بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
في خضم الحياة وفي وسط الصراع بين الطموحات التي لا حد له وبين الإمكانيات المحدودة، وفي أثناء السعي الدؤوب من أجل تلبية متطلباتها، يظل الإنسان مهموما بحاجاتها مشتغلا بأعبائها، فيظل متنقلا من وظيفة إلى أخرى ومن بلد لآخر ومن وسيلة لتحسين الرزق لأخرى، يسلمه الصباح إلى المساء والمساء إلى الصباح والمنزل إلى العمل والعمل إلى ثاني أو ثالث أو إلى ما يفرضه من مستلزمات كمجاملات أو زيارات أو علاقات اجتماعية معينة أو غيرهم.
وفي غمرة هذا الكفاح الدائب وفي أثناء هذا المشوار الطويل وفي وسط هذه الدوامة السريعة يحتاج الإنسان إلى يقظة روحية تذكره بالخالق وكلامه وبسيد الخلق وسنته ترشده إلى الهداية تصوب من أخطائه وتؤكد من تصويباته، يحتاج إلى مراجعة لأعماله الدنيوية ومدى انطباقها على ما سنه الدين من الفضائل ومدى تجافيها عما حرمه من الرذائل.
فإذا كانت الصلاة تسمح بأن يقف المصلى بين يدي ربه خاشعا نائبا في أوقات قصيرة وسرعان ما ينقضي وقت الصلاة فيعود إلى مشاغله اليومية وقد تلهيه هذه المشاغل عما أحسه ساعة الخشوع بين يدي الله لذا فهو في حاجة إلى اتصال بربه على مدى أطول وهذا المدى الأطول يجده الإنسان في شهر رمضان لمن أحسن الصيام عن المفطرات من أكل وشرب وجماع، وعن سائر ما نهى الله عنه من قول أو فعل، ولمن واظب على صلاة التراويح وقيام الليل بالعبادة والطاعة والتبتل إلى الله عز وجل وقراءة القرآن والاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر والاعتكاف وإحياء ليلة القدر المباركة والقيام بسائر أعمال البر والإحسان.
فشهر رمضان هو الشهر الذي أنزلت فيه الكتب السماوية فعن واثلة بن الأسقع أن رسول الله ﷺ قال: "أنزلت صحف إبراهيم عليه السلام في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل الفرقان لأربع وعشرين خلت من رمضان".
(1) وقد أنزله الله تعالى جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} (سورة البقرة آية 185) كما أنزلت أول فوج من آيات القرآن العزيز حملها الروح الأمين إلى قلب الرسول الكريم وهي قوله تعالى: {أقرا باسم ربك الذي خلق} (سورة العلق آية 1) في شهر رمضان.
(3) كما كان جبريل عليه السلام يدارس القرآن مع رسول الله ﷺ في كل ليلة من رمضان فهو شهر المراجعة لما تم حفظه ما بين العام والعام.
(4) فكان يعارض جبريل به (أي يقرأ ويسمع جبريل) ثم يسمع من جبريل كما ثبت في الصحيح عن فاطمة كريمته رضى الله عنها.
(5) غير أن العام الذي قبض فيه رسول الله ﷺ راجع القرآن الكريم جبريل مع الرسول ﷺ مرتين وهو ما يسمى بالعرضة الأخيرة وهي العرضة التي تم فيها ترتيب القرآن.
(6) وجدير بشهر اصطفاه الله لينزل فيه أفضل كتبه إلى خيرة خلقه أن يكون أهلا لقراءة القرآن وتلاوته وحفظه وتعلم أحكامه.
وفي كل ليلة من ليالي شهر رمضان يؤدي المسلم صلاة التراويح من بعد صلاة العشاء وقبل صلاة الوتر ويمتد وقتها قبيل الفجر وقد رغب النبي ﷺ في هذه الصلاة فقال: "من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه". وقد صلى الرسول ﷺ بالمسلمين إحدى عشر ركعة بينما كانوا يصلون في عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه عشرين ركعة، وكان عليه الصلاة والسلام يجتهد في العشر الأواخر من رمضان بما لا يجتهد في غيره كما روى في حديث رواه مسلم وعن عائشة رضى الله عنها أن الرسول ﷺ: "كان إذ دخل الثلث الأخير من رمضان شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله" رواه البخاري، وفي رواية ابن أبى عاصم عنها: "طوى فراشه واعتزل النساء وجعل العشاء سحورا".
(7) وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ: "كان إذا دخل العشر الأواخر أحيى الليل وأيقظ أهله وشد المئزر".
(8) واستكمالًا للحياة الروحية في شهر رمضان يسن للصائم في العشر الأواخر من الشهر أن يعتكف فمن الحكم التى من أجلها شرع الاعتكاف الإكثار من العبادة والطاعة والتقرب إلى الله تعالى والتخفف من مشاغل الحياة ومتعتها وشهواتها والتأمل في ملكوته تعالى، روى ابن ماجه عن ابن عباس رضى الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال في المعتكف: "هو يعكف الذنوب ويجري له من الحسنات كعامل الحسنات كلها" أي أن الاعتكاف يحفظ المعتكف من الشرور ويكتب له كثواب فاعل الطاعات كلها لأنه حبس نفسه في بيت الله طلبا لرضاه، والاعتكاف معناه لزوم الشيء وحبس النفس عليه خيرا كان أم شرا قال تعالى: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} (سورة الأنبياء آية 52) أي مقيمون متعبدون لها والمقصود به هنا لزوم المسجد والإقامة فيه بنية التقرب إلى الله عز وجل، وهو من العبادات القديمة كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} (سورة البقرة آية 125) وقد ثبت مشروعية الاعتكاف بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فيشير إلى مشروعية الاعتكاف في قوله تعالى في (سورة البقرة آية 187) {ولا تباشرهن وأنتم عاكفون في المساجد} أي لا تجامعوا زوجاتكم خلال اعتكافكم في بيوت الله تعالى وأما السنة فمنها مما رواه الشيخان عن عائشة رضى الله عنها قالت كان النبي ﷺ: "يعتكف في العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده".
وروى البخاري وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ كان يعتكف في كل رمضان عشرة أيام فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما كم أجمع العلماء على مشروعية الاعتكاف، وما يتطوع به المسلم تقربا إلى الله وطلبا لثوابه واقتداء بالرسول صلوات الله وسلامه عليه في العشر الأواخر من رمضان هو الاعتكاف المسنون وهناك نوع آخر من الاعتكاف وهو الاعتكاف الواجب وهو ما أوجبه المرء على نفسه إما بالنذر المطلق مثل أن يقول لله علي أن أعتكف كذا أو بالنذر المعلق كقوله إن شفا الله مريضي لأعتكفن كذا وفي صحيح البخاري أن النبي ﷺ قال: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" وفيه أن عمر رضي الله عنه قال يا رسول الله إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام فقال: "أوف بنذرك" أما مدة الاعتكاف: فإذا كان الاعتكاف واجب يؤدى حسب ما نذره وسماه الناذر فإن نذر الاعتكاف يوما أو أكثر وجب الوفاء بما نذر، إما إذا كان مستحب فليس له وقت محدد فهو يتحقق بالمكث في المسجد مع نية الاعتكاف طال الوقت أم قصر ويثاب المعتكف ما بقي في المسجد فإذا خرج منه ثم عاد إليه جدد النية إن قصد الاعتكاف، وللمعتكف أن يقطع اعتكافه المستحب متى شاء قبل قضاء المدة التي نواها
(9) وللاعتكاف شروط فمنها الإسلام والتميز ووقوعه في المسجد والنية والطهارة من الجنابة والحيض والنفاس وزاد المالكية على ذلك شرط الصوم سواء كان الاعتكاف منذورا أو تطوعا وزاد الحنفية أيضا شرط الصوم في الاعتكاف إن كان الاعتكاف واجبا أما التطوع فلا يشترط فيه الصوم، ولا يصح اعتكاف المرأة بغير إذن زوجها ولو كان اعتكافها منذورا سواء علمت أنه يحتاج إليها للاستمتاع أو ظنت أو لا، كما له مفسدات فمنها الجماع عمدا ولو بدون إنزال سواء كان بالليل أو بالنهار باتفاق والخروج من المسجد والردة وذهاب العقل بجنون أو سكر، والحيض والنفاس لفوات شرط التميز والطهارة من الحيض والنفاس.
(10) ويباح للمعتكف خروجه من معتكفه لتوديع أهله، وترجيل شعره وحلق رأسه وتقليم أظفاره وتنظيف البدن من الشعث والدرن ولبس أحسن الثياب والتطيب بالطيب، والخروج للحاجة التي لابد منها، وله أن يأكل ويشرب في المسجد وينام فيه مع المحافظة على نظافته وصيانته وله أن يعقد العقود فيه كعقد النكاح وعقد البيع والشراء ونحو ذلك، ويستحب للمعتكف أيضا أن يكثر من نوافل العبادات ويشغل نفسه بالصلاة وتلاوة القرآن والتسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والاستغفار والصلاة والسلام على النبي ﷺ والدعاء ونحو ذلك من الطاعات التي تقرب إلى الله تعالى وتصل المرء بخالقه جل ذكره ومما يدخل في هذا الباب دراسة العلم واستذكار كتب التفسير والحديث وقراءة سير الأنبياء والصالحين وغيرها من كتب الفقه والدين ويستحب له أن يتخذ خباء في صحن المسجد اتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم.
(11) وفي العشر الأواخر من رمضان، يتخللها ليلة القدر وليلة القدر أفضل ليالي السنة لقوله تعالى في سورة القدر: {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر سلام هى حتى مطلع الفجر} وعن أبي نعيم: أربع ليال كأيامهن وأيامهن كلياليهن يبر الله فيهن النسم (الأرواح) ويعطي فيهن الخير الجزيل: ليلة القدر وصباحها وليلة النصف من شعبان وصباحها وليلة عرفة وصباحها وليلة الجمعة وصباحها، ويستحب طلبها في الوتر من العشر الأواخر من رمضان وروى أحمد بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله ﷺ: "من كان متحريها فليتحريها ليلة السابع والعشرين" وليلة القدر أفضل من ألف شهر بسبب ما أنزل فيها من قرآن كريم وبسبب أن العبادة فيها أكثر ثوابا وأعظم قبولا من العبادة في أشهر كثيرة ليس فيها ليلة القدر والعمل القليل قد يفضل العمل الكثير باعتبار الزمان والمكان وإخلاص النية وحسن الأداء ولله تعالى أن يخص بعض الأزمنة والأمكنة والأشخاص بفضائل متميزة أي إن العمل فيها من الصلاة والتلاوة والذكر خير من العمل في ألف شهر روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: "من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه" وروى أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أرأيت إن علمت أي ليلة، ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".
(12) ومن مزايا هذه الليلة المباركة أن الملائكة وعلى رأسهم جبريل ينزلون فيها أفواجا إلى الأرض بأمره تعالى وإذنه وهم جميعا إنما ينزلون من أجل كل أمر من الأمور التي يريد الله تعالى إبلاغها إلى عباده ومن أجل نشر البركات التي تحفهم فنزولهم في تلك الليلة يدل على شرفها وعلى رحمة الله تعالى بعباده، وعن الرسول ﷺ إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل عليه السلام في كبكبة من الملائكة يصلون ويسلمون على كل قائم وقاعد يذكر الله تعالى، وقوله تعالى: {سلام هي حتى مطلع الفجر} بيان لمزية أخرى من مزايا هذه الليلة أي هذه الليلة يظلها ويشملها السلام المستمر والأمان الدائم لكل مؤمن يحييها في طاعة الله تعالى إلى أن يطلع الفجر أو هي سالمة من كل أذى وسوء لكل مؤمن ومؤمنة حتى طلوع الفجر.
(13) ولو لم يكن في رمضان إلا ليلة القدر لكفاه شرفا وكرامة وفضلا وفخرا.
