سورة يوسف - تفسير السعدي | |
| | |
" الر تلك آيات الكتاب المبين " | |
يخبر تعالى, أن | |
| آيات القرآن هي " آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ " أي: البين الواضحة | |
| ألفاظه, ومعانيه. | |
" إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " | |
ومن بيانه وإيضاحه, أنه أنزله باللسان العربي, أشرف الألسنة, وأبينها. | |
| المبين, لكل ما يحتاجه الناس, من الحقائق النافعة. | |
| وكل هذا الإيضاح والتبيين " لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " أي: | |
| لتعقلوا حدوده, وأصوله, وفروعه, وأوامره, ونواهيه. | |
| فإذا عقلتم ذلك بإيقانكم, واتصفت قلوبكم بمعرفتها, أثمر ذلك, عمل الجوارح, | |
| والانقياد إليه. | |
| و " لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ " أي: تزداد عقولكم, | |
| بتكرر المعاني الشريفة العالية, على أذهانكم. | |
| فتنتقلون من حال إلى أحوال, أعلى منها وأكمل. | |
" نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من | |
| قبله لمن الغافلين " | |
" | |
| نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ " وذلك لصدقه, وسلاسة عبارته, ورونق معانيه. | |
| " بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ " أي: | |
| بما اشتمل عليه هذا القرآن, الذي أوحيناه إليك, وفضلناك به على سائر الأنبياء, | |
| وذاك محض منة, من الله وإحسان. | |
| " وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ " أي: | |
| ما كنت تدري, ما الكتاب, ولا الإيمان, قبل أن يوحي الله إليك, ولكن جعلناه نورا, | |
| نهدي به من نشاء, من عبادنا. | |
" إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا والشمس والقمر | |
| رأيتهم لي ساجدين " | |
ولما مدح ما اشتمل عليه هذا القرآن, من | |
| القصص, وأنه أحسن القصص على الإطلاق, فلا يوجد من القصص, في شيء من الكتب, مثل هذا | |
| القرآن, ذكر قصه يوسف, وأبيه, وإخوته, القصة العجيبة الحسنة. | |
| فقال: " إِذْ قَالَ يُوسُفُ " إلى " إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " . | |
| واعلم أن الله ذكر أنه يقص على رسوله, أحسن القصص في هذا الكتاب. | |
| ثم ذكر هذه القصة, وبسطها, وذكر ما جرى فيها, فعلم بذلك, أنها قصة تامة, كاملة | |
| حسنة. | |
| فمن أراد أن يكملها أو يحسنها, بما يذكر في الإسرائيليات, التي لا يعرف لها سند, | |
| ولا ناقل, وأغلبها كذب, فهو مستدرك على الله, ومكمل لشيء, يزعم أنه ناقص. | |
| وحسبك بأمر ينتهي إلى هذا الحد قبحا, فإن تضاعيف هذه السورة, قد ملئت في كثير من | |
| التفاسير, من الأكاذيب, والأمور الشنيعة المناقضة, لما قصه الله تعالى بشيء كثير. | |
| فعلى العبد أن يفهم عن الله, ما قصه, ويدع, ما سوى ذلك, مما ليس عن النبي صلى الله | |
| عليه وسلم, ينقل. | |
| فقوله تعالى: " إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ " يعقوب | |
| بن إسحاق بن إبراهيم الخليل, عليهم الصلاة والسلام: " يَا | |
| أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ | |
| رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ " . | |
| فكانت هذه الرؤيا, مقدمة لما وصل إليه يوسف عليه السلام, من الارتفاع في الدينا | |
| والآخرة. | |
| وهكذا إذا أراد الله أمرا من الأصول العظام, قدم بين يديه مقدمة, توطئة له, | |
| وتسهيلا لأمره, واستعدادا لما يرد على العبد من المشاق, ولطفا بعبده, وإحسانا | |
| إليه. | |
| فأولها يعقوب, بأن الشمس: أمه, والقمر أبوه, والكواكب, إخوته. | |
| وأنه ستنتقل به الأحول إلى أن يصير إلى حال يخضعون له, ويسجدون له, إكراما | |
| وإعظاما. | |
| وأن ذلك لا يكون, إلا بأسباب تتقدمه من اجتباء الله له, واصطفائه إياه, وإتمام | |
| نعمته عليه, بالعلم والعمل, والتمكين في الأرض. | |
| وأن هذه النعمة ستشمل آل يعقوب, الذين سجدوا له, وصاروا تبعا له فيها ولهذا قال: " وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ " | |
" قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان | |
| للإنسان عدو مبين " | |
ولما تم تعبيرها ليوسف, قال له أبوه: " يَا | |
| بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا " | |
| أي: حسدا من عند أنفسهم, بأن تكون أنت الرئيس الشريف عليهم. | |
| " إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ " لا | |
| يفتر عنه, ليلا ولا نهارا, ولا سرا, ولا جهارا. | |
| فالبعد عن الأسباب, التي يتسلط بها على العبد, أولى. | |
| فامتثل يوسف أمر أبيه, ولم يخبر إخوته بذلك, بل كتمها عنهم. | |
" وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك | |
| وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم وإسحاق إن ربك عليم حكيم " | |
" وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ " أي: يصطفيك ويختارك بما من به عليك من الأوصاف الجليلة, والمناقب | |
| الجميلة. | |
| " وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ " أي: | |
| من تعبير الرؤيا, وبيان ما تئول إليه الأحاديث الصادقة, كالكتب السماوية ونحوها. | |
| " وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ " في الدنيا | |
| والآخرة, بأن يؤتيك في الدنيا حسنة, وفي الآخرة حسنة. | |
| " كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ | |
| إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ " حيث أنعم الله عليهما, بنعم عظيمة واسعة, | |
| دينية, ودنيوية. | |
| " إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ " أي: علمه محيط | |
| بالأشياء, وبما احتوت عليه, ضمائر العباد, من البر وغيره. | |
| فيعطي كلا, ما تقتضيه حكمته وحمده, فإنه حكيم, يضع الأشياء مواضعها, وينزلها | |
| منازلها. | |
" لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين " | |
يقول تعالى: " لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ | |
| وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ " أي عبر وأدلة, على كثير من المطالب الحسنة. | |
| " لِلسَّائِلِينَ " أي: لكل من سأل عنها, بلسان | |
| الحال, أو بلسان المقال. | |
| فإن السائلين, هم الذين ينتفعون بالآيات والعبر. | |
| وأما المعرضون, فلا ينتفعون بالآيات, ولا بالقصص, والبينات. | |
" إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي | |
| ضلال مبين " | |
" إِذْ قَالُوا " فيما | |
| بينهم: " لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ " بنيامين, أي: | |
| شقيقه, وإلا, فكلهم إخوة. | |
| " أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ " أي: | |
| جماعة, فكيف يفضلهما بالمحبة والشفقة. | |
| " إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " أي: | |
| لفي خطأ بين, حيث فضلهما علينا, من غير موجب نراه, ولا أمر نشاهده. | |
" اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده | |
| قوما صالحين " | |
" | |
| اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا " أي: غيبوه عن أبيه, في أرض بعيدة, لا يتمكن من رؤيته فيها. | |
| فإنكم إذا فعلتم أحد هذين الأمرين " يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ | |
| أَبِيكُمْ " . | |
| أي: يتقرغ لكم, ويقبل عليكم بالشفقة والمحبة, فإنه قد اشتغل قلبه بيوسف, شغلا, لا | |
| يتفرغ لكم. | |
| " وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ " أي: من بعد هذا | |
| الصنيع " قَوْمًا صَالِحِينَ " أي: تتوبون إلى | |
| الله, وتستغفرونه من بعد ذنبكم. | |
| فقدموا العزم على التوبة, قبل صدور الذنب منهم تسهيلا لفعله, وإزالة لشناعته, وتنشيطا | |
| من بعضهم لبعض. | |
" قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف وألقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض | |
| السيارة إن كنتم فاعلين " | |
أي: " قَالَ قَائِلٌ " من إخوة يوسف, | |
| الذين أرادوا قتله, أو تبعيده: " لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ | |
| " فإن قتله أعظم إثما, وأشنع. | |
| والمقصود يحصل بتبعيده عن أبيه, من غير قتل, ولكن توصلوا إلى تبعيده بأن تلقوه " فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ " وتتوعدوه, على أنه لا يخبر | |
| بشأنكم, بل على أنه عبد مملوك آبق, لأجل أن " يَلْتَقِطْهُ | |
| بَعْضُ السَّيَّارَةِ " الذين يريدون مكانا بعيدا, فيحتفظوا فيه. | |
| وهذا القائل أحسنهم رأيا في يوسف, وأبرهم, وأتقاهم في هذه القضية. | |
| فإن بعض الشر, أهون من بعض, والضرر الخفيف, يدفع به الضرر الثقيل. | |
| فلما اتفقوا على هذا الرأي " قَالُوا يَا أَبَانَا " إلى | |
| قوله " إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ " . | |
" قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف وإنا له لناصحون " | |
أي: قال إخوة يوسف, متوصلين إلى مقصدهم لأبيهم: " | |
| يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ | |
| " أي: لأي شيء يدخلك الخوف منا, على يوسف, من غير سبب, ولا موجب؟ | |
| والحال " وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ " أي: | |
| مشفقون عليه, نود له ما نود لأنفسنا. | |
| وهذا يدل على أن يعقوب عليه السلام, لا يترك يوسف يذهب مع إخوته للبرية ونحوها. | |
| فلما نفوا عن أنفسهم التهمة المانعة, لعدم إرساله معهم, ذكروا له من مصلحة يوسف | |
| وأنسه, الذي يحبه أبوه له, ما يقتضي أن يسمح لإرساله معهم, فقالوا: | |
" أرسله معنا غدا يرتع ويلعب وإنا له لحافظون " | |
" أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ " أي: يتنزه في البرية ويستأنس. | |
| " وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ " أي سنراعيه, | |
| ونحفظه من كل أذى يريده. | |
" قال إني ليحزنني أن تذهبوا به وأخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه | |
| غافلون " | |
فأجابهم بقوله: " إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ | |
| تَذْهَبُوا بِهِ " أي مجرد ذهابكم به, يحزنني, ويشق علي, لأنني لا | |
| أقدر على فراقه, ولو مدة يسيرة. | |
| فهذا مانع من إرساله ومانع ثان, وهو: أني " وَأَخَافُ أَنْ | |
| يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ " أي: في حال | |
| غفلتكم عنه, لأنه صغير, لا يمتنع من الذئب. | |
" قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون " | |
" قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ | |
| " أي: جماعة, حريصون على حفظه. | |
| " إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ " أي: لا خير فينا, | |
| ولا نفع يرجى منا, إن أكله الذئب, وغلبنا عليه. | |
| فلما مهدوا لأبيهم الأسباب الداعية لإرساله, وعدم الموانع, سمح حينئذ بإرساله | |
| معهم, لأجل أنسه. | |
| " فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي | |
| غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا | |
| وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ " | |
| أي: لما ذهب إخوة يوسف, بعد ما أذن له أبوة, وعزموا أن يجعلوه في غيابة الجب, كما | |
| قال قائلهم, السابق ذكره, وكانوا قادرين على ما أجمعوا عليه, فنفذوا فيه قدرتهم, | |
| وألقوه في الجب. | |
| ثم إن الله, لطف به, بان أوحى إليه وهو بتلك الحال الحرجة. | |
| " لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا | |
| يَشْعُرُونَ " أي: سيكون منك معاتبة لهم, وإخبار عن أمرهم هذا, وهم لا | |
| يشعرون بذلك الأمر. | |
| ففيه بشارة له, بأنه سينجو مما وقع فيه, وأن الله سيجمعه بأهله وإخوته, على وجه | |
| العز والتمكين له, في الأرض. | |
" وجاءوا أباهم عشاء يبكون " | |
" | |
| وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ " ليكون | |
| إتيانهم, متأخرا عن عادتهم, وبكاؤهم دليلا لهم, وقرينة على صدقهم. | |
" قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله | |
| الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين " | |
فقالوا - معتذرين بعذر كاذب - " يَا أَبَانَا | |
| إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ " إما على الأقدام, أو بالرمي والنضال. | |
| " وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا " توفيرا | |
| له وراحة. | |
| " فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ " في حال غيابنا عنه | |
| واستباقنا. | |
| " وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ | |
| " أي: اعتذرنا بهذا العذر, والظاهر أنك لا تصدقنا, لما في قلبك من | |
| الحزن على يوسف, والرقة الشديدة عليه. | |
" وجاءوا على قميصه بدم كذب قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر | |
| جميل والله المستعان على ما تصفون " | |
ولكن عدم تصديقك إيانا, لا يمنعنا أن نعتذر بالعذر الحقيقي, وكل هذا, | |
| تأكيد لعذرهم. | |
| ومما أكدوا به قولهم, أنهم " وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ | |
| بِدَمٍ كَذِبٍ " زعموا, أنه دم يوسف, حين أكله الذئب, فلم يصدقهم | |
| أبوهم بذلك. | |
| و " قَالَ " : " بَلْ | |
| سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا " أي: زينت لكم أنفسكم أمرا | |
| قبيحا في التفريق بيني وبينه, لأنه رأى من القرائن والأحوال, ومن رؤيا يوسف, التي | |
| قصها عليه, ما دله على ما قال. | |
| " فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا | |
| تَصِفُونَ " أي: أما أنا, فوظيفتي سأحرص على القيام بها, وهي أني أصبر | |
| على هذه المحنة, صبرا جميلا, سالما من السخط والتشكي إلى الخلق, وأستعين الله على | |
| ذلك, لا على حولي وقوتي. | |
| فوعد من نفسه هذا الأمر وشكى إلى خالقه في قوله: " إِنَّمَا | |
| أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ " لأن الشكوى إلى الخالق, لا | |
| تنافي الصبر الجميل, لأن النبي, إذا وعد, وفى. | |
" وجاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام | |
| وأسروه بضاعة والله عليم بما يعملون " | |
أي: مكث يوسف في الجب, ما مكث, حتى " وَجَاءَتْ | |
| سَيَّارَةٌ " أي: قافلة تريد مصر. | |
| " فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ " أي. | |
| فرطهم ومقدمهم, الذي يعس لهم المياه, ويسبرها ويستعد لهم بتهيئة الحياض ونحو ذلك. | |
| " فَأَدْلَى " ذلك الوارد " | |
| دَلْوَهُ " فتعلق فيه يوسف عليه السلام, وخرج. | |
| " قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ " أي: استبشر | |
| وقال: هذا غلام نفيس. | |
| " وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً " وكان إخوته قريبا | |
| منه, فاشتراه السيارة منهم. | |
" وشروه بثمن بخس دراهم معدودة وكانوا فيه من الزاهدين " | |
" | |
| بِثَمَنٍ بَخْسٍ " أي قليل جدا, فسره بقوله: " دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ " | |
| . | |
| لأنه لم يكن لهم قصد, إلا تغييبه, وإبعاده عن أبيه, ولم يكن لهم قصد في أحذ ثمنه. | |
| والمعنى في هذا: أن السيارة, لما وجدوه, عزموا أن يسروا أمره, ويجعلوه من جملة | |
| بضائعهم, التي معهم, حتى جاء إخوته, فزعموا أنه عبد أبق منهم. | |
| فاشتروه منهم, بذلك الثمن, واستوثقوا منهم فيه, لئلا يهرب, والله أعلم. | |
" وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو | |
| نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على | |
| أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون " | |
أي لما ذهب به السيارة إلى مصر, وباعوه بها, فاشتراه عزيز مصر. | |
| فلما اشتراه, أعجب به, ووصى عليه امرأته وقال: " أَكْرِمِي | |
| مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا " أي: إما | |
| أن ينفعنا كنفع العبيد, بأنواع الخدم. | |
| وإما أن نستمتع فيه, استمتاعنا بأولادنا, ولعل ذات أنه لم يكن لهما, ولد. | |
| " وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ " أي: | |
| كما يسرنا له أن يشتريه عزيز مصر, ويكرمه هذا الإكرام, جعلنا هذا, مقدمة لتمكينه | |
| في الأرض, من هذا الطريق. | |
| " وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ " إذا | |
| بقي لا شغل له ولا هم سوى العلم صار ذلك من أسباب تعلمه علما كثيرا, من علم | |
| الأحكام, وعلم التعبير, وغير ذلك. | |
| " وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ " أي: أمره | |
| تعالى نافذ, لا يبطله مبطل, ولا يغلبه مغالب. | |
| " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ " . | |
| فلذلك يجري منهم, ويصدر, في مغالبة أحكام الله القدرية, وهم أعجز, وأضعف من ذلك. | |
" ولما بلغ أشده آتيناه حكما وعلما وكذلك نجزي المحسنين " | |
أي: " وَلَمَّا بَلَغَ " يوسف " أَشُدَّهُ " أي: كمال قوته المعنوية والحسية, وصلح | |
| لأن يتحمل الأحمال الثقيلة, من النبوة, والرسالة. | |
| " آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا " أي: جعلناه | |
| نبيا رسولا, وعالما ربانيا. | |
| " وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ " في عبادة | |
| الخالق, ببذل الجهد والنصح فيها, وإلى عباد الله, ببذل النفع والإحسان إليهم, | |
| نؤتيهم من جملة الجزاء على إحسانهم, علما نافعا. | |
| ودل هذا, على أن يوسف في مقام الإحسان, فأعطاه الله الحكم بين الناس, والعلم | |
| الكثير والنبوة. | |
" وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك | |
| قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون " | |
هذه المحنة العظيمة, أعظم على يوسف, من محنة إخوته, وصبره عليها, أعظم | |
| أجرا, لأنه صبر اختيار, مع وجود الدواعي الكثيرة, لوقوع الفعل, فقدم محبة الله | |
| عليها. | |
| وأما محنته بإخوته, فصبره صبر اضطرار, بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد | |
| بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها, طائعا أو كارها. | |
| وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام, بقي مكرما في بيت العزيز. | |
| وكان له من الجمال, والكمال, والبهاء, ما أوجب ذلك, أن " | |
| وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ " أي: هو | |
| غلامها, وتدبيرها, والمسكن واحد, يتيسر فيه إيقاع الأمر المكروه, من غير شعور أحد, | |
| ولا إحساس بشر. | |
| وزادت المصيبة, بأن " وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ " وصار | |
| المحل خاليا, وهما آمنان من دخول أحد عليهما, بسبب تغليق الأبواب. | |
| وقد دعته إلى نفسها " وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ " أي: | |
| افعل الأمر المكروه وأقبل إلي. | |
| ومع هذا, فهو غريب, لا يحتشم مثله, ما يحتشمه إذا كان في وطنه, وبين معارفه. | |
| وهو أسير تحت يدها, وهي سيدته, وفيها من الجمال, ما يدعو إلى ما هنالك. | |
| وهو شاب عزب, وقد توعدته, إن لم يفعل ما تأمرة به, بالسجن, أو العذاب الأليم. | |
| فصبر عن معصية الله, مع وجود الداعي القوي فيه, لأنه قد هم فيها, هما, تركه لله, | |
| وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء. | |
| ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان, الموجب, لترك كل ما حرم الله - | |
| ما أوجب له البعد والانكفاف, عن هذه المعصية الكبيرة. | |
| " قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ " أي. | |
| أعوذ بالله, أن أفعل هذا الفعل القبيح, لأنه مما يسخط الله, ويبعد عنه, ولأنه | |
| خيانة في حق سيدي, الذي أكرم مثواي. | |
| فلا يليق بي, أن أقابله في أهله, بأقبح مقابلة, وهذا من أعظم الظلم والظالم لا | |
| يفلح. | |
| والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل, تقوى الله, ومراعاة حق سيده, الذي | |
| أكرمه, وصيانة نفسه عن الظلم, الذي لا يفلح من تعاطاه. | |
| وكذلك ما من الله عليه, من برهان الإيمان, الذي في قلبه, يقتضي منه, امتثال | |
| الأوامر, واجتناب الزواجر. | |
| والجامع لذلك كله. | |
| أن الله صرف عنه السوء والفحشاء, لأنه من عباده المخلصين له, في عباداتهم, الذين | |
