سورة آل عمران - تفسير السعدي | |
| | |
" الم " | |
" الم " من الحروف التي لا يعلم معناها إلا الله. | |
" الله لا إله إلا هو الحي القيوم " | |
فأخبر تعالى أنه " الْحَيُّ " كامل | |
| الحياة " الْقَيُّومُ " القائم بنفسه, المقيم | |
| لأحوال خلقه. | |
| وقد أقام أحوالهم الدينية, وأحوالهم الدنيوية والقدرية. | |
" نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة | |
| والإنجيل " | |
فأنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم الكتاب بالحق, الذي لا ريب | |
| فيه, وهو مشتمل على الحق " مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ | |
| " من الكتب. | |
| أي: شهد بما شهدت به, ووافقها, وصدق من جاء بها من المرسلين. | |
| وكذلك " وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ " | |
" من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم | |
| عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام " | |
" مِنْ | |
| قَبْلُ " هذا الكتاب " | |
| هُدًى لِلنَّاسِ " . | |
| وأكمل الرسالة, وختمها بمحمد صلى الله عليه وسلم وكتابه العظيم الذي هدى الله به | |
| الخلق, من الضلالات, واستنقذهم به من الجهالات, وفرق به بين الحق والباطل, | |
| والسعادة والشقاوة, والصراط المستقيم, وطرق الجحيم. | |
| فالذين آمنوا به واهتدوا, حصل لهم به, الخير الكثير, والثواب العاجل والآجل. | |
| و " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ " التي | |
| بينها في كتابه وعلى لسان رسوله " لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ | |
| وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ " ممن عصاه. | |
" إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء " | |
ومن تمام قيوميته تعالى, أن علمه محيط بالخلائق " | |
| لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ " حتى | |
| ما في بطون الحوامل. | |
" هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز | |
| الحكيم " | |
فهو " الَّذِي | |
| يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ " من ذكر وأنثى, وكامل | |
| الخلق وناقصه, متنقلين في أطوار خلقته وبديع حكمته. | |
| فمن هذا شأن مع عباده, واعتناؤه العظيم بأحوالهم, من حين أنشأهم إلى منتهى أمورهم, | |
| لا مشارك له في ذلك - فيتعين أنه لا يستحق العبادة إلا هو. | |
| " لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ " الذي قهر | |
| الخلائق بقوته, واعتز عن أن يوصف بنقص أو ينعت بذم " | |
| الْحَكِيمُ " في خلقه وشرعه. | |
" هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر | |
| متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء | |
| تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند | |
| ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب " | |
يخبر تعالى, عن عظمته, وكمال قيوميته, أنه | |
| هو الذي تفرد لإنزال هذا الكتاب العظيم, الذي لم يوجد - ولن يوجد - له نظير أو | |
| مقارب في هدايته, وبلاغته, وإعجازه, وإصلاحه للخلق. | |
| وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين, الذي لا يشتبه بغيره. | |
| ومنه آيات متشابهات, تحتمل بعض المعاني, ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين | |
| بمجردها, حتى تضم إلى المحكم. | |
| فالذين في قلوبهم مرض وزيغ, وانحراف, لسوء قصدهم - يتبعون المتشابه منه. | |
| فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة, وآرائهم الزائفة, طلبا للفتنة, وتحريفا لكتابه, | |
| وتأويلا له على مشاربهم ومذاهبهم ليضلوا ويضلوا. | |
| وأما أهل العلم الراسخون فيه, الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم, فأثمر لهم | |
| العمل والمعارف - فيعلمون أن القرآن كله من عند الله, وأنه كله حق, محكمه | |
| ومتشابهه, وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف. | |
| فلعلمهم أن المحكمات, معناها في غاية الصراحة والبيان, يردون إليها المشتبه, الذي | |
| تحصل فيه الحيرة لناقص العلم, وناقص المعرفة. | |
| فيردون المتشابه إلى المحكم, فيعود كله محكما, ويقولون: " | |
| آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ " للأمور | |
| النافعة, والعلوم الصائبة " إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ | |
| " أي: أهل العقول الرزينة. | |
| ففي هذا دليل على أن هذا, من علامة أولي الألباب, وأن اتباع المتشابه, من أوصاف | |
| أهل الآراء السقيمة, والعقول الواهية, والقصود السيئة. | |
| وقوله " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ " إن | |
| أريد بالتأويل, معرفة عاقبة الأمور, وما تنتهي وتئول, تعين الوقوف على " إلا الله " حيث هو تعالى, المتفرد بالتأويل بهذا | |
| المعنى. | |
| وإن أريد بالتأويل: معنى التفسير, ومعرفة معنى الكلام, كان العطف أولى. | |
| فيكون هذا مدحا للراسخين في العلم, أنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة, | |
| محكمها ومتشابهها. | |
" ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت | |
| الوهاب " | |
ولما كان المقام مقام انقسام إلى منحرفين ومستقيمين, دعوا الله تعالى | |
| أن يثبتهم على الإيمان فقالوا: " رَبَّنَا لَا تُزِغْ | |
| قُلُوبَنَا " أي لا تملها عن الحق إلى الباطل. | |
| " بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ | |
| رَحْمَةً " تصلح بها أحوالنا " إِنَّكَ أَنْتَ | |
| الْوَهَّابُ " أي كثير الفضل والهبات. | |
| وهذه الآية, تصلح مثالا للطريقة, التي يتعين سلوكها في المتشابهات. | |
| وذلك: أن الله تعالى ذكر عن الراسخين, أنهم يسألونه أن لا يزيغ قلوبهم, بعد إذ | |
| هداهم. | |
| وقد أخبر في آيات أخر عن الأسباب التي بها تزيغ قلوب أهل الانحراف وأن ذلك بسبب | |
| كسبهم كقوله " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ | |
| " , " ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ | |
| قُلُوبَهُمْ " . | |
| " وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ | |
| يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ " . | |
| فالعبد إذا تولى عن ربه, ووالى عدوه, ورأى الحق, فصدف عنه, ورأى الباطل, فاختاره - | |
| ولاه الله ما تولى لنفسه, وأزاع قلبه, عقوبة له على زيغه. | |
| وما ظلمه الله, ولكنه ظلم نفسه, فلا يلم إلا نفسه الأمارة بالسوء. | |
| والله أعلم. | |
" ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد | |
| " | |
هذا من تتمة كلام الراسخين في العلم, وهو يتضمن الإقرار بالبعث | |
| والجزاء, واليقين التام, وأن الله, لا بد أن يوقع ما وعد به. | |
| وذلك يستلزم موجبه ومقتضاه, من العمل والاستعداد لذلك اليوم. | |
| فإن الإيمان بالبعث والجزاء, أصل صلاح القلوب, وأصل الرغبة في الخير, والرهبة من | |
| الشر, اللذين هما أساس الخيرات. | |
" إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا | |
| وأولئك هم وقود النار " | |
لما ذكر يوم القيامة, ذكر أن جميع من كفر بالله, وكذب رسل الله, لا بد | |
| أن يدخلوا النار ويصلوها. | |
| وأن أموالهم وأولادهم, لن تغني عنهم شيئا من عذاب الله. | |
| وأنه سيجري عليهم في الدنيا من الأخذات والعقوبات, ما جرى على فرعون وسائر الأمم | |
| المكذبة بآيات الله " فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ | |
| " وعجل لهم العقوبات الدنيوية, متصلة بالعقوبات الأخروية. | |
| " وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ " فإياكم أن | |
| تستهونوا بعقابه, فيهون عليكم الإقامة على الكفر والتكديب. | |
" قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد " | |
وهذا خبر وبشرى للمؤمنين, وتخويف للكافرين, أنهم لا بد أن يغلبوا في | |
| هذه الدنيا. | |
| وقد وقع كما أخبر الله, فغلبوا غلبة لم يكن لها مثيل ولا نظير. | |
" قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى | |
| كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي | |
| الأبصار " | |
وجعل الله تعالى, ما وقع في " بدر " من | |
| آياته الدالة على صدق رسوله, وأنه على الحق, وأعداءه على الباطل, حيث التقت فئتان. | |
| فئة المؤمنين لا يبلغون إلا ثلثمائة وبضعة عشر رجلا, مع قلة عددهم. | |
| وفئة الكافرين, يناهزون الألف, مع استعدادهم التام في السلاح وغيره. | |
| فأيد الله المؤمنين بنصره, فهزموهم بإذن الله. | |
| ففي هذا عبرة لأهل البصائر. | |
| فلولا أن هذا هو الحق الذي إذا قابل الباطل أزهقه واضمحل الباطل لكان - بحسب | |
| الأسباب الحسية - الأمر بالعكس. | |
" زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من | |
| الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده | |
| حسن المآب " | |
أخبر تعالى, في هاتين الآيتين, عن حالة الناس, في إيثار الدنيا على | |
| الآخرة - وبين التفاوت العظيم, والفرق الجسيم بين الدارين. | |
| فأخبر أن الناس, زينت لهم هذه الأمور, فرمقوها بالأبصار, واستحلوها بالقلوب, وعكفت | |
| على لذاتها, النفوس. | |
| كل طائفة من الناس, تميل إلى نوع من هذه الأنواع, قد جعلوها هي, أكبر همهم, ومبلغ | |
| علمهم, وهي - مع هذا - متاع قليل, منقض في مدة يسيرة. | |
| فهذا " مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ | |
| حُسْنُ الْمَآبِ " . | |
" قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من | |
| تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد " | |
ثم أخبر عن ذلك بأن المتقين لله, القائمين بعبوديته, لهم خير من هذه | |
| اللذات. | |
| فلهم أصناف الخيرات, والنعيم المقيم, مما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على | |
| قلب بشر. | |
| ولهم رضوان الله, الذي هو أكبر من كل شيء. | |
| ولهم الأزواج المطهرة, من كل آفة ونقص, جميلات الأخلاق, كاملات الخلائق, لأن النفي | |
| يستلزم ضده, فتطهيرها عن الآفات, مستلزم لوصفها بالكمالات. | |
| " وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ " فييسر كلا | |
| منهم لما خلق له. | |
| أما أهل السعادة, فييسرهم للعمل لتلك الدار الباقية, ويأخذون من هذه الحياة | |
| الدنيا, ما يعينهم على عبادة الله وطاعته. | |
| وأما أهل الشقاوة والإعراض, فيقيضهم لعمل أهل الشقاوة, ويرضون بالحياة الدنيا, | |
| ويطمئنون بها, ويتخذونها قرارا. | |
" الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار | |
| " | |
أي: هؤلاء الراسخون في العلم, أهل العلم والإيمان, يتوسلون إلى ربهم | |
| بإيمانهم, لمغفرة ذنوبهم, ووقايتهم عذاب النار, وهذا من الوسائل التي يحبها الله, | |
| أن يتوسل العبد إلى ربه, بما من به عليه من الإيمان والأعمال الصالحة, إلى تكميل | |
| نعم الله عليه, بحصول الثواب الكامل, واندفاع العقاب. | |
" الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار | |
| " | |
ثم وصفهم بأجمل الصفات: بالصبر الذي هو: حبس | |
| النفوس على ما يحبه الله, طلبا لمرضاته. | |
| يصبرون على طاعة الله, ويصبرون عن معاصيه, ويصبرون على أقداره المؤلمة. | |
| وبالصدق بالأقوال والأحوال, وهو استواء الظاهر والباطن, وصدق العزيمة على سلوك | |
| الصراط المستقيم. | |
| وبالقنوت الذي هو: دوام الطاعة, مع مصاحبة الخشوع والخضوع. | |
| بالنفقات في سبل الخيرات, وعلى الفقراء, وأهل الحاجات. | |
| وبالاستغفار, خصوصا وقت الأسحار, فإنهم مدوا الصلاة إلى وقت السحر, فجلسوا | |
| يستغفرون الله تعالى. | |
" شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط | |
| لا إله إلا هو العزيز الحكيم " | |
هذه أجل الشهادات الصادرة من الملك العظيم, ومن الملائكة, وأهل العلم, | |
| على أجل مشهود عليه, وهو توحيد الله, وقيامه بالقسط. | |
| وذلك يتضمن الشهادة, على جميع الشرع, وجميع أحكام الجزاء. | |
| فإن الشرع والدين, أصله وقاعدته, توحيد الله وإفراده بالعبودية, والاعتراف | |
| بانفراده, بصفات العظمة والكبرياء, والمجد, والعز, والقدرة, والجلال, ونعوت الجود, | |
| والبر والرحمة, والإحسان, والجمال وبكماله المطلق الذي لا يحصى أحد من الخلق, أن | |
| يحيطوا بشيء منه, أو يبلغوه, أو يصلوا إلى الثناء عليه, والعبادات الشرعية, | |
| والمعاملات وتوابعها, والأمر والنهي, كله عدل وقسط, لا ظلم فيه ولا جور, بوجه من | |
| الوجوه. | |
| بل هو في غاية الحكمة والإحكام. | |
| والجزاء على الأعمال الصالحة والسيئة, كله قسط وعدل. | |
| " قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ " . | |
| فتوحيد الله, ودينه وجزاؤه, قد ثبت ثبوتا لا ريب فيه, وهو أعظم الحقائق وأوضحها, | |
| وقد أقام الله على ذلك من البراهين, والأدلة, ما لا يمكن إحصاؤه وعده. | |
| وفي هذه الآية: فضيلة العلم والعلماء, لأن الله خصهم بالذكر, من دون البشر. | |
| وقرن شهادتهم, بشهادته وشهادة ملائكته. | |
| وجعل شهادتهم, من أكبر الأدلة والبراهين, على توحيده ودينه وجزائه. | |
| وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة. | |
| وفي ضمن ذلك: تعديلهم, وأن الخلق تبع لهم, وأنهم, هم الأئمة المتبوعون. | |
| وفي هذا من الفضل والشرف, وعلو المكانة, ما لا يقادر قدره. | |
" إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من | |
| بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب " | |
يخبر تعالى " إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ | |
| " أي: الدين الذي لا دين له سواه, ولا مقبول غيره, هو " | |
| الْإِسْلَامُ " وهو: الانقياد لله وحده, ظاهرا وباطنا, بما شرعه على | |
| ألسنة رسله, قال تعالى: " وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ | |
| دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ " . | |
| فمن دان بغير دين الإسلام, فهو لم يدن لله حقيقة, لأنه لم يسلك الطريق الذي شرعه | |
| على ألسنة رسله. | |
| ثم أخبر تعالى, أن أهل الكتاب يعلمون ذلك, وإنما اختلفوا, فانحرفوا عنه, عنادا | |
| وبغيا. | |
| وإلا فقد جاءهم العلم المقتضي لعدم الاختلاف, الموجب للزوم الدين الحقيقي. | |
| ثم لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عرفوه حق المعرفة, ولكن الحسد والبغي والكفر | |
| بآيات الله, هي التي صدتهم عن اتباع الحق. | |
| " وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ | |
| " أي: فلينتظروا ذلك فإنه آت, وسيجزيهم الله بما كانوا يعملون. | |
" فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب | |
| والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير | |
| بالعباد " | |
لما بين أن الدين الحقيقي عنده الإسلام, وكان أهل الكتاب قد شافهوا | |
| النبي صلى الله عليه وسلم بالمجادلة, وقامت عليهم الحجة, فعاندوها, أمره الله | |
| تعالى عند ذلك, أن يقول ويعلن, أنه أسلم وجهه أي: ظاهره وباطنه, لله, وأن من اتبعه | |
| كذلك, قد وافقوه على هذا الإذعان الخالص. | |
| وأن يقول للناس كلهم, من أهل الكتاب, والأميين أي: الذين ليس لهم كتاب, من العرب | |
| وغيرهم. | |
| إن أسلمتم, فأنتم على الطريق المستقيم والهدى والحق. | |
| وإن توليتم, فحسابكم على الله, وأنا ليس علي إلا البلاغ, وقد أبلغتكم, وأقمت عليكم | |
| الحجة. | |
" إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون | |
| الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم " | |
أي الذين جمعوا بين هذه الشرور: الكفر بآيات الله وتكذيب رسل الله, | |
| والجناية العظيمة على أعظم الخلق حقا على الخلق, وهم الرسل وأئمة الهدى, الذين | |
| يأمرون الناس بالقسط, الذي اتفقت عليه الأديان والعقول | |
" أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين | |
| " | |
فهؤلاء قد " حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي | |
| الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ " واستحقوا العذاب الأليم, وليس لهم ناصر من | |
| عذاب الله, ولا منقذ من عقوبته. | |
" ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله | |
| ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون " | |
أي: ألا تنظر وتعجب من هؤلاء " الَّذِينَ أُوتُوا | |
| نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ " و " يُدْعَوْنَ إِلَى | |
| كِتَابِ اللَّهِ " الذي يصدق ما أنزله على رسله. | |
| " ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ | |
| " عن اتباع الحق. | |
| فكأنه قيل: أي داع دعاهم إلى هذا الإعراض, وهم أحق بالاتباع, وأعرفهم بحقيقة ما | |
| جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ فذكر لذلك سببين: أمنهم, وشهادتهم الباطلة | |
| لأنفسهم بالنجاة. | |
| وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة حدودها بحسب أهوائهم الفاسدة, كأن تدبير | |
| الملك راجع إليهم, حيث قالوا " لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ | |
| إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى " . | |
| ومن المعلوم أن هذه أماني باطلة, شرعا وعقلا. | |
| والسبب الثاني: أنهم لما كذبوا بآيات الله وافتروا عليه, زين لهم الشيطان سوء | |
| عملهم, واغتروا بذلك, وتراءى لهم أنه الحق, عقوبة لهم على إعراضهم عن الحق, فهؤلاء | |
| كيف يكون حالهم - إذا جمعهم الله يوم القيامة, ووفى العاملين ما عملوا, وجرى عدل | |
| الله في عباده, فهنالك لا تسأل عما يصلون إليه من العقاب, وما يفوتهم من الخير | |
| والثواب, وذلك بما كسبت أيديهم " وما ربك بظلام للعبيد " | |
| . | |
" قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء | |
| وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير " | |
يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أصلا, | |
| وغيره تبعا - أن يقول عن ربه, معلنا بتفرده بتصريف الأمور, وتدبير العالم العلوي | |
| والسفلي, واستحقاقه باختصاصه بالملك المطلق, والتصريف المحكم, وأنه يؤتي الملك من | |
| يشاء, وينزع الملك ممن يشاء, ويعز من يشاء, ويذل من يشاء. | |
| فليس الأمر بأماني أهل الكتاب ولا غيرهم, بل الأمر أمر الله, والتدبير له. | |
| فليس له معارض في تدبيره, ولا معاون في تقديره. | |
| وأنه كما أنه المتصرف بمداولة الأيام بين الناس, فهو المتصرف بنفس الزمان. | |
| وقوله " بِيَدِكَ الْخَيْرُ " أي: الخير كله منك, | |
| ولا يأتي بالحسنات والخيرات, إلا الله. | |
| وأما الشر فإنه لا يضاف إلى الله تعالى, لا وصفا, ولا اسما, ولا فعلا. | |
| ولكنه يدخل في مفعولاته, ويندرج في قضائه وقدره. | |
| فالخير والشر, كله داخل في القضاء والقدر, فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه. | |
| ولكن الشر لا يضاف إلى الله. | |
| فلا يقال " بيدك الخير والشر " , بل يقال " بيدك الخير " كما قاله الله, وقاله رسوله. | |
| وأما استدراك بعض المفسرين حيث قال " وكذلك الشر بيد الله | |
| " فإنه وهم محض. | |
| ملحظهم, حيث ظنوا أن تخصيص الخير بالذكر, ينافي قضاءه وقدره العام, وجوابه ما | |
| فصلنا. | |
" تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من | |
| الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب " | |
يولج النهار في الليل ويولج الليل في النهار, أي: يدخل هذا على هذا, | |
| ويحل هذا محل هذا, ويزيد في هذا, ما ينقص من هذا, ليقيم بذلك مصالح خلقه. | |