(14) وفي رمضان يتحلى المسلم بآداب الصيام من حسن الخلق وجميل الصفات وسعة البذل والعطاء بل والجهاد بشقيه الأصغر والأكبر في سبيل الله، ويتزود المسلم فيه بزاد التقوى فإذا انقضت أيام الصيام تركت أثرها وأصبحت مدد لا ينقطع آثاره طيلة العام لذلك كان شهر رمضان طاقة ومخزونا لكل أيام السنة لمواجهة مرحلة ما بعد رمضان وهذا هو الاختبار الحقيقي لمقدار ما خرج به من هذا الشهر المبارك وليس كما يتصور البعض أن رمضان موسم الطاعة وبعده لا طاعة فتقوى الله ليست قاصرة على مواسم بعينها.
وإن كانت أيام رمضان أيام عبادة و طاعة وتقرب إلى الله والانصراف عن مشاغل الدنيا وهمومها والتفرغ لكل عمل يحصد ثماره في الآخرة في جنة الرضوان، إلا أن هذا لا يمنع أن تكون أيام رمضان جهاد في سبيل الله ونصر حربي وعسكري إذا تتطلب الأمر كذلك وليس كما يظن الكسالى الخاملون أن الصيام يضعف البدن ويخمد القوى فهم بذلك الفهم في كسل دائم ينامون أكثر الوقت وينقطعون عن العمل الجاد دون مبرر هؤلاء واهمون لأن الصيام مصدر قوة روحية تدفع إلى العمل واعتقاد المؤمن أنه يؤدي عبادة فرضها الخالق عليه يمده بالروح الفتى والعزم القوى ولقد كانت شهور رمضان أيام نصر حربي وفوز نضالي.
ففي مواسم هذا الشهر الكريم تحققت انتصارات إسلامية رائعة، ففي السنة الثالثة من الهجرة وفي شهر رمضان كانت غزوة بدر وفي السنة الثامنة من الهجرة وفي شهر رمضان كانت غزوة الفتح الأعظم.
وفي رمضان من العام الخامس عشر الهجري كانت معركة القادسية وفيها قضي على المجوسية بفارس وفي رمضان من العام الثاني والتسعين كان فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد.
وفي رمضان سنة إحدى وستين وثلاثمائة تم بناء الجامع الأزهر بمصر وفي رمضان سنة أربع وثمانين وخمسمائة تم طرد الصلبين من سوريا على يد صلاح الدين الأيوبي.
وفي رمضان سنة ثمان وخمسين وستمائة انتصر المسلمون على التتار في موقعة عين جالوت.
وفي رمضان سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ألف تم عبور القوات المصرية لقناة السويس وطردت القوات الإسرائيلية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
(1) البركة في القرآن الكريم محمد أحمد طه علي ص 158
(2) تفسير القرآن العظيم لابن كثير ج4 ص 529
(3) العبادة في الإسلام يوسف القرضاوي ص 287
(4) مجلة الهداية تصدرها وزارة العدل والشئون الإسلامية بدولة البحرين العدد 271 السنة الثالثة والعشرون رمضان 1420ه يناير 2000م مقال بعنوان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) من ص 22 إلى ص 27
(5) من وصايا الرسول ﷺ طه عبدالله العفيفي ج1 ص 301
(6) مجلة الهداية تصدرها وزارة العدل والشئون الإسلامية بدولة البحرين العدد 271 السنة الثالثة والعشرون رمضان 1420ه يناير 2000م مقال بعنوان (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن) من ص 22 إلى ص 27
(7) من وصايا الرسول ﷺ طه عبدالله العفيفي ج1 ص 301
(8) فقه السنة السيد سابق ج1 ص 459
(9) فقه السنة السيد سابق ج1 ص 475 و476
(10) الفقه على المذاهب الأربعة عبدالرحمن الجزيري ج1 من ص 583 إلى ص 585
(11) فقه السنة السيد سابق ج1 ص 481 و 482
(12) فقه السنة السيد سابق ج1 ص 472 - 473
(13) البركة في القرآن الكريم محمد أحمد طه علي ص 170 إلى ص 171
(14) جريدة أخبار العالم الإسلامي العدد 1632 بتاريخ 12 رمضان 1420ه الموافق 26 ديسمبر عام 1999م مقال بعنوان (قبسات من أنوار رمضان) ص 9
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد