سورة الحج - تفسير السعدي | |
| | |
" يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم " | |
يخاطب الله الناس | |
| كافة, بأن يتقوا ربهم, الذي رباهم بالنعم الظاهرة والباطنة. | |
| فحقيق بهم, أن يتقوه, بترك الشرك, والفسوق, والعصيان, ويمتثلوا أوامره, مهما | |
| استطاعوا. | |
| ثم ذكر ما يعينهم على التقوى, ويحذرهم من تركها, وهو: الإخبار بأهوال القيامة, | |
| فقال: " إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ " لا يقدر قدره, | |
| ولا يبلغ كنهه. | |
| ذلك بأنها إذا وقعت الساعة, رجفت الأرض, وزلزلت زلزالها, وتصدعت الجبال, واندكت, | |
| وكانت كثيبا مهيلا, ثم كانت هباء منبثا. | |
| ثم انقسم الناس ثلاثة أزواج. | |
| فهناك تنفطر السماء, وتكور الشمس والقمر, وتنتثر النجوم, ويكون من القلاقل | |
| والبلابل, ما تنصدع له القلوب, وتوجل منه الأفئدة, وتشيب منه الولدان, ويذوب له | |
| الصم الصلاب, ولهذا قال: | |
" يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى | |
| الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد " | |
" يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا | |
| أَرْضَعَتْ " مع أنها مجبولة على شدة محبتها | |
| لولدها, خصوصا في هذه الحال, التي لا يعيش إلا بها. | |
| " وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا " من | |
| شدة الفزع والهول. | |
| " وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى " . | |
| أي: تحسبهم - أيها الرائي لهم - سكارى من الخمر, وليسوا سكارى. | |
| " وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ " : فلذلك | |
| أذهب عقولهم, وفرغ قلوبهم, وملأها من الفزع, وبلغت القلوب الحناجر, وشخصت الأبصار. | |
| في ذلك اليوم, لا يجزي والد عن ولده, ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. | |
| و " يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ | |
| وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ | |
| يُغْنِيهِ " وهناك يعض الظالم على يديه, يقول يا ليتني اتخذت مع | |
| الرسول سبيلا, يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلانا خليلا, وتسود حينئذ وجوه وتبيض وجوه. | |
| وتنصب الموازين, التي يوزن بها مثاقيل الذر, من الخير والشر. | |
| وتنشر صحائف الأعمال, وما فيها من جميع الأعمال والأقوال, والنيات, من صغير وكبير, | |
| وينصب الصراط على متن جهنم. | |
| وتزلف الجنة للمتقين, وبرزت الجحيم للغاوين. | |
| إذا رأتهم من مكان بعيد, سمعوا لها تغيظا وزفيرا. | |
| وإذا ألفوا منها مكانا ضيقا مقرنين, دعوا هنالك ثبورا. | |
| ويقال لهم: " لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا | |
| وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا " . | |
| وإذا نادوا ربهم, ليخرجهم منها, قال " اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا | |
| تُكَلِّمُونِ " . | |
| قد غضب عليهم الرب الرحيم وحضرهم العذاب الأليم, وأيسوا من كل خير, ووجدوا أعمالهم | |
| كلها, لم يفقدوا منها نقيرا ولا قطميرا. | |
| هذا, والمتقون في روضات الجنات يحبرون, وفي أنواع اللذات يتفكهون, وفيما اشتهت | |
| أنفسهم خالدون. | |
| فحقيق بالعاقل, الذي يعرف أن كل هذا أمامه, أن يعد له عدته, وأن لا يلهيه الأمل, | |
| فيترك العمل, وأن تكون تقوى الله شعاره, وخوفه دثاره, ومحبة الله, وذكره, روح | |
| أعماله. | |
" ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد | |
| " | |
أي: ومن الناس طائفة وفرقة, سلكوا طريق الضلال, وجعلوا يجادلون بالباطل | |
| الحق, يريدون إحقاق الباطل, وإبطال الحق. | |
| والحال, أنهم في غاية الجهل ما عندهم من العلم شيء. | |
| وغاية ما عندهم, تقليد أئمة الضلال, من كل شيطان مريد, متمرد على الله وعلى رسله, | |
| معاند لهم, قد شاق الله ورسوله, وصار من الأئمة الذين يدعون إلى النار. | |
" كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير " | |
" | |
| كُتِبَ عَلَيْهِ " أي: قدر على هذا الشيطان | |
| المريد " أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ " أي: اتبعه " فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ " عن الحق, ويجنبه الصراط المستقيم | |
| " وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ " . | |
| وهذا نائب إبليس حقا, فإن الله قال عنه " إِنَّمَا يَدْعُو | |
| حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ " فهذا الذي يجادل في | |
| الله, قد جمع بين ضلاله بنفسه, وتصديه إلى إضلال الناس. | |
| وهو متبع, ومقلد لكل شيطان مريد, ظلمات بعضها فوق بعض. | |
| ويدخل في هذا, جمهور أهل الكفر والبدع, فإن أكثرهم مقلدة, يجادلون بغير علم. | |
" يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم | |
| من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما | |
| نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد | |
| إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها | |
| الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " | |
يقول تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ | |
| فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ " أي: شك واشتباه, وعدم علم بوقوعه, مع أن | |
| الواجب عليكم, أن تصدقوا ربكم, وتصدقوا رسله في ذلك. | |
| ولكن إذا أبيتم إلا الريب, فهاكم دليلين عقليين, تشاهدونهما, كل واحد منهما, يدل | |
| دلالة قطعية على ما شككتم فيه, ويزيل عن قلوبكم الريب. | |
| أحدهما: الاستدلال بابتداء خلق الإنسان, وأن الذي ابتدأه, سيعيده فقال فيه: " فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ " وذلك بخلق أبي | |
| البشر, آدم عليه السلام. | |
| " ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ " أي: مني, وهذا أبتداء | |
| أول التخليق. | |
| " ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ " أي: تنقلب تلك النطفة, | |
| بإذن الله, دما أحمر. | |
| " ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ " أي: ينتقل الدم مضغة, | |
| أي: قطعة لحم, بقدر ما يمضغ. | |
| وتلك المضغة تارة تكون " مُخَلَّقَةٍ " أي: مصور | |
| منها خلق الآدمي. | |
| " وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ " تارة, بأن تقذفها | |
| الأرحام, قبل تخليقها. | |
| " لِنُبَيِّنَ لَكُمْ " أصل نشأتكم, مع قدرته | |
| تعالى, على تكميل خلقه في لحظة واحدة, ولكن ليبين لنا, كمال حكمته, وعظيم قدرته, | |
| وسعة رحمته. | |
| " وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ | |
| مُسَمًّى " , ونقر. | |
| أي: نبقي في الأرحام من الحمل, الذي لم تقذفه الأرحام, ما نشاء إبقاءه إلى أجل | |
| مسمى وهو مدة الحمل. | |
| " ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ " من بطون أمهاتكم " طِفْلًا " لا تعلمون شيئا, وليس لكم قدرة. | |
| وسخرنا لكم الأمهات, وأجرينا لكم في ثديها, الرزق. | |
| ثم تنقلون, طورا بعد طور, حتى تبلغوا أشدكم, وهو كمال القوة والعقل. | |
| " وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى " من قبل أن يبلغ | |
| سن الأشد. | |
| ومنكم من يتجاوزه فيرد إلى أرذل العمر, أي: أخسه وأرذله, وهو: سن الهرم والتخريف, | |
| الذي به يزول العقل, ويضمحل, كما زالت باقي القوة, وضعفت. | |
| " لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا " أي: | |
| لأجل أن لا يعلم هذا المعمر شيئا, مما كان يعلمه قبل ذلك, وذلك لضعف عقله. | |
| فقوة الآدمي محفوفة بضعفين, ضعف الطفولية ونقصها, وضعف الهرم ونقصه. | |
| كما قال تعالى: " اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ | |
| ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ | |
| ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ " . | |
| والدليل الثاني, إحياء الأرض بعد موتها, فقال الله فيه: " | |
| وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً " أي: خاشعة مغبرة لا نبات فيها, ولا | |