| ويخرج الحي من الميت, كما يخرج الزروع والأشجار المتنوعة من بذورها, والمؤمن من | |
| الكافر, والميت من الحي. | |
| كما يخرج الحبوب والنوى, والزروع والأشجار, والبيضة من الطائر. | |
| فهو الذي يخرج المتضادات, بعضها من بعض, وقد انقادت له جميع العناصر. | |
| وقوله " وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ " قد | |
| ذكر الله في غير هذه الآية, الأسباب التي ينال بها رزقه كقوله: " | |
| وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا | |
| يَحْتَسِبُ " . | |
| " وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ " . | |
| فعلى العباد أن لا يطلبوا الرزق, إلا من الله, ويسعوا فيه بالأسباب التي يسرها | |
| الله وأباحها. | |
" لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك | |
| فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير | |
| " | |
هذا نهي من الله, وتحذير للمؤمنين, أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون | |
| المؤمنين, فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض, والله وليهم. | |
| " وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ " التولي " فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ " أي: فهو بريء من | |
| الله, والله بريء منه كقوله تعالى " وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ | |
| مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ " . | |
| وقوله: " إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً " أي: | |
| إلا أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين, فلكم - في هذه الحال - | |
| الرخصة في المسألة والمهادنة, لا في التولي الذي هو محبة القلب, الذي تتبعه | |
| النصرة. | |
| " وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ " أي: فخافوه | |
| واخشوه, وقدموا خشيته على خشية الناس, فإنه هو الذي يتولى شئون العباد, وقد أخذ | |
| بنواصيهم وإليه يرجعون وسيصيرون إليه. | |
| فيجازي من قدم حقوقه ورجاءه, على غيره, بالثواب الجزيل. | |
| ويعاقب الكافرين, ومن تولاهم, بالعذاب الوبيل. | |
" قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ويعلم ما في | |
| السماوات وما في الأرض والله على كل شيء قدير " | |
يخبر تعالى بإحاطة علمه بما في الصدور, سواء أخفاه العباد, أو أبدوه. | |
| كما أن علمه محيط بكل شيء, في السماء والأرض, فلا تخفى عليه خافية. | |
| ومع إحاطة علمه, فهو العظيم القدير على كل شيء, الذي لا يمتنع عن إرادته موجود. | |
" يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن | |
| بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد " | |
ولما ذكر لهم من عظمته وسعة أوصافه, ما يوجب للعباد أن يراقبوه في كل | |
| أحوالهم, ذكر لهم أيضا, داعيا آخر إلى مراقبته وتقواه, وهو: أنهم كلهم صائرون | |
| إليه, وأعمالهم - حينئذ, من خير وشر - محضرة. | |
| فحينئذ يغتبط أهل الخير, بما قدموه لأنفسهم, ويتحسر أهل الشر إذا وجدوا ما عملوه | |
| محضرا ويودون أن بينهم وبينه أمدا بعيدا فإذا عرف العبد أنه ساع إلى ربه, وكادح في | |
| هذه الحياة, وأنه لا بد أن يلاقي ربه, ويلاقي سعيه, أوجب له أخذ الحذر, والتوقي من | |
| الأعمال التي توجب الفضيحة والعقوبة, والاستعداد بالأعمال الصالحة, التي توجب | |
| السعادة والمثوبة. | |
| ولهذا قال تعالى " وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ " وذلك | |
| بما يبدي لكم من أوصاف عظمته, وكمال عدله وشدة نكاله, ومع شدة عقابه, فإنه رءوف | |
| رحيم. | |
| ومن رأفته ورحمته, أنه خوف العباد, وزجرهم عن الغي والفساد, كما قال تعالى - لما | |
| ذكر العقوبات " ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا | |
| عِبَادِ فَاتَّقُونِ " فرأفته ورحمته, سهلت لهم الطرق, التي ينالون | |
| بها الخيرات. | |
| ورأفته ورحمته, حذرتهم من الطرق التي تفضي بهم إلى المكروهات. | |
| فنسأله تعالى, أن يتمم علينا إحسانه, بسلوك الصراط المستقيم, والسلامة من الطرق, | |
| التي تفضي بسالكها, إلى الجحيم. | |
" قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم | |
| والله غفور رحيم " | |
هذء الآية هي الميزان, التي يعرف بها من أحب الله حقيقة, ومن ادعى ذلك | |
| دعوى مجردة. | |
| فعلامة محبة الله, اتباع محمد صلى الله عليه وسلم, الذي جعل متابعته, وجميع ما | |
| يدعو إليه, طريقا إلى محبته ورضوانه. | |
| فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه, إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة | |
| وامتثال أمرهما, واجتناب نهيهما. | |
| فمن فعل ذلك, أحبه الله, وجازاه جزاء المحبين, وغفر له ذنوبه, وستر عليه عيوبه. | |
| فكأنه قيل: ومع ذلك, فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها؟ | |
" قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين | |
| " | |
فأجاب بقوله. | |
| " قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ " بامتثال | |
| الأمر, واجتناب النهي وتصديق الخبر. | |
| " فَإِنْ تَوَلَّوْا " عن ذلك, فهذا هو الكفر | |
| والله " لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ " . | |
" إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين | |
| " | |
لله تعالى من عباده أصفياء, يصطفيهم | |
| ويختارهم, ويمن عليهم بالفضائل العالية, والنعوت السامية, والعلوم النافعة, | |
| والأعمال الصالحة, والخصائص المتنوعة. | |
| فذكر هذه البيوت الكبار, وما احتوت عليه من كملة الرجال, الذين حازوا أوصاف | |
| الكمال, وأن الفضل والخير, تسلسل في ذراريهم وشمل ذكورهم ونساءهم. | |
| وهذا من أجل مننه وأفضل مواقع جوده وكرمه. | |
| " وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " يعلم من يستحق | |
| الفضل والتفضيل, فيضع فضله حيث اقتضت حكمته. | |
" ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم " | |
فلما قرر عظمة هذه البيوت, ذكر قصة مريم وابنها عيسى صلى الله عليه | |
| وسلم, وكيف تسلسلا من هذه البيوت الفاضلة, وكيف تنقلت بهما الأحوال, من ابتداء | |
| أمرهما إلى آخره, وأن امرأة عمران قالت - متضرعة إلى ربها, متقربة إليه بهذه | |
| القربة التي يحبها, التي فيها تعظيم بيته وملازمة طاعته: " | |
| إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا " أي: خادما لبيت | |
| العبادة, المشحون بالمتعبدين. | |
| " فَتَقَبَّلْ مِنِّي " هذا العمل أي: اجعله | |
| مؤسسا على الإيمان والإخلاص, مثمرا للخير والثواب. | |
| " إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا | |
| قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ | |
| وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى " كان في هذا الكلام, نوع تضرع منها, | |
| وانكسار نفس حيث كان نذرها بناء على أنه يكون ذكرا, يحصل منه من القوة والخدمة | |
| والقيام بذلك, ما يحصل من أهل القوة, والأنثى بخلاف ذلك. | |
" فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما | |
| دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يا مريم أنى لك هذا قالت هو من عند | |
| الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب " | |
فجبر الله قلبها, وتقبل الله نذرها, وصارت | |
| هذه الأنثى, أكمل وأتم من كثير من الذكور, بل من أكثرهم. | |
| وحصل بها من المقاصد, أعظم مما يحصل بالذكر, ولهذا قال: " | |
| فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا " أي: | |
| ربيت تربية عجيبة, دينية, أخلاقية, أدبية كملت بها أحوالها, وصلحت بها أقوالها | |
| وأفعالها, ونما فيها كمالها, ويسر الله لها زكريا كافلا. | |
| وهذا من منة الله على العبد, أن يجعل من يتولى تربيته من الكاملين المصلحين. | |
| ثم إن الله تعالى أكرم مريم وزكريا, حيث يسر لمريم من الرزق الحاصل بلا كد ولا | |
| تعب, وإنما هو كرامة أكرمها الله به. | |
| إذ " كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ | |
| " وهو محل العبادة. | |
| وفيه إشارة إلى كثرة صلاتها وملازمتها لمحرابها " وَجَدَ | |
| عِنْدَهَا رِزْقًا " هنيئا معدا. | |
| " قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ | |
| عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ " . | |
| فلما رأى زكريا هذه الحال, والبر واللطف من الله بها, ذكره أن يسأل الله تعالى | |
| حصول الولد, على حين اليأس منه فقال: " رَبِّ هَبْ لِي مِنْ | |
| لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ فَنَادَتْهُ | |
| الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ | |
| يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ " اسمه أي: | |
| الكلمة التي من الله " عيسى بن مريم " : فكانت | |
| بشارته بهذا النبي الكريم, تتضمن البشارة بـ " عيسى " ابن | |
| مريم, والتصديق له, والشهادة له بالرسالة. | |
| فهذه الكلمة من الله, كلمة شريفة, اختص الله بها عيسى بن مريم. | |
| وإلا, فهي من جملة كلماته التي أوجد بها المخلوقات, كما قال تعالى: " إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ | |
| تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ " وقوله " | |
| وَسَيِّدًا وَحَصُورًا " . | |
| أي: هذا المبشر به وهو يحيى, سيد من فضلاء الرسل وكرامهم: " | |
| والحصور " قيل: هو الذي لا يولد له, ولا شهوة له في النساء, وقيل: هو | |
| الذي عصم وحفظ من الذنوب والشهوات الضارة. | |
| وهذا أليق المعنيين: " وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ " الذين | |
| بلغوا في الصلاح ذروته العالية. | |
" قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك | |
| الله يفعل ما يشاء " | |
" | |
| قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي | |
| عَاقِرٌ " . | |
| فهذان مانعان. | |
| فمن أي طريق - يا رب - يحصل لي ذلك, مع ما ينافي ذلك؟!. | |
| " قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ " فإنه | |
| - كما اقتضت حكمته جريان الأمور بأسبابها المعروفة - فإنه قد يخرق ذلك, لأنه | |
| الفعال لما يريد, الذي قد انقادت الأسباب لقدرته, ونفذت فيها مشيئته وإرادته, فلا | |
| يتعاصى على قدرته, شيء من الأسباب, ولو بلغت في القوة, ما بلغت | |
" قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا | |
| رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار " | |
" | |
| قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً " ليحصل | |
| السرور والاستبشار. | |
| وإن كنت - يا رب - متيقنا ما أخبرتني به, ولكن النفس تفرح, ويطمئن القلب, إلى | |
| مقدمات الرحمة واللطف. | |
| " قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ | |
| أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا " . | |
| وفي هذه المدة اذكر " رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ | |
| بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ " أول النهار وآخره. | |
| فمنع من الكلام في هذه المدة, فكان في هذا, مناسبة لحصول الولد من بين الشيخ | |
| الكبير, والمرأة العاقر. | |
| وكونه لا يقدر على مخاطبة الآدميين, ولسانه منطلق بذكر الله وتسبيحه, آية أخرى. | |
| فحينئذ حصل له الفرح والاستبشار, وشكر الله, وأكثر من الذكر والتسبيح, بالعشايا | |
| والأبكار. | |
| وكان هذا المولود, من بركات مريم بنت عمران, على زكريا. | |
| فإن ما من الله به عليها, من ذلك الرزق الهني, الذي يحصل بغير حساب, ذكره وهيجه | |
| على التضرع والسؤال. | |