سورة الفرقان - تفسير السعدي | |
| | |
" تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا | |
| " | |
هذا بيان لعظمته | |
| الكاملة, وتفرده بالوحدانية من كل وجه, وكثرة خيراته وإحسانه, فقال: " | |
| تَبَارَكَ " أي: تعاظم, وكملت أوصافه, وكثرت خيراته, الذي من أعظم خيراته | |
| ونعمه, أن " نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ " الفارق بين الحلال والحرام, | |
| والهدى والضلال, وأهل السعادة من أهل الشقاوة. | |
| " عَلَى عَبْدِهِ " محمد صلى الله عليه وسلم الذي كمل مراتب العبودية, | |
| وفاق جميع المرسلين. | |
| " لِيَكُونَ " ذلك الإنزال للفرقان على عبده " لِلْعَالَمِينَ | |
| نَذِيرًا " . | |
| ينذرهم بأس الله ونقمه, ويبين لهم, مواقع رضا الله من سخطه. | |
| حتى إن من قبل نذارته, وعمل بها, كان من الناجين في الدنيا والآخرة, الذين حصلت | |
| لهم السعادة الأبدية, والملك السرمدي. | |
| فهل فوق هذه النعمة, وهذا الفضل والإحسان, شيء؟ فتبارك الذي هذا بعض إحسانه | |
| وبركاته. | |
" الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في | |
| الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا " | |
" | |
| الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أى: له التصرف فيهما وحده, وجميع من فيهما, مماليك وعبيد له, مذعنون | |
| لعظمته, خاضعون لربوبيته, فقراء إلى رحمته, الذي " لَمْ | |
| يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ " . | |
| وكيف يكون له ولد, أو شريك, وهو المالك, وغيره مملوك, وهو القاهر, وغيره مقهور, | |
| وهو الغني بذاته, من جميع الوجوه, والمخلوقون, مفتقرون إليه, فقراء من جميع | |
| الوجوه؟!! وكيف يكون له شريك في الملك, ونواصي العباد كلهم بيديه, فلا يتحركون أو | |
| يسكنون, ولا يتصرفون, إلا بإذنه, فتعالى الله عن ذلك, علوا كبيرا. | |
| فلم يقدره حق قدره, من قال فيه ذلك, ولهذا قال: " وَخَلَقَ | |
| كُلَّ شَيْءٍ " شمل العالم العلوي, والعالم السفلي, من حيواناته, | |
| ونباتاته, وجماداته. | |
| " فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا " أي: أعطى كل مخلوق | |
| منها, ما يليق به, ويناسبه من الخلق, وما تقتضيه حكمته من ذلك, بحيث صار كل مخلوق, | |
| لا يتصور العقل الصحيح, أن يكون بخلاف شكله, وصورته المشاهدة. | |
| بل كل جزء وعضو من المخلوق الواحد, لا يناسبه غير محله, الذي هو فيه. | |
| قال تعالى: " سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي | |
| خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى " . | |
| وقال تعالى: " رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ | |
| خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى " . | |
" واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون | |
| لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا " | |
ولما بين كماله وعظمته, وكثرة إحسانه, كان ذلك مقتضيا لأن يكون وحده, | |
| المحبوب المألوه, المعظم, المفرد بالإخلاص وحده, لا شريك له - ناسب أن يذكر بطلان | |
| عبادة ما سواه فقال: " وَاتَّخِذُوا " إلى قوله " وَلَا نُشُورًا " . | |
| أي: من أعجب العجائب, وأول الدليل على سفههم, ونقص عقولهم. | |
| بل أدل على ظلمهم, وجراءتهم على ربهم, أن اتخذوا آلهة بهذه الصفة وبلغ من عجزها, | |
| أنها لا تقدر على خلق شيء, بل هم مخلوقون, بل بعضهم مما عملته أيديهم. | |
| " وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا | |
| " أي: لا قليلا ولا كثيرا, لأنه نكرة في سياق النفي فتعم. | |
| " وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا | |
| " أي: بعثا بعد الموت. | |
| فأعظم أحكام العقل, بطلان إلهيتها, وفسادها, وفساد عقل من اتخذها آلهة, وشركاء | |
| للخالق لسائر المخلوقات, من غير مشاركة له, في ذلك الذي بيده النفع والضر, والعطاء | |
| والمنع, الذي يحيي ويميت, ويبعث من في القبور, ويجمعهم يوم النشور. | |
| وقد جعل لهم دارين, دار الشقاء, والخزي, والنكال, لمن اتخذ معه آلهة أخرى. | |
| ودار الفوز والسعادة, والنعيم المقيم, لمن اتخذه وحده, معبودا. | |
" وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون | |
| فقد جاءوا ظلما وزورا " | |
ولما قرر بالدليل القاطع الواضح, صحة | |
| التوحيد وبطلان ضده, قرر صحة الرسالة, وبطلان قول من عارضها واعترضها فقال: " وَالَّذِينَ كَفَرُوا " إلى " | |
| إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا " . | |
| أي: وقال الكافرون بالله, الذي أوجب لهم كفرهم, أن قالوا في القرآن والرسول: إن | |
| هذا القرآن كذب, كذبه محمد, وإفك, افتراه على الله, وأعانه على ذلك قوم آخرون. | |
| فرد الله عليهم ذلك, بأن هذا مكابرة منهم, وإقدام على الظلم والزور, الذي لا يمكن, | |
| أن يدخل عقل أحد, وهم أشد الناس معرفة بحالة الرسول صلى الله عليه وسلم, وكمال | |
| صدقه, وأمانته, وبره التام, وأنه لا يمكنه, لا هو, ولا سائر الخلق, أن يأتوا بهذا | |
| القرآن, الذي هو أجل الكلام وأعلاه, وأنه لم يجتمع بأحد يعينه, على ذلك, فقد جاءوا | |
| بهذا القول ظلما وزورا. | |
" وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا | |
| " | |
ومن جملة أقاويلهم فيه, أن قالوا: هذا الذي | |
| جاء به محمد " أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا " أي: | |
| هذا قصص الأولين وأساطيرهم, التي تتلقاها الأفواه, وينقلها كل أحد, استنسخها محمد " فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا " وهذا | |
| القول منهم, فيه عدة عظائم: منها: رميهم الرسول, الذي هو أبر الناس وأصدقهم, | |
| بالكذب, والجرأة العظيمة. | |
| ومنها: إخبار عن هذا القرآن, الذي هو أصدق الكلام وأعظمه, وأجله, بأنه كذب | |
| وافتراء. | |
| ومنها: أن في ضمن ذلك, أنهم قادرون أن يأتوا بمثله, وأن يضاهي المخلوق الناقص من | |
| كل وجه, للخالق الكامل من كل وجه, بصفة من صفاته, وهي الكلام. | |
| ومنها: أن الرسول, قد علمت حاله, وهم أشد الناس علما بها, أنه لا يكتب, ولا يجتمع | |
| بمن يكتب له, وقد زعموا ذلك. | |
" قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا | |
| رحيما " | |
فلذلك رد عليهم ذلك بقوله " قُلْ أَنْزَلَهُ | |
| الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ " أي: أنزله | |
| من أحاط علمه بما في السماوات, وما في الأرض, من الغيب والشهادة, والجهر والسر, | |
| لقوله: " وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ | |
| بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ " . | |
| ووجه إقامة الحجة عليهم, أن الذي أنزله, هو المحيط علمه بكل شيء فيستحيل ويمتنع, | |
| أن يقول مخلوق, ويتقول عليه, هذا القرآن, ويقول: هو من عند الله, وما هو من عنده, | |
| ويستحل دماء من خالفه, وأموالهم, ويزعم أن الله قال له ذلك. | |
| والله يعلم كل شيء, ومع ذلك فهو يؤيده وينصره على أعدائه, ويمكنه من رقابهم | |
| وبلادهم, فلا يمكن أحدا أن ينكر هذا القرآن, إلا بعد إنكار علم الله. | |
| وهذا لا تقول به طائفة من بني آدم, سوى الفلاسفة الدهرية. | |
| وأيضا, فإن ذكر علمه تعالى العام, ينبههم,: ويحضهم على تدبر القرآن, وأنهم لو | |
| تدبروا, لرأوا فيه, من علمه وأحكامه, ما يدل دلالة قاطعة, على أنه لا يكون إلا من | |
| عالم الغيب والشهادة. | |
| ومع إنكارهم للتوحيد والرسالة من لطف الله بهم, أنه لم يدعهم وظلمهم, بل دعاهم إلى | |
| التوبة والإنابة إليه, ووعدهم بالمغفرة والرحمة, إن هم تابوا, ورجعوا فقال: " إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا " أي: وصفه المغفرة, لأهل | |
| الجرائم والذنوب, إذا فعلوا أسباب المغفرة, وهي: الرجوع عن معاصيه, والتوبة منها. | |
| " رَحِيمًا " بهم, حيث لم يعاجلهم بالعقوبة, وقد | |
| فعلوا مقتضاها. | |
| وحيث قبل توبتهم بعد المعاصي, وحيث محا, ما سلف من سيئاتهم, وحيث قبل حسناتهم, | |
| وحيث أعاد الراجع إليه بعد شروده, والمقبل عليه بعد إعراضه, إلى حالة المطيعين | |
| المنيبين إليه. | |
" وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل | |
| إليه ملك فيكون معه نذيرا " | |
هذا من مقالة المكذبين للرسول, الذين قدحوا في رسالته. | |
| وهو: أنهم اعترضوا بأنه, هلا كان ملكا أو ملكا, أو يساعده ملك, فقالوا: " مَالِ هَذَا الرَّسُولِ " أي: ما لهذا الذي ادعى | |
| الرسالة؟ تهكما منهم واستهزاء. | |
| " يَأْكُلُ الطَّعَامَ " وهذا من خصائص البشر, | |
| فهلا كان ملكا, لا يأكل الطعام, ولا يحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر. | |
| " وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ " البيع والشراء, | |
| وهذا - بزعهم - لا يليق بمن يكون رسولا. | |
| مع أن الله قال: " وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ | |
| الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي | |
| الْأَسْوَاقِ " . | |
| " لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ " أي: هلا | |
| أنزل معه ملك يساعده ويعاونه. | |
| " فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا " وبزعمهم أنه غير | |
| كاف للرسالة, ولا بطوقه وقدرته القيام بها. | |
" أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن | |
| تتبعون إلا رجلا مسحورا " | |
" أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ " أي: مال مجموع من غير تعب. | |
| " أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا " فيستغني | |
| بذلك عن مشيه في الأسواق لطلب الرزق. | |
| " وَقَالَ الظَّالِمُونَ " حملهم على القول, | |
| ظلمهم لا اشتباه منهم. | |
| " إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا " هذا, | |
| وقد علموا كمال عقله, وحسن حديثه, وسلامته من جميع المطاعن. | |
| ولما كانت هذه الأقوال منهم, عجيبة جدا, قال تعالى: | |
" انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا " | |
" | |
| انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ " وهي: هل كان ملكا, وزالت عنه خصائص البشر؟ أو معه ملك, لأنه غير قادر | |
| على ما قال, أو أنزل عليه كنز, أو جعلت له جنة تغنيه عن المشي في الأسواق, أو أنه | |
| كان مسحورا. | |
| " فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا " قالوا: | |
| أقوالا متناقضة, كلها جهل, وضلال, وسفه, ليس في شيء منها هداية, بل ولا في شيء | |
| منها أدنى شبهة, تقدح في الرسالة. | |
| فبمجرد النظر إليها وتصورها, يجزم العاقل ببطلانها, ويكفيه عن ردها. | |
| ولهذا أمر تعالى بالنظر إليها, وتدبرها, والنظر: هل توجب التوقف عن الجزم للرسول | |
| بالرسالة والصدق؟ ولهذا أخبر أنه قادر على أن يعطيه خيرا كثيرا في الدنيا فقال: | |
" تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك جنات تجري من تحتها | |
| الأنهار ويجعل لك قصورا " | |
" | |
| تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ " أي: خيرا مما قالوا. | |
| ثم فسره بقوله: " جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ | |
| وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا " مرتفعة مزخرفة. | |
| فقدرته ومشيئته, لا تقصر عن ذلك, ولكنه تعالى - لما كانت الدنيا عنده في غاية | |
| البعد والحقارة - أعطى منها أولياءه ورسله, ما اقتضته حكمته منها. | |
| واقتراح أعدائهم بأنهم, هلا رزقوا منها رزقا كثيرا جدا, ظلم وجراءة. | |
" بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا " | |
ولما كانت تلك الأقوال, التي قالوها, معلومة | |
| الفساد, وأخبر تعالى أنها لم تصدر منهم لطلب الحق, ولا لاتباع البرهان, وإنما صدرت | |
| منهم تعنتا وظلما, وتكذيبا بالحق, قالوا ما في قلوبهم من ذلك, ولهذا قال: " بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ " . | |
| والمكذب المتعنت, الذي ليس له قصد في اتباع الحق, لا سبيل إلى هدايته, ولا حيلة في | |
| مجادلته وإنما له حيلة واحدة, وهي نزول العذاب به, فلهذا قال: " | |
| وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا " أي: نارا | |
| عظيمة, قد اشتد سعيرها, وتغيظت على أهلها, واشتد زفيرها. | |
" إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا " | |
" إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ " أي: قبل وصولهم, ووصولها إليهم " سَمِعُوا لَهَا | |
| تَغَيُّظًا " عليهم " وَزَفِيرًا " تقلق | |
| منهم الأفئدة, وتتصدع القلوب, ويكاد الواحد منهم, يموت خوفا منها, وذعرا, قد غضبت | |
| عليهم, لغضب خالقها, وقد زاد لهبها, لزيادة كفرهم وشرهم. | |
" وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا " | |
" وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ | |
| " أي: وقت عذابهم, وهم في وسطها, جمع في مكان | |
| بين ضيق المكان, وتزاحم السكان وتقرينهم بالسلاسل والأغلال. | |
| فإذا وصلوا لذلك المكان النحس, وحبسوا في أشر حبس " دَعَوْا | |
| هُنَالِكَ ثُبُورًا " دعوا على أنفسهم بالثبور, والخزي والفضيحة, | |
| وعلموا أنهم ظالمون معتدون, قد عدل فيهم الخالق, حيث أنزلهم بأعمالهم هذا المنزل, | |
| وليس ذلك الدعاء والاستغاثة بنافعة لهم, ولا مغنية من عذاب الله. | |
" لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا " | |
بل يقال لهم: " لَا | |
| تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا " أي: | |
| لو زاد ما قلتم أضعاف أضعافه, ما أفادكم إلا الهم, والغم, والحزن. | |
" قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون كانت لهم جزاء | |
| ومصيرا " | |
لما بين جزاء الظالمين, ناسب أن يذكر جزاء المتقين فقال: " قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ " إلى " | |
| وَعْدًا مَسْئُولًا " . | |
| أي: قل لهم - مبينا لسفاهة رأيهم, واختيارهم الضار على النافع - " | |
| أَذَلِكَ " الذي وضعت لكم من العذاب " خَيْرٌ | |
| أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ " التي زادها | |
| تقوى الله, فمن قام بالتقوى, فالله قد وعده إياها. | |
| " كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً " على تقواهم " وَمَصِيرًا " موئلا يرجعون إليها, ويستقرون فيها, | |
| ويخلدون دائما أبدا. | |
" لهم فيها ما يشاءون خالدين كان على ربك وعدا مسئولا " | |
" | |
| لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ " أي ما يطلبون | |
| وتتعلق به أمانيهم ومشيئتهم, من المطاعم, والمشارب اللذيذة, والملابس الفاخرة, | |
| والنساء الجميلات, والقصور العاليات, والجنات, والحدائق المرجحنة والفواكه, التي | |
| تسر ناظريها وآكليها, من حسنها, وتنوعها, وكثرة أصنافها, والأنهار التي تجري في | |
| رياض الجنة, وبساتينها, حيث شاءوا يصرفونها, ويفجرونها أنهارا من ماء غير آسن, | |
| وأنهارا من لبن لم يتغير طعمه, وأنهارا من خمر لذة للشاربين وأنهارا من عسل مصفى, | |
| وروائح طيبة, ومساكن مزخرفة, وأصوات شجية, تأخذ من حسنها, بالقلوب, ومزاورة | |
| الإخوان, والتمتع بلقاء الأحباب. | |
| وأعلى من ذلك كله, التمتع بالنظر إلى وجه الرب الرحيم, وسماع كلامه, والحظوة | |
| بقربه, والسعادة برضاه, والأمن من سخطه, واستمرار هذا النعيم ودوامه, وزيادته على | |
| ممر الأوقات, وتعاقب الآنات " كَانَ " دخولها | |
| والوصول إليها " عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا " يسأله | |
| إياها, عباده المتقون بلسان حالهم, ولسان مقالهم. | |
| فأي الدارين المذكورتين, خير وأولى بالإيثار؟ وأي العاملين, عمال دار الشقاء, أو | |
| عمال دار السعادة, أولى بالفضل والعقل, والفخر, يا أولي الألباب؟ لقد وضح الحق, | |
| واستنار السبيل, فلم يبق للمفرط عذر, في تركه الدليل. | |
| فنرجوك يا من قضيت على أقوام بالشقاء, وأقوام بالسعادة, أن تجعلنا ممن كتبت لهم | |
| الحسنى وزيادة. | |
| ونستعيذ بك اللهم, من حالة الأشقياء, ونسألك المعافاة منها. | |
" ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي | |
| هؤلاء أم هم ضلوا السبيل " | |
يخبر تعالى عن حالة المشركين وشركائهم يوم القيامة, وتبريهم منهم, | |
| وبطلان سعيهم فقال: " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ " أي: | |
| المكذبين المشركين " وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ | |
| فَيَقُولُ " الله مخاطبا للمعبودين على وجه التقريع لمن عبدهم: " أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا | |
| السَّبِيلَ " هل أمرتموهم بعبادتكم, وزينتم لهم ذلك, أم ذلك من تلقاء | |
| أنفسهم؟ | |
" قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن | |
| متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا " | |
" | |
| قَالُوا سُبْحَانَكَ " نزهوا الله عن شرك | |
| المشركين به, وبرأوا أنفسهم من ذلك. | |
| " مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا " أي: لا يليق بنا, | |
| ولا يحسن منا, أن نتخذ من دونك منه أولياء, نتولاهم, ونعبدهم, وندعوهم. | |
| فإذا كنا محتاجين ومفتقرين إلى عبادتك, ومتبرين من عبادة غيرك, فكيف نأمر أحدا | |
| بعبادتنا؟ هذا لا يكون. | |
| أو, سبحانك " أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ | |
| " وهذا كقول المسيح عيسى بن مريم عليه السلام " | |
| وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ | |
| اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا | |
| يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ | |
| عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ | |
| أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ | |
| اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ " الآية. | |
| وقال تعالى: " وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ | |
| لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ | |
| أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ | |
| بِهِمْ مُؤْمِنُونَ " , " وَإِذَا حُشِرَ | |
| النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ " . | |
| فلما نزهوا أنفسهم, أن يدعوا لعبادة غير الله, أو يكونوا أضلوهم, ذكروا السبب | |
| الموجب لإضلال المشركين فقالوا: " وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ | |
| وَآبَاءَهُمْ " في لذات الدنيا وشهواتها, ومطالبها النفسية. | |
| " حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ " اشتغالا في لذات | |
| الدنيا, وانكبابا على شهواتها, فحافظوا على دنياهم, وضيعوا دينهم " | |
| وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا " أي: بائرين لا خير فيهم, ولا يصلحون | |
| لصالح, لا يصلحون إلا للهلاك والبوار. | |
| فذكروا المانع من اتباعهم الهدى, وهو التمتع في الدنيا, الذي صرفهم عن الهدى. | |
| وعدم المقتضي للهدى, وهو: أنهم لا خير فيهم. | |
| فإذا عدموا المقتضي, ووجد المانع, فلا تشاء من شر وهلاك, إلا وجدته فيهم. | |
| فلما تبرأوا منهم, قال الله توبيخا وتقريعا للمعاندين: | |
" فقد كذبوكم بما تقولون فما تستطيعون صرفا ولا نصرا ومن يظلم | |
| منكم نذقه عذابا كبيرا " | |
" | |
| فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ " إنهم | |
| أمروكم بعبادتهم, ورضوا فعلكم وأنهم شفعاء لكم عند ربكم. | |
| كذبوكم في ذلك الزعم, وصاروا من أكبر أعدائكم, فحق عليكم العذاب. | |
| " فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا " للعذاب عنكم بفعلكم, | |
| أو بفداء, أو غير ذلك. | |
| " وَلَا نَصْرًا " لعجزكم, وعدم ناصركم. | |
| هذا حكم الضالين المقلدين الجاهلين, كما رأيت, أسوأ حكم, وشر مصير. | |
| وأما المعاند منهم, الذي عرف الحق وصدف عنه, فقال في حقه: " | |
| وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ " بترك الحق ظلما وعنادا " | |
| نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا " لا يقادر قدره, ولا يبلغ أمره. | |
" وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في | |
| الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا " | |
ثم قال تعالى جوابا لقول المكذبين: " مَالِ هَذَا | |
| الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ " . | |
| فما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام, وما جعلناهم ملائكة, فلك فيهم أسوة. | |
| وأما الغنى والفقر, فهو فتنة, وحكمة من الله تعالى, كما قال: " | |
| وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً " الرسول فتنة للمرسل | |
| إليهم, واختبار للمطيعين من العاصين, والرسل فتناهم بدعوة الخلق, والغنى فتنة | |
| للفقير, والفقر فتنة للغني. | |
| وهكذا سالر أصناف الخلق في هذه الدار, دار الفتن والابلاء والاختبار. | |
| والقصد من تلك الفتنة " أَتَصْبِرُونَ " فتقومون | |
| بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة, فيثيبكم مولاكم, أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة؟ | |
| " وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا " يرى ويعلم أحوالكم | |
| ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته, ويختصه بتفضيله, ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها, إن | |
| خيرا فخير, وإن شرا فشر. | |
" وقال الذين لا يرجون لقاءنا لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى | |
| ربنا لقد استكبروا في أنفسهم وعتوا عتوا كبيرا " | |
أي: قال المكذبون للرسول, المكذبون بوعد الله ووعيده, الذين ليس في | |
| قلوبهم خوف الوعيد, ولا رجاء لقاء الخالق. | |
| " لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى | |
| رَبَّنَا " أي: هلا نزلت الملائكة, تشهد لك بالرسالة, وتؤيدك عليها, | |
| أو تنزل رسلا مستقلين, أو نرى ربنا, فيكلمنا, ويقول: هذا رسولي فاتبعوه؟ وهذا | |
| معارضة للرسول, بما ليس بمعارض, بل بالتكبر والعلو والعتو. | |
| " لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ " حيث | |
| اقترحوا هذا الاقتراح, وتجرأوا هذه الجرأة. | |
| فمن أنتم يا فقراء, ويا مساكين, حتى تطلبوا رؤية الله, وتزعموا أن الرسالة, متوقف | |
| ثبوتها على ذلك؟ وأي كبر أعظم من هذا؟. | |
| " وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا " أي: قسوا وصلبوا | |
| عن الحق, قساوة عظيمة. | |
| فقلوبهم أشد من الأحجار, وأصلب من الحديد, لا تلين للحق, ولا تصغى للناصحين. | |
| فلذلك لم ينجع فيهم وعظ ولا تذكير, ولا اتبعوا الحق, حين جاءهم النذير. | |
| بل قابلوا أصدق الخلق وأنصحهم, وآيات الله البينات, بالإعراض والتكذيب. | |
| فأي عتو أكبر من هذا العتو؟!! ولذلك, بطلت أعمالهم, واضمحلت, وخسروا أشد الخسران. | |
" يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين ويقولون حجرا محجورا | |
| " | |
" يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ | |
| لِلْمُجْرِمِينَ " وذلك أنهم لا يرونها, مع | |
| استمرارهم, على جرمهم وعنادهم, إلا لعقوبتهم, وحلول البأس بهم. | |
| فأول ذلك عند الموت, إذا تنزلت عليهم الملائكة, قال الله تعالى: " | |
| وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ | |
| بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ | |
| الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ | |
| عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ " . | |
| ثم في القبر, حيث يأتيهم منكر ونكير, فيسألانهم, عن ربهم, ونبيهم, ودينهم, فلا | |
| يجيبون جوابا ينجيهم, فيحلون بهم النقمة, وتزول عنهم بهم الرحمة. | |
| ثم يوم القيامة, حين تسوقهم الملائكة إلى النار, ثم يسلمونهم لخزنة جهنم, الذين | |
| يتولون عذابهم, ويباشرون عقابهم. | |
| فهذا الذي اقترحوه, وهذا الذي طلبوه, إن استمروا على إجرامهم لا بد أن يروه | |
| ويلقوه. | |
| وحينئذ يتعوذون من الملائكة, ويفرون, ولكن لا مفر لهم. | |
| " وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا " " يَا | |
| مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ | |
| السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ " | |
| . | |
" وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " | |
" | |
| وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ " أي: أعمالهم التي رجوا أن تكون خيرا لهم, وتعبوا فيها. | |
| " فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا " أي: باطلا | |
| مضمحلا, قد خسروه, وحرموا أجره, وعوقبوا عليه, وذلك لفقده الإيمان, وصدوره عن مكذب | |
| لله ورسله. | |
| فالعمل الذي يقبله الله, هو ما صدر من المؤمن المخلص, المصدق للرسل, المتبع لهم | |
| فيه. | |
" أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا " | |
أي: في ذلك اليوم الهائل, كثير البلابل " | |
| أَصْحَابُ الْجَنَّةِ " الذين آمنوا بالله, وعملوا صالحا, واتقوا ربهم | |
| " خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا " من أهل النار " وَأَحْسَنُ مَقِيلًا " أي: مستقرهم في الجنة, وراحتهم | |
| التي هي القيلولة, هو المستقر النافع, والراحة التامة, لاشتمال ذلك, على تمام | |
| النعيم, الذي لا يشوبه كدر. | |
| بخلاف أصحاب النار, فإن جهنم مستقرهم " سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا | |
| وَمُقَامًا " وهذا من باب استعمال أفعل التفضيل, فيما ليس في الطرف | |
| الآخر منه شيء, لأنه لا خير في مقيل أهل النار ومستقرهم, كقوله " | |
| آللَّهُ خَيْرٌ أَمْ مَا يُشْرِكُونَ " . | |
" ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلا " | |
يخبر تعالى عن عظمة يوم القيامة, وما فيه من الشدة والكروب, ومزعجات | |
| القلوب فقال: " وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ | |
| " وذلك الغمام الذي ينزل الله فيه, من فوق السماوات, فتنفطر له | |
| السماوات, وتشقق, وتنزل الملائكة كل سماء, فيقفون صفا صفا, إما صفا واحدا محيطا | |
| بالخلائق, وإما كل سماء, يكونون صفا, ثم السماء التي تليها صفا وهكذا. | |
| القصد أن الملائكه - على كثرتهم وقوتهم - ينزلون محيطين بالخلق, مدعنين لأمر ربهم, | |
| لا يتكلم منهم أحد, إلا بإذن من الله. | |
| فما ظنك بالآدمي الضعيف, خصوصا, الذي بارز مالكه بالعظائم, وأقدم على مساخطه, ثم | |
| قدم عليه بذنوب وخطايا, لم يتب منها, فيحكم فيه الملك الخلاق, بالحكم الذي لا | |
| يجور, ولا يظلم مثقال ذرة, ولهذا قال: " وَكَانَ يَوْمًا | |
| عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا " لصعوبته الشديدة, وتعسر أموره عليه. | |
| بخلاف المؤمن, فإنه يسير عليه, خفيف الحمل. | |
| " يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا | |
| وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا " | |
" الملك يومئذ الحق للرحمن وكان يوما على الكافرين عسيرا " | |
وقوله " الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ " أي: | |
| يوم القيامة " الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ " لا يبقى | |
| لأحد من المخلوقين, ملك ولا صورة ملك, كما كانوا في الدنيا. | |
| بل قد تساوت الملوك ورعاياهم, والأحرار, والعبيد, والأشراف وغيرهم. | |
| ومما يرتاح له القلب, وتطمئن به النفس, وينشرح له الصدر, أنه أضاف الملك في يوم | |
| القيامة, لاسمه " الرحمن " الذي وسعت رحمته كل | |
| شيء, وعمت كل حي, وملأت الكائنات, وعمرت بها الدنيا والآخرة, وتم بها كل ناقص, | |
| وزال بها كل نقص. | |
| وغلبت الأسماء الدالة عليه, الأسماء الدالة على الغضب, وسبقت رحمته غضبه وغلبته, | |
| فلها السبق والغلبة. | |
| وخلق هذا الآدمي الضعيف, وشرفه, وكرمه, ليتم عليه نعمته, وليتغمده برحمته. | |
| وقد حضروا في موقف الذل, والخضوع, والاستكانة بين يديه, ينتظرون ما يحكم فيهم, وما | |
| يجري عليهم, وهو أرحم بهم من أنفسهم, ووالديهم, فما ظنك بما يعاملهم به. | |
| ولا يهلك على الله, إلا هالك, ولا يخرج من رحمته, إلا من غلبت عليه الشقاوة, وحقت | |
| عليه كلمة العذاب. | |
" ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا | |
| " | |
" | |
| وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ " بشركه وكفره, | |
| وتكذيبه للرسل " عَلَى يَدَيْهِ " تأسفا, وتحسرا, | |
| وحزنا, وأسفا. | |
| " يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا | |
| " أي طريقا بالإيمان به, وتصديقه واتباعه. | |
" يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا " | |
" يَا | |
| وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا " وهو الشيطان الإنسي, أو الجني. | |
| " خَلِيلًا " أي, حبيبا مصافيا, عاديت أنصح الناس | |
| لي, وأبرهم بي, وأرفقهم بي. | |
| وواليت أعدى عدو لي, الذي لم تفدني ولايته, إلا الشقاء والخسار والخزي, والبوار. | |
" لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا | |
| " | |
" | |
| لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي " حيث زين له, ما هو عليه من الضلال, بخدعه وتسويله. | |
| " وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا " يزين | |
| له الباطل, ويقبح له الحق, ويعده الأماني, ثم يتخلى عنه, ويتبرأ منه, كما قال | |
| لجميع أتباعه, حين قضي الأمر, وفرغ الله من حساب الخلق " | |
| وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ | |
| الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ | |
| سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا | |
| أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي | |
| كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ " الآية. | |
| فلينظر العبد لنفسه وقت الإمكان, وليتدارك الممكن قبل أن لا يمكن. | |
| وليوال من ولايته, فيها سعادته, وليعاد من تنفعه عداوته, وتضره صداقته. | |
| والله الموفق. | |
" وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " | |
" وَقَالَ الرَّسُولُ " مناديا | |
| لربه, وشاكيا له إعراض قومه عما جاء به, ومتأسفا على ذلك منهم: " | |
| يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي " الذي أرسلتني لهدايتهم وتبليغهم. | |
| " اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا " أي | |
| قد أعرضوا عنه, وهجروه, وتركوه, مع أن الواجب عليهم, الانقياد لحكمه, والإقبال على | |
| أحكامه, والمشي خلفه. | |
| قال الله مسليا لرسوله, ومخبرا, أن هؤلاء الخلق, لهم سلف, صنعوا. | |
| كصنيعهم, فقال: | |
" وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا | |
| " | |
" وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ | |
| الْمُجْرِمِينَ " أي من الذين لا يصلحون | |
| للخير, ولا يزكون عليه, يعارضونهم, ويردون عليهم, ويجادلونهم بالباطل. | |
| من بعض فوائد ذلك, أن يعلو الحق على الباطل, وأن يتبين الحق, ويتضح اتضاحا عظيما | |
| لأن معارضة الباطل للحق, مما تزيده وضوحا وبيانا, وكمال استدلال, وأن نتبين ما | |
| يفعل الله بأهل الحق من الكرامة, وبأهل الباطل من العقوبة. | |
| فلا تحزن عليهم, ولا تذهب نفسك عليهم حسرات. | |
| " وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا " يهديك, فيحصل لك | |
| المطلوب, ومصالح دينك ودنياك. | |
| " وَنَصِيرًا " ينصرك على أعدائك, ويدفع عنك كل | |
| مكروه, في أمر الدين والدنيا, فاكتف به, وتوكل عليه. | |
" وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت | |
| به فؤادك ورتلناه ترتيلا " | |
هذا من جملة مقترحات الكفار, الذي توحيه إليهم أنفسهم فقالوا: " لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً " وأي | |
| محذور من نزوله على هذا الوجه؟, بل نزوله على هذا الوجه أكمل وأحسن. | |
| ولهذا قال: " كَذَلِكَ " أنزلناه متفرقا " لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ " لأنه كلما نزل عليه شيء | |
| من القرآن, ازداد طمأنينة وثباتا, وخصوصا عند ورود أسباب القلق, فإن نزول القرآن | |
| عند حدوث السبب, يكون له موقع عظيم, وتثبيت كثير, أبلغ مما ل أكثر المصاحف تفاعلاً |