تطور جديد: التفسير الماركسي للسيرة


بسم الله الرحمن الرحيم

 

ثم جاء بعد ذلك تطور جديد في كتابة السيرة العصرية، وهو إخضاعها للتفسير الماركسيِّ على النحو الذي كتبه \"عبد الرحمن الشرقاوي\" تحت اسم (محمد رسول الحرية).

وقد قال الشيخ \"محمد أبو زهرة\" في توصيف هذا العمل: إن الكتاب كان له اتجاه غير ديني في دراسته فهو ما درس محمداً - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- أنه رسول يوحى إليه بل على أنه رجل عظيم له آراء اجتماعية فسّرها الكاتب على ما يريد، وقد تبين أَنَّ الكاتب يقطع النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- عن الوحي فكل ما كان من النَّبيِّ من مبادئ وجهاد في سبيله إنما هي من عنده لا بوحي من الله  - تعالى-.

وهي بمقتضى بشريته لا بمقتضى رسالته والعنوان (إنما أنا بشرٌ مثلكم) يعلن أن ما وصل إليه النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- من مبادئ جاهد من أجلها إنما هو صادر عن بشرية كاملة لا عن نبوة، وقد اقتطع هذه الجملة مما قبلها وما بعدها ونصها الصحيح {قُل إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثلُكُم يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ } (110) سورة الكهف.  وبهذا الاقتطاع ينفي الوحي عن الحياة المحمدية.

كذلك فهو ينفي الخطاب السماوي للرسول - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- , ولا يذكر أنَّ جبريل خاطب النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- في العيان. وتصويره للوحي بأنَّه حلم في النوم يخالف ما أجمع عليه المسلمون من أنَّ جبريل كان يخاطب النَّبيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - بالعيان لا في المنام، الأمر الذي تردد ذكره في القرآن على أنه رسول الله إلى الذين يصطفيهم من الأنبياء ليبلّغ الرسالة الإلهية لأهل الأرض. كذلك فهو يقطع الرسالة عن الرَّسُول, ويقطع الوحي عنه, ويتجه إلى القرآن فيذكر عباراته أحياناً منسوبة إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - على أنها من تفكيره ومن قوله لا أنها قرآن موحى بها وقائله هو الله - سبحانه - ، وأنَّ ذلك مبثوث في الكتاب بكثرة وهو ينسب بعض آي القرآن إلى النَّبيّ، وكذلك ينسب إبطال التبني إلى النَّبيّ، ولا ينسبه إلى الله - تبارك وتعالى-، وكذلك ينسب تحريم الخمر إلى النَّبيّ، كما أنه يذكر قصص القرآن على أنه نتيجة تجارب النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - وما كانت قصص النَّبيّ إلا من القرآن وما كانت له رحلات في بلاد العرب بل إنه لم يخرج من الحجاز إلا مرتين إحداهما في الثانية عشرة والثانية في الخامسة والعشرين. ويرى الكاتب أنَّ القرآن من كلام محمد, ولم يذكر قط على وجه التصريح أنَّ الله - تبارك وتعالى - هو منزل القرآن وباعث محمد بالرسالة بل إنَّ ذِكر الله - تبارك وتعالى- يندر في الكتاب, بل لا تجد له ذكراً قط, ولم يذكر القرآن إلا نادراً, بل لا تكاد تجد له ذكراً قط، وإذا ذكر آية ذكر أنها همهمة نفس النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ - وهو لا يذكر كلمة القرآن على أنه منسوب لله، في مقام يومئ بالتشكيك في صدقه ويوهم بأنَّ به تحريفاً وتبديلاً ومحاولة التقاط من واحد ممن كانوا يشتركون مع العشرات في كتابة الوحي لإثارة هذه الشبهة.

ولقد كان هذا التطور في كتابة السيرة نتيجة للأدوار التي مرت بها على أيدي السابقين.

 

سقوط المدرسة المادية في السيرة:

 قامت هذه المدرسة على إنكار الغيب والمعجزات في آن وإنكار الوحي والنبوة في آن آخر، وحاولت أن تفسر الإسلام وسيرة الرَّسُول - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- تفسيراً مادياً, وجرت في خضوع منكسر وراء العقلية الأوروبية, وتحت لواء ما زعموه من المنهج العلمي الحديث، وكانت هذه المدرسة رد فعل آثاره الانبهار والشعور بالضعف لدى طائفة من المسلمين ترى أن تُتَابع الأوروبيين في فهم الدين والعقيدة.

ولكن سرعان ما تكشفت هذه النزعة وسقطت وجهتها، وبرزت كتابات مدرسة الأصالة التي أنكرت هذا الأسلوب الفلسفي المادي، وأقامت مفاهيمها على الأساس القرآني الأصيل. وظهرت تلك الكتابات الصافية الصحيحة فردت إلى السِّيرة النَّبَويَّة وأعادت تقدير جانب معجزة الوحي الإلهي والغيبيات والمعجزات.

وقد جاءت كتابات مدرسة الأصالة في السِّيرة النَّبَويَّة مصححة لأغلاط كثيرين ممن كتبوا عن السيرة في هذا العصر, وأماطت اللثام عن المغالطات التي كانت ولا تزال تدسها أقلام كثير من المستشرقين والتغريبيين وهي أغلاط ومغالطات قامت لتغذيتها وترويجها مدرسة التبعية.

إنّ هذه المدرسة لم تعد تخدم إلا قلة من بقايا المفتونين باسمها وإنَّ الحقائق الناصعة في حياة النَّبيِّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- ستظل هي المشرقة والسائدة.

وليس أدل على ذلك من هذه المؤتمرات للسيرة التي حشدت عشرات من الأعلام للكشف عن الجوانب المختلفة في حياة هذا النَّبيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ- الكريم الذي هدى البشرية إلى طريقها وأخرجها من الظلمات إلى النور\"(1).

 


1 - راجع مقدمة كتاب سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد للإمام محمد بن يوسف الصالحي الشامي تحقيق وتعليق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمد معوض (1/17-35).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply