءٌ عجيبٌ جدًّا، ليس عجيبًا لأن يُذكَر وإنَّما لأن يُدْرَس.
• أيُّ شيءٍ في العربيَّة جعلَ غيرَ أبنائها مِن النَّابغين فيها؟! أيُّ شيءٍ في العربيَّة جعلَ لسانَك يا بن حَامٍ أعظمَ الألسنة في تَذوُّق بيانِها؟! أيُّ شيءٍ في العربيَّة جَعلَك يا أيها الفارسيُّ أقْدرَ الناسِ على معرفة أسرار إعرابها؟!
• لا يكفي أن تقول إن العربيَّة شُغِلَ بها مِن غير بَنِيها، ونَبَغَ في شِعْرِها مِن غَير بَنِيها؛ فهذا كلامُ العَجَزة، إنَّما عليك أن تَدْرُسَ وأن تُبيِّن كيف كان ذلك.
• إذا لم نُخرِّج مِن طلابنا مَن هو أعلى منَّا نكون قد حكمنا على مستقبل بلادنا بالتوقُّف، وإذا خَرَّجْنا مَن هُم دوننا نكون قد حكمنا على مستقبل بلادنا بالتخلُّف، ونحن أمامنا عدوٌّ إذا استشعرَ ضعفَك أخرجَك مِن أرضِك وأخذ دارَك، واليهودُ لا يريدون أن يأخذوا دار الفلسطينيين فقط، اليهودُ يرومون أن يأخذوا دُورَ المصريين، ودُورَ السُّوريين.. إلخ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد