بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
السؤال: بالنسبة لقاعدة (ترك النبي ﷺ لفعل ما مع وجود المقتضي له وانتفاء المانع يدل على أن ترك ذلك الفعل سنة وفعله بدعة).
هل يقال هذا: في ترك النبي ﷺ التصدق عن احب الناس إليه كخديجة وحمزة رضي الله عنهم، وكذا تخصيصهم بالدعاء والاستغفار لهم؟ آمل إفادتي فضيلة الشيخ.
الجواب: حياكم الله أخي الفاضل: تركه عليه الصلاة والسلام يمكن تقسيمه إلى صريح وإلى غير صريح.
فالصريح: ما نقل عنه صراحة أنه عليه الصلاة والسلام أعرض وتركه وكف عنه ولم يفعله لمانع منعه ذلك، فهذا المسمى والترك الوجودي الكفي، وهو الذي كان فيه قصد من التارك للكف عنه، ويطلق عليه الكف، كتركه عليه الصلاة والسلام الصلاة على من قتل نفسه، كما في الحديث الصحيح: "أُتيَ النَّبيُّ ﷺ برَجُلٍ قَتَل نَفسَه بمَشاقِصَ وهي السهم العريض ، فلم يُصَلِّ عليه" فتركه عليه الصلاة والسلام، الصلاة عليه: زجرا لغيره عن فعل هذه الكبيرة، ونحوه قوله عليه الصلاة والسلام: "لولا أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ مِن الأُمَمِ لأمَرتُ بقَتلِها؛ فاقتُلوا مِنها الأسوَدَ البَهيمَ" فتركه عليه الصلاة والسلام قتل الكلام لكونها أمة من الأمم. ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: "لقد هَمَمتُ أن أنهى عن الغِيلةِ حتَّى ذَكَرتُ أنَّ الرُّومَ وفارِسَ يَصنَعونَ ذلك، فلا يَضُرُّ أولادَهم"، فترك عليه الصلاة والسلام النهي عن الغيلة لانكشاف الأمر له في ذلك.
أما غير الصريح أو ما يسمى الترك العدمي: وهو عدم النقل عنه عليه الصلاة والسلام أنه فعل فعلا من الأفعال فالقصد إلى الترك منه عليه الصلاة والسلام غير متمحض، فيحتمل أنه تركه قصدا، ويحتمل أنه لم يتركه لكن لم ينقل لعدم الموجب اكتفاء بدلالات العموم، ويحتمل أنه غفل عنه، ويحتمل أنه تركه لمانع قد زال، ويحتمل أنه تركه لعدم قيام الحامل لهذا العمل، وغيرها من الاحتمالات، ومع كثرة الاحتمالات فلا تكون دلالة الترك العدمي قوية بل ضعيفة لأن الترك عدم محض والعدم لا يؤخذ منه حكم. فينظر في دلالة الترك العدمي في أحوال:
الأولى: إذا جاءت مؤكدة للعمومات والأدلة الصريحة فدلالة الترك تكون مقوية لا منشئة نحو تركه عليه الصلاة والسلام عبادة زائدة على الثابت المشروع، فهي مؤكدة لأصل: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد".
الثانية: إذا جاءت مخالفة للأدلة الصريحة، فالأدلة المنطوقة الصريحة أقوى من الترك العدمي، ومنه هذه المسألة: ترك الصدقة والدعاء لأقاربه عليه الصلاة والسلام، ممن ماتوا قبله كخديجة وحمزة وغيرهما رضي الله عنهم فهذا الترك منه عليه الصلاة والسلام ترك عدمي، لا تؤخذ منه دلالة لأنه عدم محض لا يكشف فيه قصد منه عليه الصلاة والسلام إلى هذا الترك، لقيام احتمالات كثيرة في سببه، فتترك هذه الدلالة، وتؤخذ الدلالة من النصوص الصريحة التي تواترت بالاستغفار للمؤمنين عموما، فالأقارب أولى بذلك، نحو قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } [محمد: 19] {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي} [الأعراف: 151] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: "ما مِن عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لأَخِيهِ بظَهْرِ الغَيْبِ، إلَّا قالَ المَلَكُ: وَلَكَ بمِثْله"، والاستغفار أفضل الدعاء وأرجاه، وفي سنن النسائي بإسناد صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ اللَّهِ ﷺ كلَّما كانت ليلتُها من رسولِ اللَّهِ ﷺ يَخرُجُ في آخرِ اللَّيلِ إلى البقيعِ فيقولُ: السَّلامُ عليْكم دارَ قومٍ مؤمِنينَ وإنَّا وَإيَّاكم متواعِدونَ غدًا أو مواكِلونَ وإنَّا إن شاءَ اللَّهُ بِكم لاحقونَ اللَّهمَّ اغفِر لأَهلِ بقيعِ الغرقَد".
فهذه الأدلة وغيرها قاطعة بالدعاء لكل مؤمن والاستغفار لهم والأقارب أولى بذلك وأحرى، وهي أقوى من مجرد دلالة الترك فيجب أن نضع دلالة الترك في منزلتها في الدلالة، ولا نتعداها لئلا نضرب النصوص بعضها ببعض، فمتى ثبتت النصوص الواضحة فلا نحتاج إلى دلالة الترك العدمي لأنها دلالة ضعيفة محتملة.
ومما يكشف لنا دلالة الترك أكثر من كونها مقصودة أو غير مقصودة: عمل الصحابة رضي الله عنهم وأقوالهم وكذا عمل التابعين وأقوالهم فغالبا لها أثر كبير في بيان حقيقة دلالة الترك العدمي، والله أعلم.