" الم "
تقدم الكلام على
البسملة.
وأما الحروف المقطعة في أوائل السور, فالأسلم فيها, السكوت عن التعرض لمعناها من
غير مستند شرعي, مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها.
" ذلك
الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين "
وقوله " ذَلِكَ
الْكِتَابُ " أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على الحقيقة,
المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين, من العلم العظيم, والحق المبين.
فهو " لَا رَيْبَ فِيهِ " ولا شك بوجه من الوجوه.
ونفي الريب عنه, يستلزم ضده, إذ ضد الريب والشك, اليقين.
فهذا الكتاب مشتمل على على اليقين المزيل للشك والريب.
وهذه قاعدة مفيدة, أن النفي المقصود به المدح, لا بد أن يكون متضمنا لضدة, وهو
الكمال, لأن النفي عدم, والعدم المحض, لا مدح فيه.
فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية لا تحصل إلا باليقين قال: "
هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " والهدى: ما تحصل به الهداية من الضلالة
والشبه: وما به الهداية إلى سلوك الطرق النافعة.
وقال " هُدًى " وحذف المعمول, فلم يقل هدى
للمصلحة الفلانية, ولا للشيء الفلاني, لإرادة العموم, وأنه هدى لجميع مصالح
الدارين.
فهو مرشد للعباد في المسائل الأصولية والفروعية, ومبين للحق من الباطل, والصحيح من
الضعيف, ومبين لهم كيف يسلكون الطرق النافعة لهم, في دنياهم وأخراهم.
وقال في موضع آخر " هُدًى لِلنَّاسِ " فعمم.
وفي هذا الموضع وغيره " هُدًى لِلْمُتَّقِينَ " لأنه
في نفسه هدى لجميع الناس.
فالأشقياء لم يرفعوا به رأسا.
ولم يقبلوا هدى الله, فقامت عليهم به الحجة, ولم ينتفعوا به لشقائهم.
وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الأكبر, لحصول الهداية, وهو التقوى التي حقيقتها:
اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه, بامتثال أوامره, واجتناب نواهيه, فاهتدوا به,
وانتفعوا.
غاية الانتفاع.
قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا
اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا " .
فالمتقون هم المنتفعون بالآيات القرآنية, والآيات الكونية.
ولأن الهداية نوعان: هداية البيان, هداية التوفيق.
فالمتقون حصلت لهم الهدايتان, وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق.
وهداية البيان بدون توفيق للعمل بها, ليست هداية حقيقية تامة.
" الذين
يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون "
ثم وصف المتقين بالعقائد والأعمال الباطنة,
والأعمال الظاهرة, لتضمن التقوى لذلك فقال: " الَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ " .
حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل, المتضمن لانقياد الجوارح.
وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس, فإنه لا يتميز بها المسلم من
الكافر.
إنما الشأن في الإيمان بالغيب, الذي لم نره ولم نشاهده, وإنما نؤمن به, لخبر الله
وخبر رسوله.
فهذا الإيمان الذي يميز به المسلم من الكافر, لأنه تصديق مجرد لله ورسله.
فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به, أو أخبر به رسوله, سواء شاهده, أو لم يشاهده
وسواء فهمه وعقله, أو لم يهتد إليه عقله وفهمه.
بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية, لأن عقولهم القاصرة المقصرة لم تهتد
إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت عقولهم, ومرجت أحلامهم.
وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين بهدى الله.
ويدخل في الإيمان بالغيب, الإيمان بجميع ما أخبر الله به من الغيوب الماضية
والمستقبلة, وأحوال الآخرة, وحقائق أوصاف الله وكيفيتها, وما أخبرت به الرسل من
ذلك.
فيؤمنون بصفات الله ووجودها, ويتيقنونها, وإن لم يفهموا كيفيتها.
ثم قال " وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ " لم يقل:
يفعلون الصلاة, أو يأتون بالصلاة, لأنه لا يكفي فيها مجرد الإتيان بصورتها
الظاهرة.
فإقامة الصلاة, إقامتها ظاهرا, بإتمام أركانها, وواجباتها, وشروطها.
وإقامتها باطنا, بإقامة روحها, وهو حضور القلب فيها, وتدبر ما يقوله ويفعله منها.
فهذه الصلاة هي التي قال الله فيها " إِنَّ الصَّلَاةَ
تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ " وهي التي يترتب عليها
الثواب.
فلا ثواب للعبد من صلاته, إلا ما عقل منها.
ويدخل في الصلاة فرائضها ونوافلها.
ثم قال " وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ " يدخل
فيه النفقات الواجبة كالزكاة, والنفقه على الزوجات والأقارب, والمماليك ونحو ذلك.
والنفقات المستحبة بجميع طرق الخير.
ولم يذكر المنفق عليهم, لكثرة أسبابه وتنوع أهله, ولأن النفقة من حيث هي, قربة إلى
الله.
وأتى بـ " من " الدالة على التبعيض, لينبههم أنه
لم يرد منهم إلا جزءا يسيرا من أموالهم, غير ضار لهم ولا مثقل, بل ينتفعون هم
بإنفاقه, وينتفع به إخوانهم.
وفي قوله " رَزَقْنَاهُمْ " إشارة إلى أن هذه
الأموال التي بين أيديكم, ليست حاصلة بقوتكم وملككم, وإنما هي رزق الله, الذي
خولكم, وأنعم به عليكم.
فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده, فاشكروه بإخراج بعض ما أنعم به عليكم,
وواسوا إخوانكم المعدمين.
وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلاة والزكاة في القرآن, لأن الصلاة متضمنة للإخلاص
للمعبود, والزكاة والنفقة, متضمنة الإحسان على عبيده.
فعنوان سعادة العبد, إخلاصه للمعبود, وسعيه في نفع الخلق.
كما أن عنوان شقاوة العبد, عدم هذين الأمرين منه, فلا إخلاص ولا إحسان.
" والذين
يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون "
ثم قال " وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ " وهو القرآن والسنة.
قال تعالى " وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ " .
فالمتقون يؤمنون بجميع ما جاء به الرسول, ولا يفرقون بين بعض ما أنزل إليه,
فيؤمنون ببعضه, ولا يؤمنون ببعضه, إما بجحده أو تأويله, على غير مراد الله ورسوله,
كما يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة, الذين يؤولون النصوص الدالة على خلاف قولهم,
بما حاصله عدم التصديق بمعناها, وإن صدقوا بلفظها, فلم يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا.
وقوله " وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ " يشمل
الإيمان بجميع الكتب السابقة.
ويتضمن الإيمان بالكتب, الإيمان بالرسل وبما اشتملت عليه, خصوصا التوراة والإنجيل
والزبور.
وهذه خاصية المؤمنين, يؤمنون بالكتب السماوية كلها, وبجميع الرسل فلا يفرقون بين
أحد منهم.
ثم قال " وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ " .
و " الآخرة " اسم لما يكون بعد الموت.
وخصه بالذكر بعد العموم, لأن الإيمان باليوم الآخر, أحد أركان الإيمان.
ولأنه أعظم باعث الرغبة والرهبة والعمل.
و " اليقين " هو العلم التام, الذي ليس فيه أدنى
شك, والموجب للعمل.
" أولئك على
هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون "
" أُولَئِكَ " أي الموصوفون بتلك الصفات الحميدة " عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ " أي: على هدى عظيم, لأن
التنكير للتعظيم.
وأي هداية أعظم من تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والأعمال
المستقيمة؟!!.
وهل الهداية في الحقيقة, إلا هدايتهم وما سواها مما خالفها, فهي ضلالة.
وأتى بـ " على " في هذا الموضع, الدالة على
الاستعلاء, وفي الضلالة يأتي بـ " في " كما في
قوله " وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ " لأن صاحب الهدى مستعمل بالهدى, مرتفع به, وصاحب
الضلال منغمس فيه محتقر.
ثم قال " وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ " والفلاح
هو الفوز بالمطلوب والنجاة من المرهوب.
حصر الفلاح فيهم, لأنه لا سبيل إلى الفلاح إلا بسلوك سبيلهم, وما عدا تلك السبيل,
فهي سبل الشقاء والهلاك والخسار, التي تفضي بسالكها إلى الهلاك.
" إن الذين
كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون "
فلهذا, لما ذكر صفات المؤمنين حقا, ذكر صفات
الكفار المظهرين لكفرهم المعاندين للرسول فقال.
" إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ
أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى
قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ
عَظِيمٌ " .
يخبر تعالى: أن الذين كفروا, أي: اتصفوا بالكفر, وانصبغوا به, وصار وصفا لهم
لازما, لا يردعهم عنه رادع, ولا ينجع فيهم وعظ.
إنهم مستمرون على كفرهم, فسواء عليهم أأنذرتهم, أم لم تنذرهم لا يؤمنون.
وحقيقة الكفر, هو: الجحود لما جاء به الرسول, أو جحد بعضه.
فهؤلاء الكفار, لا تفيدهم الدعوة, إلا إقامة الحجة, وكأن في هذا قطعا, لطمع الرسول
صلى الله عليه وسلم في إيمانهم, وأنك لا تأس عليهم, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات
" ختم الله
على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم "
ثم ذكر الموانع المانعة لهم من الإيمان فقال:
" خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ
" أي: طبع عليها بطابع لا يدخلها الإيمان, ولا ينفذ فيها فلا يعون ما
ينفعهم, ولا يسمعون ما يفيدهم.
" وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ " أي: غشاء
وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي ينفعهم, وهذه طرق العلم والخير, قد سدت عليهم,
فلا مطمع فيهم, ولا خير يرجى عندهم.
وإنما منعوا ذلك, وسدت عنهم أبواب الإيمان بسبب كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما
تبين لهم الحق, كما قال تعالى: " وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ
وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ " وهذا
عقاب عاجل.
ثم ذكر العقاب الآجل فقال: " وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ "
وهو عذاب النار, وسخط الجبار المستمر الدائم.
" ومن الناس
من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين "
ثم قال تعالى: في
وصف المنافقين, الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر: " وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ
بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا
أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ
مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ " .
واعلم أن النفاق هو: إظهار الخير.
وإبطان الشر.
ويدخل في هذا التعريف, النفاق الاعتقادي, والنفاق العملي.
كالذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في قوله " آية المنافق
ثلات: إذا حدث كذب, وإذا وعد أخلف, وإذا ائتمن خان " .
وفي رواية " وإذا خاصم فجر " .
وأما النفاق الاعتقادي المخرج عن دائرة الإسلام, فهو الذي وصف الله به المنافقين
في هذه السورة وغيرها.
ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة, ولا
بعد الهجرة, حتى كانت وقعة " بدر " وأظهر الله
المؤمنين, وأعزهم.
فذل من في المدينة ممن لم يسلم, فأظهر الإسلام بعضهم خوفا ومخادعة, ولتحقن دماؤهم,
وتسلم أموالهم, فكانوا بين أظهر المسلمين, في الظاهر أنهم منهم, وفي الحقيقة,
ليسوا منهم.
فمن لطف الله بالمؤمنين, أن جلا أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها, لئلا يغتر بهم
المؤمنون, ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم.
وقال تعالى " يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ
عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ " .
فوصفهم الله بأصل النفاق فقال: " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ
" فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
فأكذبهم الله بقوله " وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ " لأن
الإيمان الحقيقي, ما تواطأ عليه القلب واللسان, وإنما هذا مخادعة لله ولعباده
المؤمنين.
" يخادعون
الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون "
والمخادعة: أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا,
ويبطن خلافه لكي يتمكن من مقصوده ممن يخادع.
فهؤلاء المنافقون, سلكوا مع الله وعباده هذا المسلك, فعاد خداعهم على أنفسهم.
وهذا من العجائب, لأن المخادع, إما أن ينتج خداعه ويحصل له مقصوده, أو يسلم, لا له
ولا عليه.
وهؤلاء عاد خداعهم على أنفسهم, وكأنهم يعملون ما يعملون من المكر لإهلاك أنفسهم
وإضرارها وكيدها.
لأن الله تعالى لا يتضرر بخداعهم شيئا, وعباده المؤمنون, لا يضرهم كيدهم شيئا.
فلا يضر المؤمنين أن أظهر المنافقون الإيمان, فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم,
وصار كيدهم في نحورهم, وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا, والحزن المستمر
بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة.
ثم في الآخرة, لهم العذاب الأليم الموجع المفجع, بسبب كذبهم, وكفرهم, وفجورهم,
والحال أنهم - من جهلهم وحماقتهم - لا يشعرون بذلك.
" في قلوبهم
مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون "
وقوله " فِي قُلُوبِهِمْ
مَرَضٌ " المراد بالمرض هنا: مرض الشك, والشبهات, والنفاق.
وذلك أن القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته واعتداله: مرض الشبهات الباطلة, ومرض
الشهوات المردية.
فالكفر والنفاق, والشكوك والبدع, كلها من مرض الشبهات.
والزنا, ومحبة الفواحش والمعاصي وفعلها, من مرض الشهوات.
كما قال تعالى " فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ
" وهو شهوة الزنا.
والمعافي, من عوفي من هذين المرضين, فحصل له اليقين والإيمان, والصبر عن كل معصية,
فرفل في أثواب العافية.
وفي قوله عن المنافقين " فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ
اللَّهُ مَرَضًا " بيان لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين,
وأنه بسب ذنوبهم السابقة, يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوبتها كما قال
تعالى.
" وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ
يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ " .
وقال تعالى " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ
" .
وقال تعالى " وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ
فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ " .
فعقوبة المعصية, المعصية بعدها, كما أن من ثواب الحسنة, الحسنة بعدها.
قال تعالى " وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى
" .
" وإذا قيل
لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون "
أي: إذا نهى هؤلاء المنافقون عن الإفساد في
الأرض, وهو العمل بالكفر.
والمعاصي, ومنه إظهار سرائر المؤمنون لعدوهم وموالاتهم للكافرين "
قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ " .
فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض, وإظهار أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح, قلبا
للحقائق, وجمعا بين فعل الباطل واعتقاده حقا.
وهؤلاء أعظم جناية ممن يعمل بالمعاصي, مع اعتقاد تحريمها, فهذا أقرب للسلامة,
وأرجى لرجوعه.
ولما كان في قولهم " إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ " حصر
للإصلاح في جانبهم - وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الإصلاح - قلب الله عليهم
دعواهم بقوله:
" ألا إنهم
هم المفسدون ولكن لا يشعرون "
" أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ " فإنه لا أعظم إفسادا ممن كفر بآيات الله, وصد
عن سبيل الله وخادع الله وأولياءه, ووالى المحاربين لله ورسوله, وزعم - مع هذا -
أن هذا إصلاح, فهل بعد هذا الفساد فساد؟!! ولكن لا يعلمون علما ينفعهم, وإن كانوا
قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم حجة الله.
وإنما كان العمل في الأرض إفسادا, لأنه سبب لفساد ما على وجه الأرض من الحبوب
والثمار والأشجار, والنبات, لما يحصل فيها من الآفات التي سببها المعاصي.
ولأن الإصلاح في الأرض, أن تعمر بطاعة الله والإيمان به, لهذا خلق الله الخلق,
وأسكنهم الأرض, وأدر علهيم الأرزاق, ليستعينوا بها على طاعته وعبادته.
فإذا عمل فيها بضده, كان سعيا فيها بالفساد, وإخرابا لها عما خلقت له.
" وإذا قيل
لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا
يعلمون "
أي: إذا قيل
للمنافقين: آمنوا كما آمن الناس, أي: كإيمان الصحابة " 4 وهو الإيمان بالقلب
واللسان, قالوا - بزعمهم الباطل -: أنؤمن كما آمن السفهاء؟.
يعنون - قبحهم الله - الصحابة " 4, لزعمهم أن سفههم, أوجب لهم الإيمان, وترك
الأوطان, ومعاداة الكفار.
والعقل عندهم يقتضي ضد ذلك, فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمن ذلك, أنهم هم العقلاء
أرباب الحجى والنهي.
فرد الله ذلك عليهم, وأخبر أنهم, هم السفهاء على الحقيقة, لأن حقيقة السفه, جهل
الإنسان بمصالح نفسه, وسعيه فيما يضرها, وهذه الصفة منطبقة عليهم.
كما أن العقل والحجا, معرفة الإنسان بمصالح نفسه, والسعي فيما ينفعه, وفي دفع ما
يضره.
وهذه الصفة, منطبقة على الصحابة والمؤمنين.
فالعبرة بالأوصاف والبرهان, لا بالدعاوى المجردة, والأقوال الفارغة.
" وإذا لقوا
الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون
"
هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم.
وذلك أنهم إذا اجتمعوا بالمؤمنين, أظهروا أنهم على طريقتهم, وأنهم معهم, فإذا خلو
إلى شياطينهم - أي كبرائهم ورؤسائهم بالشر - قالوا: إنا معكم في الحقيقة, وإنما
نحن مستهزئون بالمؤمنين بإظهارنا لهم, أنا على طريقتهم.
فهذه حالهم الباطنة والظاهرة, ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
" الله
يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون "
قال تعالى " اللَّهُ
يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ " .
وهذا جزاء لهم, على استهزائهم بعباده.
فمن استهزائه بهم, أن زين لهم ما كانوا فيه من الشقاء والأحوال الخبيثة, حتى ظنوا
أنهم مع المؤمنين, لما لم يسلط الله المؤمنين عليهم.
ومن استهزائه بهم يوم القيامة, أن يعطيهم مع المؤمنين نورا ظاهرا, فإذا مشي
المؤمنون بنورهم, طفئ نور المنافقين, وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين, فما أعظم
اليأس بعد الطمع.
" يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى
وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ " الآية.
قوله " وَيَمُدُّهُمْ " أي يزيدهم " فِي طُغْيَانِهِمْ " أي: فجورهم وكفرهم " يَعْمَهُونَ " أي حائرون مترددون, وهذا من استهزائه
تعالى بهم.
" أولئك
الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين "
ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم " أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا
رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ " .
أولئك, أي: المنافقون الموصوفون بتلك الصفات " الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى " أي: رغبوا في الضلالة, رغبة
المشتري في السلعة, التي - من رغبته فيها - يبذل فيها الأموال النفيسة.
وهذا من أحسن الأمثلة, فإنه جعل الضلالة, التي هي غاية الشر, كالسلعة.
وجعل الهدى, الذي هو غاية الصلاح, بمنزلة الثمن.
فبذلوا الهدى, رغبة عنه في الضلالة رغبة فيها.
فهذه تجارتهم, فبئس التجارة, وهذه صفقتهم, فبئست الصفقة.
وإذا كان من يبذل دينارا في مقابلة درهم خاسرا, فكيف من بذل جوهرة وأخذ عنها
درهما؟!! فكيف من بذل الهدى.
.
.
في مقابلة الضلالة, واختار الشقاء على السعادة, ورغب في سافل الأمور وترك
عاليها؟!! فما ربحت تجارته, بل خسر فيها أعظم خسارة.
" قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
" .
وقوله " وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ " تحقيق
لضلالهم, وأنهم لم يحصل لهم من الهداية شيء, فهذه أوصافهم القبيحة.
" مثلهم
كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا
يبصرون "
ثم ذكر مثلهم فقال: "
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ
ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ صُمٌّ
بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ
ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ
الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ
الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا
أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
أي: مثلهم المطابق لما كانوا عليه, كمثل الذي استوقد نارا.
أي: كان في ظلمة عظيمة, وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره, ولم تكن عنده
معدة, بل هي خارجة عنه.
فلما أضاءت النار ما حوله, ونظر المحل الذي هو فيه, وما فيه من المخاوف وأمنها,
وانتفع بتلك النار, وقرت بها عينه, وظن أنه قادر عليها, فبينما هو كذلك, إذ ذهب
الله بنوره, فزال عنه النور, وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار
المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق.
فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة
بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟.
فكذلك هؤلاء المنافقون, استوقدوا نار الإيمان من المؤمنين, ولم تكن صفة لهم,
فاستضاءوا بها مؤقتا وانتفعوا, فحقنت بذلك دماؤهم, وسلمت أموالهم, وحصل لهم نوع من
الأمن في الدنيا.
فبينما هم كذلك, إذ هجم عليهم الموت, فسلبهم الانتفاع بذلك النور, وحصل لهم كل هم
وغم وعذاب, وحصل لهم ظلمة القبر, وظلمة الكفر, وظلمة النفاق, وظلمة المعاصي على
اختلاف أنواعها, وبعد ذلك ظلمة النار, وبئس القرار.
" صم بكم
عمي فهم لا يرجعون "
فلهذا قال تعالى عنهم "
صُمٌّ " أي: عن سماع الخير " بُكْمٌ " أي:
عن النطق به " عُمْيٌ " أي: عن رؤية الحق " فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ " لأنهم تركوا الحق بعد أن
عرفوه, فلا يرجعون إليه.
بخلاف من ترك الحق عن جهل وضلال, فإنه لا يعقل, وهو أقرب رجوعا منهم.
" أو كصيب
من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت
والله محيط بالكافرين "
ثم قال تعالى " أَوْ
كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ " أي: كصاحب صيب وهو المطر الذي يصوب, أي:
ينزل بكثرة.
" فِيهِ ظُلُمَاتٌ " ظلمة الليل, وظلمة السحاب,
وظلمات المطر.
" وَرَعْدٌ " وهو: الصوت الذي بسمع من السحاب.
" وَبَرْقٌ " وهو الضوء اللامع المشاهد من
السحاب.
" يكاد
البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله
لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير "
" كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ " البرق في تلك الظلمات "
مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا " أي: وقفوا.
فهكذا حالة المنافقين, إذا سمعوا القرآن وأوامره, ونواهيه, ووعده, ووعيده, جعلوا
أصابعهم في آذانهم, وأعرضوا عن أمره ونهيه, ووعده ووعيده, فيروعهم وعيده, وتزعجهم
وعوده.
فهم يعرضون عنها غاية ما يمكنهم, ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي تسمع الرعد,
فيجعل أصابعه في أذنيه خشية الموت, فهذا ربما حصلت له السلامة.
وأما المنافقون, فأنى لهم السلامة, وهو تعالى محيط بهم, قدرة, وعلما فلا يفوتونه
ولا يعجزونه, بل يحفظ عليهم أعمالهم, ويجازيهم عليها أتم الجزاء.
ولما كانوا مبتلين بالصمم, والبكم, والعمى المعنوي, ومسدودة عليهم طرق الإيمان.
قال تعالى: " وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ
وَأَبْصَارِهِمْ " أي: الحسية, ففيه تخويف لهم وتحذير من العقوبة
الدنيوية, ليحذروا, فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم.
" إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " فلا
يعجزه شيء.
ومن قدرته, أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ولا معارض.
وفي هذه الآية وما أشبهها, رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير داخلة في قدرة
الله تعالى, لأن أفعالهم من جملة الأشياء الداخلة في قوله "
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " .
" يا أيها
الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون "
هذا أمر عام لجميع الناس, بأمر عام, وهو
العبادة الجامعة, لامتثال أوامر الله, واجتناب نواهيه, وتصديق خبره, فأمرهم تعالى
بما خلقهم له.
قال تعالى " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ " .
" الذي جعل
لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم
فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون "
ثم استدل على وجوب
عبادته وحده, بأنه ربكم, الذي رباكم بأصناف النعم, فخلقكم بعد العدم, وخلق الذين
من قبلكم, وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة, فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون
عليها, وتنتفعون بالأبنية, والزراعة, والحراثة, والسلوك من محل إلى محل, وغير ذلك
من وجوه الانتفاع بها.
وجعل السماء بناء لمسكنكم, وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم,
كالشمس, والقمر, والنجوم.
" وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً " والسماء هو
كل ما علا فوقك فهو سماء, ولهذا قال المفسرون: المراد بالسماء ههنا, السحاب.
فأنزل منه تعالى ماء " فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ
" كالحبوب, والثمار, من نخيل, وفواكه, وزروع وغيرها "
رِزْقًا لَكُمْ " به ترتزقون, وتتقوتون وتعيشون وتفكهون.
" فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا " أي:
أشباها ونظراء من المخلوقين, فتعبدونهم كما تعبدون الله, وتحبونهم كما تحبونه, وهم
مثلكم, مخلوقون, مرزوقون مدبرون, لا يملكون مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء, ولا
ينفعونكم ولا يضرون.
" وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ " أن الله ليس له شريك,
ولا نظير, لا في الخلق, والرزق, والتدبير, ولا في الألوهية والكمال.
فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب, وأسفه السفه.
وهذه الآية, جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده, والنهي عن عبادة ما سواه, وبيان
الدليل الباهر على وجوب عبادته, وبطلان عبادة ما سواه, وهو ذكر توحيد الربوبية,
المتضمن انفراده بالخلق والرزق والتدبير.
فإذا كان أحد, مقرا بأنه ليس له شريك بذلك, فكذلك فليكن الإقرار بأن الله ليس له
شريك في عبادته, وهذا أوضح دليل عقلي, على وحدانية الباري تعالى, وبطلان الشرك.
وقوله " لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " يحتمل أن
المعنى أنكم إذا عبدتم الله وحده, اتقيتم بذلك سخطه وعذابه, لأنكم أتيتم بالسبب
الدافع لذلك.