| خضرة. | |
| " فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ " أي: | |
| تحركت بالنبات " وَرَبَتْ " أي: ارتفعت بعد | |
| خشوعها وذلك لزيادة نباتها. | |
| " وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ " أي: صنف من | |
| أصناف النبات " بَهِيجٍ " أي: يهيج الناظرين, | |
| ويسر المتأملين. | |
| فهذان الدليلان القاطعان, يدلان على هذه المطالب الخمسة, وهي هذه. | |
" ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير | |
| " | |
" | |
| ذَلِكَ " الذي أنشأ الآدمي من ما وصف لكم, | |
| وأحيا الأرض بعد موتها. | |
| " بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ " أي الرب | |
| المعبود, الذي لا تنبغي العبادة إلا له. | |
| وعبادته هي الحق, وعبادة غيره باطلة. | |
| " وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى " كما ابتدأ | |
| الخلق, وكما أحيا الأرض بعد موتها. | |
| " وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ " كما | |
| أشهدكم من بديع قدرته, وعظيم صنعته, ما أشهدكم. | |
" وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور "quot; | |
" وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا " فلا وجه لاستبعادها. | |
| " وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ " فيجازيكم | |
| بأعمالكم حسنها وسيئها. | |
" ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير | |
| " | |
المجادلة المتقدمة للمقلد, وهذه المجادلة للشيطان المريد, الداعي إلى | |
| البدع. | |
| فأخبر أنه " يُجَادِلُ فِي اللَّهِ " أي: يجادل | |
| رسل الله وأتباعهم بالباطل ليدحض به الحق. | |
| " بِغَيْرِ عِلْمٍ " صحيح " | |
| وَلَا هُدًى " أي: غير متبع في جداله هذا من يهديه, لا عقل مرشد, ولا | |
| متبوع مهتد. | |
| " وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ " أي: واضح بين, فلا له | |
| حجة عقلية ولا نقلية. | |
" ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي ونذيقه يوم | |
| القيامة عذاب الحريق " | |
إن هي إلا شبهات, يوحيها إليه الشيطان " وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ | |
| لِيُجَادِلُوكُمْ " مع هذا " ثَانِيَ عِطْفِهِ | |
| " أي: لاوي جانبه وعنقه, وهذا كناية عن كبره عن الحق, واحتقاره للخلق. | |
| فقد فرح بما معه من العلم الغير النافع. | |
| واحتقر أهل الحق, وما معهم من الحق. | |
| " لِيُضِلَّ " الناس أي: ليكون من دعاة الضلال. | |
| ويدخل تحت هذا جميع أئمة الكفر والضلال. | |
| ثم ذكر عقوبتهم الدنيوية والأخروية فقال: " لَهُ فِي | |
| الدُّنْيَا خِزْيٌ " أي: يفتضح هذا في الدنيا قبل الآخرة. | |
| وهذا من آيات الله العجيبة, فإنك لا تجد داعيا مى دعاة الكفر والضلال, إلا وله من | |
| المقت بين العالمين, واللعنة, والبغض, والذم, ما هو حقيق به, وكل بحسب حاله. | |
| " وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ " | |
| أي نذيقه حرها الشديد, وسعيرها البليغ, وذلك بما قدمت يداه. | |
" ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد " | |
" ذَلِكَ " ما ذكر من | |
| العذاب الدنيوي والأخروي. | |
| وما فيه من معنى البعد (وهو معنى اللام في " ذلك " الموضوعة | |
| للدلالة على البعد) للدلالة على كون الكافر في الغاية القصوى من الهول والفظاعة. | |
| " بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ " أي: بسبب ما اقترفته | |
| من الكفر والمعاصي. | |
| " وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ " أي: | |
| والأمر أنه تعالى ليس بمعذب عبيده بغير ذنب من قبلهم. | |
| والمعنى الإجمالي: أنه يقال للكافر الموصوف بتلك الأوصاف في الآيتين السابقتين: | |
| ذلك الذي تلقاه من خزى وعذاب إنما كان بسبب افترائك وتكبرك لأن الله عادل لا يظلم, | |
| ولا يسوي بين المؤمن والكافر, والصالح والفاجر, بل يجازي كلا منهم بعمله. | |
" ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن | |
| أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين " | |
أي: ومن الناس من هو ضعيف الإيمان, لم يدخل | |
| الإيمان قلبه, ولم تخالطه بشاشته. | |
| بل دخل فيه, إما خوفا, وإما عادة على وجه لا يثبت عند المحن. | |
| " فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ " أي: | |
| إن استمر رزقه رغدا, ولم يحصل له من المكاره شيء, اطمأن بذلك الخير, لا إيمانه. | |
| فهذا, ربما أن الله يعافيه, ولا يقيض له من الفتن, ما ينصرف به عن دينه. | |
| " وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ " من حصول مكروه, | |
| أو زوال محبوب " انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ " أي: | |
| ارتد عن دينه. | |
| " خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ " أما في | |
| الدنيا, فإنه لا يحصل له بالردة ما أمله الذي جعل الردة رأسا لماله, وعوضا عما يظن | |
| إدراكه فخاب سعيه, ولم يحصل له, إلا ما قسم له. | |
| وأما الآخرة, فظاهر, حرم الجنة التي عرضها السماوات والأرض والأرض, واستحق النار. | |
| " ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " أي: | |
| الواضح البين. | |
" يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد | |
| " | |
" يَدْعُو " هذا الراجع | |
| على وجهه " مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا | |
| يَنْفَعُهُ " . | |
| وهذا صفة كل مدعو ومعبود, من دون الله, فإنه لا يملك لنفسه ولا لغيره, نفعا ولا | |
| ضرا. | |
| " ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ " الذي بلغ | |
| في البعد إلى حد النهاية, حيث أعرض عن عبادة النافع الضار, الغني المغني. | |
" يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير " | |
وأقبل على عبادة مخلوق مثله أو دونه, ليس | |
| بيده من الأمر شيء بل هو إلى حصول ضد مقصوده أقرب. | |
| ولهذا قال: " يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ | |
| " فإن ضرره في العقل والبدن, والدنيا والآخرة, معلوم " | |
| لَبِئْسَ الْمَوْلَى " أي هذا العبود " | |
| وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ " أي: القرين الملازم على صحبته. | |
| فإن المقصود من المولى والعشير, حصول النفع, ودفع الضرر. | |
| فإذا لم يحصل شيء من هذا, فإنه مذموم ملوم. | |
" إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها | |
| الأنهار إن الله يفعل ما يريد " | |
لما ذكر تعالى المجادل بالباطل, وأنه على قسمين, مقلد, وداع ذكر أن | |
| المتسمي بالإيمان أيضا على قسمين, قسم لم يدخل الإيمان قلبه كما تقدم. | |
| والقسم الثاني: المؤمن حقيقة, صدق ما معه من الإيمان بالأعمال الصالحة فأخبر تعالى | |
| أنه يدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. | |
| وسميت الجنة جنة, لاشتمالها على المنازل والقصور والأشجار والنباتات التي تجن من | |
| فيها, ويستتر بها, من كثرتها. | |
| " إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ " فمهما | |
| أراده تعالى, فعله من غير ممانع ولا معارض. | |
| ومن ذلك, إيصال أهل الجنة إليها, جعلنا الله منهم بمنه وكرمه. | |
" من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى | |
| السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ " | |
أي من كان يظن أن الله لا ينصر رسوله, وأن | |
| دينه سيضمحل, فإن النصر, من الله ينزل من السماء " | |
| فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ " النصر عن | |
| الرسول. | |
| " فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ " أي: | |
| ما يكيد به الرسول, ويعمله من محاربته, والحرص على إبطال دينه, ما يغيظه من ظهور | |
| دينه. | |
| وهذا استفام بمعنى النفي, أي: إنه لا يقدر على شفاء غيظه, بما يعمله من الأسباب. | |
| ومعنى هذه الآية الكريمة: يا أيها المعادي للرسول محمد صلى الله عليه وسلم, الساعي | |
| في إطفاء دينه, الذي يظن بجهله, أن سعيه سيفيده شيئا. | |