| أخلصهم الله, واختارهم, واختصهم لنفسه, وأسدى عليهم من النعم, وصرف عنهم المكاره, | |
| ما كانوا به من خيار خلقه. | |
" واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت | |
| ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم " | |
ولما امتنع من إجابة طلبها, بعد المراودة الشديدة, وذهب ليهرب عنها, | |
| ويبادر إلى الخروج من الباب, ليتخلص, ويهرب من الفتنة. | |
| فبادرت إليه, وتعلقت بثوبه, فشقت قميصه. | |
| فلما وصلا إلى الباب, في تلك الحال, ألفيا سيدها, أي. | |
| زوجها لدى الباب, فرأي أمرا شق عليه. | |
| فبادرت إلى الكذب, وادعت أن المراودة, قد كانت من يوسف, وقالت: " | |
| مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا " ولم تقل " من فعل بأهلك سوءا " تبرئة لها, وتبرئة له أيضا, من | |
| الفعل. | |
| وإنما النزاع عن الإرادة, والمراوده. | |
| " إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " أي: | |
| أو يعذب عذابا أليما. | |
" قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من | |
| قبل فصدقت وهو من الكاذبين " | |
فبرأ نفسه, مما رمته به, وقال: " هِيَ | |
| رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي " فحينئذ احتملت الحال, صدق كل واحد منهما, | |
| ولك يعلم أيهما. | |
| ولكن الله تعالى, جعل للحق والصدق, علامات, وأمارات تدل عليه, قد يعلمها العباد, | |
| وقد لا يعلمونها. | |
| فمن الله في هذه القضية, بمعرفة الصادق منهما, تبرئة لنبيه وصفيه, يوسف عليه | |
| السلام. | |
| فبعث شاهدا من أهل بيتها, يشهد بقرينة من وجدت معه, فهو الصادق, فقال: " إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ | |
| الْكَاذِبِينَ " لأن ذلك يدل على أنه هو المقبل عليها, المراود لها, | |
| المعالج, وأنها أرادت أن تدفعه عنها, فشقت قميصه من هذا الجانب. | |
" وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين " | |
" | |
| وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ | |
| " . | |
| لأن ذلك, يدل على هروبه منها, وأنها هي التي طلبته, فشقت قميصه من هذا الجانب. | |
" فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم | |
| " | |
" | |
| فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ " عرف بذلك صدق يوسف وبراءته, وأنها هي الكاذبة. | |
| فقال لها سيدها: " إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ | |
| كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ " وهل أعظم من هذا الكيد, الذي برأت به نفسها, | |
| لما أرادت وفعلت, ورمت به نبي الله, يوسف عليه السلام. | |
" يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين " | |
ثم إن سيدها لما تحقق الأمر, قال ليوسف: " يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا " . | |
| أي: اترك الكلام فيه, وتناسه, ولا تذكره لأحد, طلبا للستر على أهله. | |
| " وَاسْتَغْفِرِي " أيتها المرأة " | |
| لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ " فأمر يوسف بالإعراض, | |
| وأمرها بالاستغفار والتوبة. | |
" وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد | |
| شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين " | |
يعني: أن الخبر اشتهر وشاع في البلد, وتحدث به النسوة, فجعلن يلمنها, | |
| ويقلن: " امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ | |
| نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا " أي: هذا أمر مستقبح, هي امرأة كبيرة | |
| القدر, وزوجها كبير القدر, ومع هذا, لم تزل تراود فتاها, الذي تحت يدها, وفي | |
| خدمتها - عن نفسه. | |
| ومع هذا فإن حبه, قد بلغ من قلبها, مبلغا عظيما. | |
| " قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا " , أي: وصل حبه إلى | |
| شغاف قلبها, وهو: باطنه وسويداؤه. | |
| وهذا أعظم ما يكون من الحب. | |
| " إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ " حيث | |
| وجدت منها هذه الحالة, التي لا ينبغي منها, وهي حالة تحط قدرها, وتضعه عند الناس. | |
| وكان هذا القول منهن مكرا, ليس المقصود به, مجرد اللوم لها, والقدح فيها. | |
| وإنما أردن أن يتوصلن بهذا الكلام, إلى رؤية يوسف, الذي فتنت به امرأة العزيز, | |
| لتحنق امرأة العزيز, وتريهن إياه, ليعذرنها ولهذا سماه: مكرا, فقال: | |
" فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكأ وآتت كل واحدة | |
| منهن سكينا وقالت اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا | |
| بشرا إن هذا إلا ملك كريم " | |
" فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ | |
| " تدعوهن إلى منزلها للضيافة. | |
| " وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً " أي: محلا | |
| مهيأ بأنواع الفرش والوسائد, وما يقصد بذلك من المآكل اللذيذة, وكان في جملة ما | |
| أتت به وأحضرته, في تلك الضيافة, طعام يحتاج إلى سكين, إما أترج, أو غيره. | |
| " وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا " ليقطعن | |
| بها ذلك الطعام " وَقَالَتِ " ليوسف: " اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ " في حالة جماله وبهائه. | |
| " فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ " أي: أعظمنه | |
| في صدورهن, ورأين منظرا فائقا, لم يشاهدن مثله. | |
| " وَقَطَّعْنَ " من الدهش " | |
| أَيْدِيَهُنَّ " بتلك السكاكين, اللاتي معهن. | |
| " وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ " أي تنزيها لله " مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ " . | |
| وذلك أن يوسف, أعطي من الجمال الفائق, والنور, والبهاء, ما كان به آية للناظرين, | |
| وعبرة للمتأملين. | |
" قالت فذلكن الذي لمتنني فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ولئن | |
| لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين " | |
فلما تقرر عندهن جمال يوسف الظاهر, وأعجبهن | |
| غاية العجب, وظهر منهن من العذر لامرأة العزيز, شيء كثير - أرادت أن تريهن جماله | |
| الباطن, بالعفة التامة - فقالت - معلنة لذلك, ومبينة لحبه الشديد, غير مبالية, | |
| ولأن اللوم انقطع عنها من النسوة: " فَذَلِكُنَّ الَّذِي | |
| لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ " أي: | |
| امتنع وهي مقيمة على مراودته, لم تزدها مرور الأوقات, إلا قلقا ومحبة وشوقا لوصاله | |
| وتوقا. | |
| ولهذا قالت له بحضرتهن: " وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ | |
| لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَ مِنَ الصَّاغِرِينَ " . | |
| لتلجئه بهذا الوعيد, إلى حصول مقصودها منه. | |
" قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصب | |
| إليهن وأكن من الجاهلين " | |
فعند ذلك, اعتصم يوسف بربه, واستعان به على | |
| كيدهن و " قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا | |
| يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ " وهذا يدل, أن النسوة, جعلن يشرن على يوسف في | |
| مطاوعة سيدته, وجعلن يكدنه في ذلك. | |
| فاستحب السجن والعذاب الدنيوي, على لذة حاضرة, توجب العذاب الشديد. | |
| " وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ | |
| " أي: أمل إليهن, فإني ضعيف عاجز. | |
| إن لم تدفع عني السوء, صبوت إليهن " وَأَكُنْ مِنَ | |
| الْجَاهِلِينَ " فإن هذا جهل. | |
| لأنه آثر لذة قليلة منغصة, على لذات متتابعات, وشهوات متنوعات, في جنات النعيم. | |
| ومن آثر هذا, على هذا, فمن أجهل منه؟!! فإن العلم والعقل, يدعو إلى تقديم أعظم | |
| المصلحتين, وأعظم اللذتين, ويؤثر, ما كان محمود العاقبة. | |
" فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم " | |
" فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ " حين دعاه " فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ " فلم | |
| تزل تراوده وتستعين عليه, بما تقدر عليه من الوسائل, حتى آيسها, وصرف الله عنه | |