ويحتمل أن يكون المعنى: أنكم إذا عبدتم الله, صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى,
وكلا المعنيين صحيح, وهما متلازمان.
فمن أتى بالعبادة كاملة, كان من المتقين.
ومن كان من المتقين, حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه.
" وإن كنتم
في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن
كنتم صادقين "
وهذا دليل عقلي,
على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم, وصحة ما جاء به فقال: وإن كنتم - يا معشر
المعاندين للرسول, الرادين دعوته, الزاعمين كذبه - في شك واشتباه, مما نزلنا على
عبدنا, هل هو حق أو غيره, فههنا أمر نصف فيه الفيصلة بينكم وبينه.
وهو أنه بشر مثلكم, ليس من جنس آخر, وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم, لا يكتب ولا
يقرأ.
فأتاكم بكتاب, أخبركم أنه من عند الله, وقلتم أنتم, إنه تقوله وافتراه.
فإن كان الأمر كما تقولون, فأتوا بسورة من مثله, واستعينوا بمن تقدرون عليه من
أعوانكم وشهدائكم, فإن هذا أمر يسير عليكم, خصوصا, وأنتم أهل الفصاحة والخطابة,
والعداوة العظيمة للرسول.
فإن جئتم بسورة من مثله, فهو كما زعمتم, وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية
العجز, فهذا آية كبيرة, ودليل واضح جلي على صدقه وصدق ما جاء به, فيتعين عليكم
اتباعه, واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة والشدة, أن كان وقودها الناس
والحجارة, ليست كنار الدنيا, التي تتقد بالحطب, وهذه النار الموصوفة, معدة ومهيأة
للكافرين بالله ورسله.
فاحذروا الكفر برسوله, بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.
وهذه الآية ونحوها يسمونها آية التحدي, وهو تعجيز الخلق عن أن يأتوا بمثل هذا
القرآن ويعارضوه بوجه.
قال تعالى " قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ
عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ
كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " .
وكيف يقدر المخلوق من تراب, أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب؟.
أم كيف يقدر الفقير الناقص من جميع الوجوه, أن يأتي بكلام ككلام الكامل, الذي له
الكمال المطلق, والغنى الواسع من جميع الوجوه؟.
هذا ليس في الإمكان, ولا في قدرة الإنسان.
وكل من له أدنى ذوق ومعرفة بأنواع الكلام, إذا وزن هذا القرآن بغيره من كلام البلغاء,
ظهر له الفرق العظيم.
وفي قوله " وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ " إلى
آخره, دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة, هو الشاك الحائر الذي لم يعرف
الحق من الضلالة.
فهذا الذي إذا بين له الحق حرى باتباعه, وإن كان صادقا في طلب الحق.
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه, فهذا لا يمكن رجوعه, لأنه ترك الحق بعد ما
تبين, ولم يتركه عن جهل, فلا حيلة فيه.
وكذلك الشاك الذي ليس بصادق في طلب الحق, بل هو معرض, غير مجتهد بطلبه, فهذا - في
الغالب - لا يوفق.
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله
عليه وسلم, قيامه بالعبودية, التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين.
كا وصفه بالعبودية في مقام الإسراء فقال " سُبْحَانَ الَّذِي
أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا " .
وفي مقام تنزيل القرآن عليه فقال " تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ
الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا " .
" فإن لم
تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين "
وفي قوله " أُعِدَّتْ
لِلْكَافِرِينَ " ونحوها من الآيات, دليل لمذهب أهل السنة والجماعة,
أن الجنة والنار مخلوقتان, خلافا للمعتزلة.
وفيها أيضا, أن الموحدين - وإن ارتكبوا بعض الكبائر - لا يخلدون في النار, لأنه
قال " أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ " .
فلو كان عصاة الموحدين يخلدون فيها, لم تكن معدة للكافرين وحدهم خلافا للخوارج
والمعتزلة.
وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه, وهو الكفر, وأنواع المعاصي على
اختلافها.
" وبشر
الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها
من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة
وهم فيها خالدون "
ولما ذكر جزاء
الكافرين, ذكر جزاء المؤمنين, أهل الأعمال الصالحات, كما هي طريقته تعالى في
كتابه, يجمع بين الترغيب والترهيب, ليكون العبد راغبا راهبا, خائفا راجيا فقال: " وَبَشِّرِ " أي: أيها الرسول, ومن قام مقامك.
" الَّذِينَ آمَنُوا " بقلوبهم "
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " بجوارحهم, فصدقوا إيمانهم بأعمالهم
الصالحة.
ووصفت أعمال الخير بالصالحات, لأن بها تصلح أحوال العبد, وأمور دينه ودنياه,
وحياته الدنيوية والأخروية, ويزول بها عنه فساد الأحوال, فيكون بذلك من الصالحين,
الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته.
فبشرهم " أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ " أي: بساتين
جامعة للأشجار العجيبة, والثمار الأنيقة, والظل المديد, والأغصان والأفنان, وبذلك
صارت جنة, يجتن.
بها داخلها, وينعم فيها ساكنها.
" تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " أي:
أنهار الماء, واللبن, والعسل, والخمر يفجرونها كيف شاءوا, ويصرفونها أين أرادوا,
وتسقى منها تلك الأشجار فتنبت أصناف الثمار.
" كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا
هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ " أي: هذا من جنسه, وعلى وصفه,
كلها متشابهة في الحسن واللذة.
ليس فيها ثمرة خاسة, وليس لهم وقت خال من اللذة, فهم دائما متلذذون بأكلها.
وقوله " وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا " قيل:
متشابها في الاسم, مختلفا في الطعم.
وقيل: متشابها في اللون, مختلفا في الاسم.
وقيل: يشبه بعضه بعضا, في الحسن, واللذة, والفكاهة, ولعل هذا أحسن.
ثم لما ذكر مسكنهم, وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم, ذكر أزواجهم, فوصفهن
بأكمل وصف وأوجزه, وأوضحه فقال.
" وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ " فلم
يقل " مطهرة من العيب الفلاني " ليشمل جميع أنواع
التطهير.
فهن مطهرات الأخلاق, مطهرات الخلق, مطهرات اللسان, مطهرات الأبصار.
فأخلاقهن, أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن بالخلق الحسن, وحسن التبعل, والأدب القولي
والفعلي, ومطهر خلقهن من الحيض والنفاس والمني, والبول والغائط, والمخاط والبصاق,
والرائحة الكريهة.
ومطهرات الخلق أيضا, بكمال الجمال, فليس فيهن عيب, ولا دمامة خلق, بل هن خيرات
حسان, مطهرات اللسان والطرف.
قاصرات طرفهن على أزواجهن, وقاصرات ألسنتهن عن كل كلام قبيح.
ففي هذه الآية الكريمة, ذكر المبشر والمبشر, والمبشر به, والسبب الموصل لهذه
البشارة.
فالمبشر, هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قام مقامه من أمته.
والمبشر, هم المؤمنون العاملون الصالحات.
والمبشر به, هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات.
والسبب الموصل لذلك, هو الإيمان والعمل الصالح.
فلا سبيل إلى الوصول إلى هذه البشارة, إلا بهما.
وهذا أعظم بشارة حاصلة, على يد أفضل الخلق, بأفضل الأسباب.
وفيه استحباب بشارة المؤمنين, وتنشيطهم على الأعمال بذكر جزائها وثمراتها, فإنها
بذلك, تخف وتسهل.
وأعظم بشرى حاصلة للإنسان, توفيقه للإيمان والعمل الصالح.
فذلك أول البشارة وأصلها.
ومن بعده, البشرى عند الموت.
ومن بعده, الوصول إلى هذا النعيم المقيم.
نسأل الله من فضله.
" إن الله
لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من
ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضل به كثيرا ويهدي به
كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين "
يقول تعالى " إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا " أي
أي مثل كان " بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا " لاشتمال
الأمثال على الحكمة, وإيضاح الحق, والله لا يستحي من الحق.
وكأن في هذا, جوابا لمن أنكر ضرب الأمثال في الأشياء الحقيرة.
واعترض على الله في ذلك.
فليس في ذلك اعتراض.
بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم.
فيجب أن تتلقى بالقبول والشكر.
ولهذا قال: " فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ " فيفهمونها.
ويتفكرون فيها.
فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل.
ازداد بذلك علمهم وإيمانهم.
وإلا علموا أنها حق.
وما اشتملت عليه حق.
وإن خفي عليهم وجه الحق فيها.
لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا.
بل لحكمة بالغة.
ونعمة سابغة.
" وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ
اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا " فيعترضون ويتحيرون.
فيزدادون كفرا إلى كفرهم.
كما ازداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم.
ولهذا قال: " يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
" .
فهذه حال المؤمنين والكافرين.
عند نزوله الآيات القرآنية.
قال تعالى " وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا
فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ
كَافِرُونَ " .
فلا أعظم نعمة على العباد.
من نزول الآيات القرآنية.
ومع هذا.
تكون لقوم محنة.
وحيرة.
وضلالة.
وزيادة شر إلى شرهم.
ولقوم منحة; ورحمة; وزيادة خير إلى خيرهم.
فسبحان من فاوت بين عباده; وانفرد بالهداية والإضلال.
ثم ذكر حكمته وعدله في إضلاله من يضل فقال: " وَمَا يُضِلُّ
بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ " أي: الخارجين عن طاعة الله; المعاندين
لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فلا يبغون به بدلا.
فاقتضت حكمته تعالى; إضلالهم; لعدم صلاحيتهم للهدى.
كما اقتضى فضله وحكمته; هداية من اتصف بالإيمان; وتحلى بالأعمال الصالحة.
والفسق نوعان: نوع مخرج من الدين; وهو الفسق المقتضي للخروج من الإيمان; كالمذكور
في هذه الآية ونحوها.
ونوع غير مخرج من الإيمان كما في قوله تعالى " يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا " الآية.
" الذين
ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض
أولئك هم الخاسرون "
ثم وصف الفاسقين
فقال " الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ
مِيثَاقِهِ " .
وهذا يعم العهد الذي بينهم وبين ربهم; والذي بينهم وبين الخلق; الذي أكده عليهم
بالمواثيق الثقيلة والإلزامات.
فلا يبالون بتلك المواثيق; بل ينقضونها; ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون
العهود التي بينهم وبين الخلق.
" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ "
وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة.
فإن الله أمرنا; أن نصل ما بيننا وبينه بالإيمان به; والقيام بعبوديته.
وما بيننا وبين رسوله; بالإيمان به; ومحبته; وتعزيره; والقيام بحقوقه.
وما بيننا وبين الوالدين والأقارب; والأصحاب; وسائر الخلق بالقيام بحقوقهم التي
أمر الله أن نصلها.
فأما المؤمنون; فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق; وقاموا بها أتم
القيام.
وأما الفاسقون; فقطعوها; ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين عنها بالفسق والقطيعة;
والعمل بالمعاصي; وهو: الإفساد في الأرض.
" فَأُولَئِكَ " أي: من هذه صفته "
هُمُ الْخَاسِرُونَ " في الدنيا والآخرة.
فحصر الخسارة فيهم; لأن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع من الربح; لأن كل
عمل صالح; شرطه الإيمان; فمن لا إيمان له; لا عمل له; وهذا الخسار; هو خسار الكفر.
وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب
المذكور في قوله تعالى " إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ
" فهذا عام لكل مخلوق; إلا من اتصف بالإيمان والعمل الصالح; والتواصي
بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير; الذي كان العبد بصدد تحصيله وهو تحت
إمكانه.
" كيف
تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون "
ثم قال تعالى " كَيْفَ
تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ
ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " .
هذا استفهام التعجب والتوبيخ والإنكار.
أي: كيف يحصل منكم الكفر بالله; الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم;
ثم يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث والنشور;
ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الأوفى.
فإذا كنتم في تصرفه; وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; وبعد ذلك تحت دينه
الجزائي; أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إلا جهل عظيم وسفه كبير.
؟ بل الذي يليق بكم; أن تتقوه; وتشكروه; وتؤمنوا به; وتخافوا عذابه; وترجوا ثوابه.
" هو الذي
خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء
عليم "
" هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
" أي: خلق لكم, برا
بكم ورحمة, جميع ما على الأرض, للانتفاع والاستمتاع, والاعتبار.
وفي هذه الآية الكريمة, دليل على أن الأصل في الأشياء, الإباحة والطهارة, لأنها
سيقت في معرض الامتنان.
يخرج بذلك, الخبائث, فإن تحريمها أيضا, يؤخذ من فحوى الآية, وبيان المقصود منها,
وأنه خلقها لنفعنا, فما فيه ضرر, فهو خارج من ذلك.
ومن تمام نعمته, منعنا من الخبائث, تنزيها لنا.
وقوله: " ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " .
معاني كلمة " استوى " " اسْتَوَى " ترد
في القرآن على ثلاثة معاني: فتارة لا تعدي بالحرف.
فيكون معناها, الكمال والتمام, كما في قوله عن موسى "
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى " .
وتارة تكون بمعنى " علا " و "
ارتفع " , وذلك إذا عديت بـ " على " كقوله
تعالى: " الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى " ,
" لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ " .
وتارة تكون بمعنى " قصد " كما إذا عديت بـ " إلى " كما في هذه الآية.
أي: لما خلق تعالى الأرض, قصد إلى خلق السماوات, فسواهن سبع سماوات, فخلقها
وأحكمها, وأتقنها, وهو بكل شيء عليم.
فيعلم ما يلج في الأرض, وما يخرج منها, وما ينزل من السماء, وما يعرج فيها, و " يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ " يعلم
السر وأخفى.
وكثيرا ما يقرن بين خلقه, وإثبات علمه كما في هذه الآية, وكما في قوله تعالى: " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " لأن
خلقه للمخلوقات, أدل دليل على علمه, وحكمته, وقدرته.
" وإذ قال
ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء
ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون "
" وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً " .
هذا شروع في ابتداء خلق آدم عليه السلام أبي البشر, وفضله, وأن الله تعالى - حين
أراد خلقه - أخبر الملائكة بذلك, وأن الله مستخلفه في الأرض.
فقالت الملائكة عليهم السلام: " أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا " بالمعاصي " وَيَسْفِكُ
الدِّمَاءَ " , وهذا تخصيص بعد تعميم, لبيان شدة مفسدة القتل.
وهذا بحسب ظنهم أن المجهول في الأرض, سيحدث منه ذلك, فنزهوا الباري عن ذلك,
وعظموه, وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله على وجه خال من المفسدة فقالوا.
" وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ " أي: ننزهك
التنزيه اللائق بحمدك وجلالك.
" وَنُقَدِّسُ لَكَ " يحتمل أن معناها: ونقدسك,
فتكون اللام مفيدة للتخصيص والإخلاص.
ويحتمل أن يكون, ونقدس لك أنفسنا.
أي: نطهرها بالأخلاق الجميلة, كمحبة الله وخشيته وتعظيمه, ونطهرها من الأخلاق
الرذيلة.
قال الله للملائكة: " إِنِّي أَعْلَمُ " من هذا
الخليفة " مَا لَا تَعْلَمُونَ " .
لأن كلامكم بحسب ما ظننتم, وأنا عالم بالظواه