| إعلم أنك, مهما فعلت من الأسباب, وسعيت في كيد الرسول, فإن ذلك لا يذهب غيظك, ولا | |
| يشفي كمدك, فليس لك قدرة في ذلك. | |
| ولكن سنشير عليك برأي, تتمكن به من شفاء غيظك, ومن قطع النصر عن الرسول, إن كان | |
| ممكنا. | |
| ائت الأمر من بابه, وارتق إليه بأسبابه. | |
| اعمد إلى حبل من ليف أو غيره, ثم علقه في السماء, ثم اصعد به, حتى تصل إلى الأبواب | |
| التي ينزل منها النصر, فسدها, وأغلقها, واقطعها, فبهذه الحال تشفي غيظك. | |
| فهذا هو الرأي والمكيدة, وما سوى هذه الحال فلا يخطر ببالك أنك تشفي بها غيظك ولو | |
| ساعدك من ساعدك من الخلق. | |
| وهذه الآية الكريمة, فيها من الوعد والبشارة بنصر الله لدينه, ولرسوله, وعباده | |
| المؤمنين, ما لا يخفى, ومن تأييس الكافرين, الذين يريدون أن يطفئوا نور الله | |
| بأفواههم, والله متم نوره, ولو كره الكافرون أي: وسعوا مهما أمكنهم. | |
" وكذلك أنزلناه آيات بينات وأن الله يهدي من يريد " | |
أي: وكذلك لما فصلنا في هذا القرآن ما | |
| فصلنا, جعلناه آيات بينات, واضحات, دالات على جميع المطالب والمسائل النافعة, ولكن | |
| الهداية بيد الله. | |
| فمن أراد الله هدايته, اهتدى بهذا القرآن, وجعله إماما له وقدوة, واستضاء بنوره. | |
| ومن لم يرد الله هدايته, فلو جاءته كل آية, ما آمن, ولم ينفعه القرآن شيئا, بل | |
| يكون حجة عليه. | |
" إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين | |
| أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد " | |
يخبر تعالى عن طوائف أهل الأرض, من الذين | |
| أوتوا الكتاب, من المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين, ومن المجوس, ومن المشركين | |
| أن الله سيجمعهم جميعهم ليوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل, ويجازيهم بأعمالهم, | |
| التي حفظها وكتبها, وشهدها, ولهذا قال: " إِنَّ اللَّهَ عَلَى | |
| كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ " ثم فصل هذا الفصل بينهم بقوله: " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ " كل | |
| يدعي أنه الحق. | |
| " فَالَّذِينَ كَفَرُوا " يشمل كل كافر, من | |
| اليهود, والنصارى, والمجوس, والصابئين, والمشركين. | |
| " قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ " أي: | |
| يجعل لهم ثياب من قطران, وتشعل فيها النار, ليعمهم العذاب, من جميع جوانبهم. | |
| " يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ " الماء | |
| الحار جدا, يصهر ما في بطونهم من اللحم والشحم والأمعاء, من شدة حره, وعظيم أمره. | |
" ولهم مقامع من حديد " | |
" | |
| وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ " بيد | |
| الملائكة الغلاظ الشداد, تضربهم فيها وتقمعهم. | |
" كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب | |
| الحريق " | |
" | |
| كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا " فلا يفتر عنهم العذاب, ولا هم ينظرون, ويقال لهم توبيخا: " ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ " أي: المحرق للقلوب | |
| والأبدان. | |
" إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها | |
| الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير " | |
" إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا | |
| الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " . | |
| ومعلوم أن هذا الوصف لا يصدق على غير المسلمين, الذين آمنوا بجميع الكتب, وجميع | |
| الرسل. | |
| " يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ " أي: | |
| يسورون في أيديهم, رجالهم ونساؤهم, أساور الذهب. | |
| " وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ " فتم نعيمهم | |
| بذلك, من أنواع المأكولات اللذيذات المشتمل عليها, لفظ الجنات, وذكر الأنهار | |
| السارحات. | |
| أنهار الماء واللبن والعسل والخمر, وأنواع اللباس, والحلي الفاخر. | |
| وذلك بسبب أنهم هدوا " إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ | |
| " الذي أفضله وأطيبه كلمة الإخلاص, ثم سائر الأقوال الطيبة, التي | |
| فيها, ذكر الله, أو إحسان إلى عبادة الله. | |
| " وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ " أي: | |
| الصراط المحمود. | |
| وذلك, لأن جميع الشرع كله, محتو على الحكمة والحمد, وحسن المأمور به, وقبح المنهي, | |
| وهو الدين الذي, لا إفراط فيه ولا تفريط, المشتمل على العلم النافع, والعمل | |
| الصالح. | |
| أو, وهدوا إلى صراط الله الحميد, لأن الله, كثيرا ما يضيف الصراط إليه, لأنه يوصل | |
| صاحبه إلى الله. | |
| وفي ذكر " الحميد " هنا, ليبين أنهم نالوا الهداية, | |
| بحمد ربهم, ومنته عليهم. | |
| ولهذا يقولون في الجنة " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا | |
| لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ " . | |
| واعترض تعالى بين هذه الآيات, بذكر سجود المخلوقات له, جميع من في السماوات | |
| والأرض, والشمس, والقمر, والنجوم, والجبال, والشجر, والدواب, الذي يشمل الحيوانات | |
| كلها, وكثير من الناس, وهم المؤمنون. | |
| " وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ " أي: وجب | |
| وكتب, لكفره, وعدم إيمانه, فلم يوفقه للإيمان, لأن الله أهانه. | |
| " وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ " ولا | |
| راد لما أراد, ولا معارض لمشيئته. | |
| فإذا كانت المخلوقات كلها, ساجدة لربها, خاضعة لعظمته, مستكينة لعزته, عانية | |
| لسلطانه, دل على أنه وحده, الرب المعبود, والملك المحمود, وأن من عدل عنه إلى | |
| عبادة سواه, فقد ضل ضلالا بعيدا, وخسر خسرانا مبينا. | |
" إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه | |
| للناس سواء العاكف فيه والبادي ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " | |
يخبر تعالى عن شناعة ما عليه المشركون الكافرون بربهم, وأنهم جمعوا بين | |
| الكفر بالله ورسوله, وبن الصد عن سبيل الله, ومنع الناس من الإيمان, والصد أيضا, | |
| عن المسجد الحرام, الذي ليس ملكا لهم ولا لآبائهم, بل الناس فيه سواء, المقيم فيه, | |
| والطارئ إليه. | |
| بل صدوا عنه أفضل الخلق محمدا وأصحابه, والحال أن المسجد الحرام, من حرمته | |
| واحترامه وعظمته, أن من يرد فيه بإلحاد بظلم, نذقه من عذاب أليم. | |
| فمجرد الإرادة للظلم والإلحاد في الحرم, موجب للعذاب, وإن كان غيره لا يعاقب العبد | |
| عليه إلا بعمل الظلم. | |
| فكيف بمن أتى فيه أعظم الظلم, من الكفر والشرك, والصد عن سبيله ومنع من يريده | |
| بزيارة, فما ظنكم أن يفعل الله بهم؟!! وفي هذه الآية الكريمة, وجوب احترام الحرم, | |
| وشدة تعظيمه, والتحذير من إرادة المعاصي فيه, وفعلها. | |
" وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي | |
| للطائفين والقائمين والركع السجود " | |
يذكر تعالى عظمة البيت الحرام وجلالته وعظمة بانيه وهو خليل الرحمن | |
| فقال: " وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ | |
| " أي: هيأناه له, وأنزلنا إياه. | |
| وجعل قسما من ذريته من سكانه, وأمره الله ببنيانه. | |
| فبناه على تقوى الله, وأسسه على طاعة الله. | |
| وبناه هو وابنه إسماعيل, وأمره أن لا يشرك به شيئا, بأن يخلص لله أعماله, ويبنيه | |
| على اسم الله. | |
| " وَطَهِّرْ بَيْتِيَ " أي: من الشرك والمعاصي, | |
| ومن الأنجاس والأدناس وإضافة الرحمن إلى نفسه, لشرفه, وفضله, ولتعظم محبته في | |
| القلوب, وتنصب إليه الأفئدة من كل جانب, وليكون أعظم لتطهيره وتعظيمه, لكونه بيت | |
| الرب للطائفين به والعاكفين عنده, المقيمين لعبادة من العبادات من ذكر, وقراءة وتعلم | |
| علم وتعليمه, وغير ذلك من أنواع القرب. | |
| " وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ " أي: المصلين, أي: | |
| طهره لهؤلاء الفضلاء, الذين همهم, طاعة مولاهم, وخدمته والتقرب إليه عند بيته. | |
| فهؤلاء, لهم الحق ولهم الإكرام, ومن إكرامهم تطهير البيت لأجلهم ويدخل في تطهيره, | |
| تطهيره من الأصوات اللاغية والمرتفعة التي تشوش المتعبدين, بالصلاة والطواف. | |
| وقدم الطواف على الاعتكاف والصلاة, لاختصاصه بهذا البيت. | |
| ثم الاعتكاف, لاختصاصه بجنس المساجد. | |
" وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج | |
| عميق " | |
" | |
| وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ " أي: | |
| أعلمهم به, وادعهم إليه, وبلغ. | |
| دانيهم وقاصيهم, فرضه وفضيلته. | |
| فإنك إذا دعوتهم, أتوك حجاجا: وعمارا, رجالا, أي: مشاة على أرجلهم من الشوق. | |
| " وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ " أي: ناقة ضامر, تقطع | |
| المهامه والمفاوز. | |
| وتواصل السير, حتى تأتي إلى أشرف الأماكن. | |
| " مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ " أي: من كل بلد | |
| بعيد. | |
| وقد فعل الخليل عليه السلام, ثم من بعده ابنه محمد صلى الله عليه وسلم. | |
| فدعيا إلى حج هذا البيت, وأبديا في ذلك وأعادا. | |
| وقد حصل ما وعد الله به. | |
| أتاه الناس, رجالا وركبانا من مشارق الأرض, ومغاربها. | |
| ثم ذكر فوائد زيارة بيت الله الحرام, مرغبا فيه فقال: | |
" ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما | |
| رزقهم من بهيمة الأنعام فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير " | |
" | |
| لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ " أي: لينالوا | |
| ببيت الله, منافع دينية, من العبادات الفاضلة, والعبادات التي لا تكون إلا فيه. | |
| ومنافع دنيوية, من التكسب: وحصول الأرباح الدنيوية, وكل هذا أمر مشاهد, كل يعرفه. | |
| " وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ | |
| عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ " وهذا من المنافع | |
| الدينية والدنيوية أي: ليذكروا اسم الله, عند ذبح الهدايا, شكرا لله على ما رزقهم | |
| منها, ويسرها لهم. | |
| فإذا ذبحتموها " فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ | |
| الْفَقِيرَ " . | |
| أي: شديد الفقر. | |
" ثم ليقضوا تفثهم وليوفوا نذورهم وليطوفوا بالبيت العتيق " | |
" ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ " أي: يقضوا نسكهم, ويزيلوا الوسخ والأذى, الذي لحقهم في حال الإحرام " وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ " التي أوجبوها على أنفسهم, | |
| من الحج, والعمرة والهدايا. | |
| " وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ " أي: | |
| القديم, أفضل المساجد على الإطلاق. | |
| والمعتق: من تسلط الجبابرة عليه. | |
| وهذا أمر بالطواف, خصوصا بعد الأمر بالمناسك له عموما, لفضله, وشرفه, ولكونه | |
| المقصود, وما قبله وسائل إليه. | |
| ولعله - والله أعلم أيضا - لفائدة أخرى, وهو: أن الطواف مشروع كل وقت, وسواء كان | |
| تابعا لنسك, أم مستقلا بنفسه. | |
" ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم الأنعام | |
| إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور " | |
" | |
| ذَلِكَ " أي: ما ذكرنا لكم من تلكم الأحكام, | |
| وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها, وتكريمها, لأن تعظيم حرمات الله, من | |
| الأمور المحبوبة لله, المقربة إليه, التي من عظمها وأجلها, أثابه الله ثوابا | |
| جزيلا, وكانت خيرا له, في دينه, ودنياه وأخراه, عند ربه. | |
| وحرمات الله: كل ما له حرمة, وأمر باحترامه, من عبادة أو غيرها, كالمناسك كلها, | |
| وكالحرم والإحرام, وكالهدايا, وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها. | |
| فتعظيمها يكون إجلالا بالقلب, ومحبتها, وتكميل العبودية فيها, غير متهاون, ولا | |
| متكاسل, ولا متثاقل. | |
| ثم ذكر منته وإحسانه, بما أحله لعباده, من بهيمة الأنعام, من إبل وبقر, وغنم, | |
| وشرعها من جملة المناسك, التي يتقرب بها إليه, فعظمت منته فيها من الوجهين. | |
| " إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ " في القرآن | |
| تحريمه من قوله: " حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ | |
| وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ " الآية. | |
| ولكن الذي من رحمته بعباده, أن حرمه عليهم, ومنعهم منه, تزكية لهم, وتطهيرا من | |
| الشرك به, وقول الزور, ولهذا قال: " فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ | |
| " أي الخبث القذر " مِنَ الْأَوْثَانِ " أي | |
| الأنداد, التي جعلتموها آلهة مع الله, فإنها أكبر أنواع الرجس. | |
| والظاهر أن " من " هنا ليست لبيان الجنس, كما | |
| قاله كثير من المفسرين, وإنما هي للتبعيض, وأن الرجس عام في جميع المنهيات | |
| المحرمات. | |
| فيكون منهيا عنها عموما, وعن الأوثان التي هي بعضها خصوصا. | |
| " وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ " أي: جميع | |
| الأقوال المحرمات, فإنها من قول الزور. | |
" حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء | |
| فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق " | |
أمرهم أن يكونوا " حُنَفَاءَ | |
| لِلَّهِ " مقبلين عليه, وعلى عبادته, معرضين عما سواه. | |
| " غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ " فمثله | |
| " فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ " أي: سقط | |
| منها " فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ " بسرعة " أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ " أي: | |
| بعيد, كذلك المشركون. | |
| فالإيمان بمنزلة السماء, محفوظة مرفوعة. | |
| ومن ترك الإيمان, بمنزلة الساقط من السماء, عرضة للآفات والبليات. | |
| فإما أن تخطفه الطير فتقطعه أعضاء, كذلك المشرك إذا ترك الاعتصام بالإيمان تخطفته | |
| الشياطين من كل جانب, ومزقوه, وأذهبوا عليه دينه ودنياه. | |
| وإما أن تأخذه عاصفة شديدة من الريح فتعلو به في طبقات الجو فتقذفه بعد أن تتقطع | |
| أعضاؤه في مكان بعيد جدا. | |
" ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب " | |
أي: ذلك الذي ذكرناه لكم, من تعظيم حرماته وشعائره. | |
| والمراد بالشعائر: أعلام الدين الظاهرة, ومنها المناسك كلها, كما قال تعالى " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ " ومنها | |
| الهدايا والقربان للبيت. | |
| وتقدم أن معنى تعظيمها, إجلالها, والقيام بها, وتكميلها على أكمل ما يقدر عليه | |
| العبد. | |
| ومنها الهدايا, فتعظيمها, باستحسانها واستسمانها, وأن تكون مكملة من كل وجه. | |
| فتعظيم شعائر الله, صادر من تقوى القلوب. | |
| فالمعظم لها, يبرهن على تقواه, وصحة إيمانه, لأن تعظيمها, تابع لتعظيم الله | |
| وإجلاله. | |
" لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق " | |
" | |
| لَكُمْ فِيهَا " أي: في الهدايا " مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " هذا في الهدايا | |
| المسوقة, من البدن ونحوها, ينتفع بها أربابها, بالركوب, والحلب ونحو ذلك, مما لا | |
| يضرها " إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى " مقدر, موقت وهو | |
| ذبحها, إذا وصلت " مَحِلُّهَا " وهو " الْبَيْتِ الْعَتِيقِ " أي المحرم كله " منى " وغيرها. | |
| فإذا ذبحت, أكلوا منها, وأهدوا, وأطعموا البائس الفقير. | |
" ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة | |
| الأنعام فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين " | |
أي: ولكل أمة من الأمم السالفة, جعلنا منسكا. | |
| أي: فاستبقوا إلى الخيرات وسارعوا إليها, ولننظر أيكم أحسن عملا. | |
| والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكا, إقامة ذكره, والالتفات لشكره. | |
| ولهذا قال: " لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا | |
| رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ " . | |
| وإن اختلفت أجناس الشرائع, فكلها متفقة على هذا الأصل, وهو: ألوهية الله, وإف أكثر المصاحف تفاعلاً |