التَّصحيحُ و التَّضعيف ( نَقدُ الوَاقِعُ العِلميٌّ )


  بسم الله الرحمن الرحيم

من الأمور التي عمَّت في هذا الزمان فتحُ باب (التصحيح و التضعيف) في الحديثِ لكلِّ أحدٍ, من الناسِ، دون مراعاةٍ, لمقامِ التأهٌّلِ مراعاةً صحيحةً وَفقَ المنهاج المرسوم لدى أهلِ الفَنِّ.

فأنتَ راءٍ, في الناسِ خللاً كبيراً في هذه المسألة، و تُبصِرُ وقوعهم في هوةٍ, بعيدةِ القعر، ذلك أن رأسَ هذا و ذاك هو عدمُ مراعاة أصولِ (المُصحِّحِ و المُضَعِّفِ)، و الغفلةُ عن قواعد ذلك.

لذا لمَّا كان التصنيفُ وَقفَ العلماءُ على كتبٍ, رَعوها و فقهوها، و عرفوا لأصحابها حقهم، فصارَ التعويل عليها، و ذلكَ لكونها كائنةً من أئمةٍ, على مثلهم يُعتمَدُ في تحرير الأحكام على الأحاديث، و ذوي أهليةٍ, في ذلك، و الاعتمادُ عليهم لذاك.

يقول الحافظُ ابنُ رجبٍ,  - رحمه الله - [الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة، ص 25]: … و أما سائرُ الناس: فيُعوِّلون على هذه الكتب المُشار إليها، و يكتفون بالعزو إليها. ا،هـ.

 

و يقصدُ بالكتب: الكتب الستة.

 

فَعَمَدَ بعضٌ من الناس _ في الأزمان المتأخرة _ إلى إعمالِ أذهانهم إعمالَ الحفاظ الكبار، فتعرَّضوا لدراسةِ الأسانيد، و تحرير محلِّ النزاع في الرجال، و التحقيق في دعوى العلل، فصُحِّحَ الضعيفُ، و ضُعِّفَ الصحيح، و استُخرِجَت صِحاحٌ بعد الصِّحاح، و كثُرَ المُجتهدون في ذا الباب. معَ لحظِ غِياب الأهلية و التمكٌّن في الفن و أصوله.

ومن أجلِ ذلك شدَّدَ العلماءُ في هذا الباب حتى ذموا الإمام الحاكم _ - رحمه الله -_ في تصنيفه [المُستدرَك على الصحيحين]، قال الحافظُ ابنُ رجبٍ, الحنبلي -  يرحمه الله - [الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة ص 24]: و لهذا أنكرَ العلماءُ على مَن استدرَك عليهما _ أي: الصحيحين _ الكتابَ الذي سماه: المستدرك. ا.هـ.

 

و لقد كان صنيعُ الإمام ابن الصَّلاح - رحمه الله - حسناً في سدِّه باب التصحيح و التضعيف، حيثُ قال [المقدمة، ص/12]: تعذَّرَ في هذه الأعصار الاستقلالُ بإدراك الصحيح بمُجرَّدِ اعتبار الأسانيد، لأنه ما مِن إسنادٍ, من ذلك إلا و تجدُ في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عرِيَّاً عما يُشترَطُ في الصحيح من الحفظ و الضبط و الإتقان، فآلَ الأمرُ إذاً في معرفةِ الصحيح و الحسن إلى الاعتماد على ما نصَّ عليه أئمةُ الحديثِ في تصانيفهم المعتمدة المشهورة، التي يُؤمَنُ فيها _ لشهرتها _ من التغيير و التحريف. ا،هـ. إلا أن كلامَ ابنِ الصلاحِ مُقَيَّدٌ فيمن ليس بذي أهليةٍ,، و أما المتأهِّلُ فليس مراداً بهذا الكلام، قرَّرَه النووي في تقريبه [تدريب الراوي 1/143].

 

و غيرُ المتأهِّل لا يُقبَل كلامه، و لا يُعوَّل عليه فيقول ابن رجبٍ, - يرحمه الله - [الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة ص 25]: و لم يُقبل من أحدٍ, بعد ذلك الصحيح و الضعيفُ إلا عمَّن اشتهرَ حِذقُه و معرفته بهذا الفن و اطلاعه عليه، و هم قليل جداً. ا،هـ. و حيثُ أن الكلامَ دائرٌ على الأهلية في ذلك فلا بُدَّ من إيضاحٍ, لتلك الأهلية على وجهِ إيجازٍ, و استيفاءٍ, للمقصود.