| كيدها. | |
| " إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ " لدعاء الداعي " الْعَلِيمُ " بنيته الصالحة, وبنيته الضعيفة المقتضية | |
| لإمداده بمعونته ولطفه. | |
| فهذا ما نجى الله به يوسف من هذه الفتنة الملمة, والمحنة الشديدة. | |
| وأما أسياده, فإنه لما اشتهر الخبر وبان, وصار الناس فيها, بين عاذر, ولائم, | |
| وقادح. | |
" ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين " | |
" | |
| بَدَا لَهُمْ " أي: ظهر لهم " | |
| مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ " الدالة على براءته. | |
| " لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ " أي: لينقطع | |
| بذلك, الخبر, ويتناساه الناس. | |
| فإن الشيء إذا شاع, لم يزل يذكر, ويشيع, مع وجود أسبابه, فإذا عدمت أسبابه نسي. | |
| فرأوا أن هذا مصلحة لهم, فأدخلوه في السجن. | |
" ودخل معه السجن فتيان قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا وقال | |
| الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من | |
| المحسنين " | |
أي ولما دخل يوسف السجن, كان من جملة من " | |
| وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ " أي: شابان, فرأى كل واحد منهما | |
| رؤيا, فقصها على يوسف ليعبرها. | |
| " قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا | |
| وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا " وذلك | |
| الخبز " تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ " . | |
| " نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ " أي: بتفسيره, وما | |
| يئول إليه أمره. | |
| وقولهما: " إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ " أي: | |
| من أهل الإحسان إلى الخلق فأحسن إلينا في تعبيرك لرؤيانا, كما أحسنت إلى غيرنا, | |
| فتوسلا ليوسف بإحسانه. | |
" قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن | |
| يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم | |
| كافرون " | |
" | |
| قَالَ " لهما مجيبا لطلبهما: " | |
| لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ | |
| قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا " أي: فلتطمئن قلوبكما, فإني سأبادر إلى | |
| تعبير رؤياكما, فلا يأتيكما غداؤكما, أو عشاؤكما, أول ما يجيء إليكما, إلا نبأتكما | |
| بتأويله, قبل أن يأتيكما. | |
| ولعل يوسف, عليه الصلاة والسلام, قصد أن يدعوهما إلى الإيمان في هذه الحال, التي | |
| بدت حاجتهما إليه, ليكون أنجع لدعوته, وأقبل لهما. | |
| ثم قال: " ذَلِكُمَا " التعبير الذي سأعبره لكما " مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي " . | |
| أي: هذا من علم الله علمنيه, وأحسن إلي به, وذلك " إِنِّي | |
| تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ | |
| كَافِرُونَ " . | |
| والترك, كما يكون للداخل في شيء ثم ينتقل عنه, يكون لمن لم يدخل فيه أصلا. | |
| فلا يقال: إن يوسف, كان من قبل, على غير ملة إبراهيم. | |
" واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك | |
| بالله من شيء ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون " | |
" وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ | |
| وَيَعْقُوبَ " ثم فسر تلك الملة بقوله: " مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ " بل | |
| نفرد الله بالتوحيد, ونخلص له الدين والعبادة. | |
| " ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ | |
| " أي: هذا من أفضل منته وإحسانه وفضله علينا, وعلى من هداه الله كما | |
| هدانا, فإنه لا أفضل من منة الله على العباد بالإسلام, والدين القويم. | |
| فمن قبله وانقاد له, فهو حظه, وقد حصل له أكبر النعم وأجل الفضائل. | |
| " وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ " فلذلك | |
| تأتيهم المنة والإحسان, فلا يقبل أكثر المصاحف تفاعلاً |