 

إنَّ المُتأهِّلَ الذي يُعتَمَدُ على حكمه في الحديث هو مَن توفرت فيه شروط الاجتهاد، هذا من حيثُ كونُه مُستقِلاًّ بالحكم،

 

و شروط الاجتهاد هي:

1. معرفةُ الكتاب، و المُرادُ: إدراك آيات الكتاب، و الإلمامُ بمعانيها، و المُتَعَيِّنُ آيات الأحكام.

انظر: المُستصفى _ للغزَّالي _ 2/350، المحصول _ لفخر الدين الرازي _ 2/33، البحر المحيط _ للزركشي _ 6/199.

2. معرفةُ السنة، كالسابق في حدِّ المُراد.

انظر: البحر المحيط 6/200.

3. معرفة اللغة العربية، و المُشترَطُ العلمُ بما يتعلَّقُ بنصوص الأحكام.

قال الطٌّوفي - يرحمه الله - [شرح مختصر الروضة 3/581]: و يُشترَط أن يعرف من النحو و اللغة ما يكفيه في معرفة في معرفة ما يتعلَّق بالكتاب و السنة مِن: نصٍّ,، و ظاهرٍ, و مجمَلٍ,، و حقيقةٍ, و مجازٍ,، و عامٍ, و خاص، و مُطلَقٍ, و مقيَّدٍ,، و دليل الخطاب و نحوه كـ: فحوى الخطاب، و لحنه، و مفهومه، لأن بعضَ الأحكام يتعلَّق بذلك و يتوقَّف عليه توقفاً ضرورياً. ا،هـ. انظر: البحر المحيط 6/202، التحبير _ للمرداوي _ 8/3875.

4. معرفة مواقع الإجماع، و ذلك لأمرين:

أ _ التحرٌّز من القول بما يُخالفه، و يُلحق بذلك: إحداثُ قولٍ, ثالث.

ب _ التحرٌّز من القول بالخلاف أو القول المهجور المتروك.

انظر: المستصفى 2/351، البحر المحيط 6/201.

 

فائدة: قال الإمامُ الزركشي – يرحمه الله - [البحر المحيط 6/201]: و لابُدَّ معَ ذلك أن يعرفَ الاختلاف. ا،هـ.

5. معرفة الناسخ و المنسوخ، حتى لا يستدل بنصٍّ, منسوخ.

انظر: البحر المحيط 6/203، التحبير 8/3873.

6. معرفةُ أصول الجرح و التعديل. قال المرداوي - يرحمه الله - [التحبير 8/3875]: لكن يكفي التعويلُ في هذه الأمور كلها في هذه الأزمنة على كلام أئمة الحديث كأحمد، و البخاري، و مسلم، و أبي داود، و الدار قُطني، و نحوهمº لأنهم أهل المعرفة بذلك، فجازَ الأخذ بقولهم كما نأخذ بقولِ المُقَيِّمين في القيم. ا،هـ.

انظر: البحر المحيط 6/203، التحبير 8/3875.

7. معرفة أصول الفقه. انظر: المحصول 2/36، إرشاد الفحول _ للشوكاني _ ص 234، التحبير 8/3870.

 

فائدتان مُتَمِّمَتان:

الأولى: قال الصَيرَفي - يرحمه الله - : و مَن عرَفَ هذه العلوم فهو في المرتبة العليا، و من قَصر عنه فمقدارُه ما أحسن، و لن يجوز أن يُحيطَ بجميع هذه العلوم أحدٌ غير النبي - صلى الله عليه وسلم - و هو مُتفرِّقٌ في جملتهم.

و الغرضُ الّلازم مِن علمِ وصفت ما لا يقدرُ العبد بترك فعله، و كلما ازداد علماً ازداد منـزلةً. قال - تعالى -: {و فَوقَ كلِّ ذي علمٍ, عليمٍ,}. ا.هـ [البحرُ المحيط 6/203].

 

الثانية: قال الشوكاني - يرحمه الله - : و من جعل المقدار المُحتاجَ إليه من هذه الفنون هو معرفةُ مُختصَرَاتُها، أو كتابٍ, متوسِّطٍ, من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعدَ، بل الاستكثارُ من الممارسة لها و التوسع في الإطلاع على مطولاتها مما يزيد المجتهد قوةً في البحثِ، و بصراً في الاستخراج، و بصيرةً في حصول مطلوبه.

و الحاصلُ: أنَّه لابُدَّ أن تَثبُتَ له الملَكَةُ القوية في هذه العلوم، و إنما تثبُتُ هذه الملَكَةُ بطولِ المُمَارَسة، و كثرة المُلازمة لشيوخ هذا الفن. ا،هـ [إرشاد الفحول ص 234].

 

و بعدَ ذكرِ هذه الشروط المُؤَهِّلَةِ للتصدٌّر للاستنباط في الشريعة نعرِفُ عِظَمَ الأمر، و خطورة الإقدام على مثل هذا.

و المُتصدِّرُ للحكمِ على الأحاديث _ صحةً و ضعفاً _ في هذا الزمان هو ممن لم يتوفر فيه القدرُ الواجب في واحدٍ, من هذه الشروط _ فضلاً عن كمالِه و تمامه _، و الميزانُ ظاهرٌ و الأعمال منشورة. و هذه الشروط تتعلَّقُ بِمَن تصدَّرَ للحكم استقلالاً دون تبعيةٍ, لأحدٍ, من العلماء المُتَّبَعِين، و أما من يتَّبِعُ غيرَه في الحكم فهذا له ما يُحكِمُهُ، و ذلك من خلال ما يلي:

 

1) أن يكون القول و الحكم المأخوذ معمولاً به محفوظاً عند أهل الفن، فإنه قد تَرِدُ و تُذكرُ أحكامٌ، و قواعد على بعض المسائل في التصحيح و التضعيف لكنها لا تعدو أن تكونَ غيرَ مُعوَّلٍ, عليها عند المحققين من المحدثين، لأنه ما مِن ريبٍ, أن المحققين من المحدثين ممن تأخرَ قد اطَّلَعوا على ما نُقِلَ عن السابقين فسبروا ذلك و حققوه، و أثبتوا ما عليه التعويلُ و الاعتماد. قال الحافظُ ابنُ حجرٍ, - يرحمه الله - [النكت 2/726]: و بهذا التقرير يَبِينُ عِظَمُ كلامِ المتقدمين، و شدة فحصهم، و قوة بحثهم، و صحة نظرِهم، و تقدٌّمهم بما يُوجِبُ المصيرَ إلى تقليدهم في ذلك، و التسليم لهم فيه. ا،هـ. وكلامُ الحافظ _ هذا _ يُفِيدنا فائدتين:

-الأولى: أنه سبَر كلام المتقدمين في المصطلح و أصول الحديث.

-الثانية: أنه اعتمد ما هو محفوظٌ معمولٌ به لدى أهل الفن، فلم يكن التعويل على قولٍ, لم يُوافق عليه قائلُه، أو شذَّ به عن جادة الصواب. فتنَبَّه.

 

2) أن يكون الاعتماد على المُعتَمَدُ من روايةٍ, عن الحافظ، و من نسخةٍ, معتمدة لتلك الرواية المُعتمدة، فعندنا شيئان:

-الأول: روايةٌ معتمدةٌ.

-الثاني: نسخةٌ معتمدةٌ.

فإن الرواياتِ للكتبِ منها ما هو معتمَدٌ و منها ما ليس بذاك، فكان المُعوَّلُ على المُعتمد لازماً، كذلك نُسخُ تلك الروايات شأنها شأن الروايات سواءً.

و في هذا يقول الحافظ العراقي  - يرحمه الله - في ألفيته:

 

و أخـذُ متنٍ, لكتابٍ, لِعـمل....أو احتجاجٍ, حيثُ ساغَ قد جُعِل

عرضاً له على أُصُولٍ, يُشترَط....و قال يحـي النووي: أصلٌ فقط

 

قال السَّخاوي  - يرحمه الله - [فتح المُغيث 1/86_96]: إذ الأصلُ الصحيحُ تحصُلُ به الثقةُ التي مدارُ الاعتماد عليها صحةً أو احتجاجاً. ا،هـ. ثمَّ بعد هذا كلِّه يتضِّحُ لكل ذي عينين عدمُ توفٌّرِ هذه الأشياء في كثيرٍ, ممن تصدَّى لمهمة التصحيح و التضعيف، و الأدهى أن بُنِيَت على أحكامهم أحكامٌ شرعية، و أُظهِرَت أحكامٌ، و غير ذلك من ويلاتٍ, و بلياتٍ,. فلزومُ الجادةِ التي سار عليها أهل التحقيق في الفن أسلمُ من التصدِّي لِماَ ليس للمرءِ فيه طرفٌ صالح، و الحمدُ لله أن الحالَ في سلوكهم سبيلُ استقامةٍ, و فلاحٍ, و ظَفَرٍ,.

 

و الله المُوفِّقُ لا ربَّ سواه، و صلى الله و سلَّم على سيدنا محمد و على آله و صحبه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply