هل تطورت العقيدة عبر الزمان ؟ 5 - 10


بسم الله الرحمن الرحيم





يرى كثير من الباحثين الغربيين أن الإنسان لم يعرف العقيدة كما يعرفها اليوم مـــرة واحدة، ولكنها ترقّت وتطوّرت في فترات وقرون متعاقبة.

ولا عجب أن يكون هذا أفق التفكير عند من لم يمنحهم الله كتابه الذي بيّن فيه تاريخ العقيدة بوضــوح لا لبس في.

إلا أن الغريب أن يسلك هذا المذهب رجال يعدون أنفسهم، ويعدّهم غيرهم باحثين مسلمين.

ومن أمثال أولئك عباس محمود العقاد الذي يرى في كتابه (الله) وهو كتاب يبحث في نشأت العقيدة الإلهيّة أن الإنسان ترقّى في العقائد، ويرى أن ترقِّي الإنسان في العقائد موافق تماماً لترقّيه في العلوم.

ويقول: \"كانت عقائد الإنسان الأولى مساوية لحياته الأولى، وكذلك كانت علومه وصناعاتهº فليست أوائل العلم والضاعة بأرقى من أوائل الأديان والعبادات، وليست عناصر الحقيقة في واحدة منها بأوفر من عناصر الحقيقة في الأخرى\".

بل يرى أن تطوّر العقيدة لدى الإنسان كان أشقّ من تطوّر العلوم والصناعات ويقول:

\"وينبغي أن تكون محاولات الإنسان في سبيل الدين أشق وأطول من محاولاته في سبيل العلوم والصناعاتº لأن حقيقة الكون الكبرى أشق مطلباً وأطول طريقاً من حقيقة هذه الأشياء المتفرقة التي يعالجها العلم تارة والصناعة تارة أخرى، ويرى أن الحقيقة الإلهيّة لم تتجلّ للناس مرة واحدة.

يقول: \" فالرجوع إلى أصول الأديان في عصور الجاهلية الأولى لا يدل على بطلان تديّن، ولا على أنها تبحث عن محال، كلّ ما يدل عليه أن الحقيقة الكبرى أكبر من أن تتجلى للناس كاملة في عصر واحد.

ثم أخذ يستعرض آراء الباحثين في تأريخ العقيدة، فمنهم من يرى السبب في نشأة العقيدة هو ضعف الإنسان بين مظاهر الكون وأعدائه من قوى الطبيعة والأحياء. وبعضهم يرى أن العقيدة الدينيّة عبادة (الطوطم)، كأن تتخذ بعض القبائل حيواناً (طوطمياً)، تزعمه أباً لها، وقد يكون شجراً أو حجراً يقدّسونه. إلى آخر تلك الفروض التي قامت في أذهان الباحثين الغربيين.

ومع الأسف فقد سرت هذه النظريّة إلى بعض الكتاب، مثل مصطفى محمود في كتاب (الله)، واعتنقها عدد من الدارسين، والذي أوقع هؤلاء في هذا الخطأ عدة أمور:

الأول: أنهم ظنوا أن الإنسان اهتدى إلى العقيدة بدون معلم يعلمه ومرشد يوضح لهº فما دام الأمر كذلك فلا بد أن يترقّى في معرفته بالله كما ترقّى في العلوم والصناعات.

ثانياً: أنهم قدّروا أن الإنسان الأول خُلق خلقاً ناقصاً غير مؤهل لأن يتلقى الحقائق العظمى كاملة. بل إن تصوّراتهم عن الإنسان الأول تجعله أقرب إلى الحيوان منه إلى الإنسان.

ثالثاً: أنهم عندما بحثوا في الأديان ليتبيّنوا تاريخها لم يجدوا أمامهم إلا تلك الأديان المحرّفة أو الضالّة فجعلوها ميدان بحثهم، فأخضعوها للدراسة والتمحيص، وأنّى لهم أن يعرفوا الحقيقة من تلك الأديان التي تمثّل انحراف الإنسان في فهم العقيدة (3).



القرآن وحده يوضّح تاريخ العقيدة:

ليس هناك كتاب في الأرض يوضّح تاريخ العقيدة بصدق إلا كتاب الله - سبحانه وتعالى -- ففيه علم غزير في هذا الموضوع، وعلم البشر لا يمكن أن يدرك هذا الجانب إدراكاً وافياً لأسباب:

الأول: أن ما نعرفه عن التاريخ الإنساني قبل خمسة آلاف عام قليل، أما ما نعرفه قبل عشرة آلاف عام فهو أقل من القليل، وما قبل ذلك يعتبر مجاهيل لا يدري علم التاريخ من شأنها شيئاً. لذا فإن كثيراً من الحقيقة ضاع بضياع التاريخ الإنساني.

الثاني: أن الحقائق التي ورثها الإنسان اختلطت بباطل كثير، بل قد ضاعت في أمواج متلاطمة في محيطات واسعة من الزيف والدجل والتحريف. ومما يدل على ذلك أن كتابة تاريخ حقيقي لشخصيّة أو جماعة ما في العصر الحديث تُعدّ من أشق الأمور، فكيف بتاريخ يمتدّ إلى فجر البشريّة؟

الثالث: أن قسماً من التاريخ المتلبس بالعقيدة لم يقع في الأرض، بل في السماء(4).

لذا كان الذي يستطيع أن يمدّنا بتاريخ حقيقي لا لبس فيه هو الله - سبحانه وتعالى - (إِنَّ اللَّهَ لا يَخفَى عَلَيهِ شَيءٌ فِي الأَرضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (5)



تاريخ العقيدة كما يرويه القرآن الكريم:

أعلمنا الله - سبحانه - أنه خلق آدم خلقاً مستقلاً سوياً متكاملاً، ثم نفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، وأباح له أن يأكل هو وزوجه منها كيف يشاء إلا شجرة واحدة، فأغراه عدوّه إبليس بالأكل منهاº فأطاع عدوه، وعصى ربه، فأهبطه الله من الجنة إلى الأرض، وقبل الهبوط وعده الله - سبحانه - بأن يُنزل عليه وعلى ذريته هداهº كي يُعرّف الإنسان بربه ومنهجه وتشريعه، ووعد المستجيبين له بالهداية في الدنيا، والسعادة في الأخرى، وتوعّد الله المستكبرين بالمعيشة الضنك في الدنيا وبالشقاء في الآخرة: (قُلنَا اهبِطُوا مِنهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصحَابُ النَّارِ هُم فِيهَا خَالِدُونَ) (6).

وفي سورة طه يقول: (قَالَ اهبِطَا مِنهَا جَمِيعاً بَعضُكُم لِبَعضٍ, عَدُوُّ فَإِمَّا يَأتِيَنَّكُم مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلٌّ وَلا يَشقَى وَمَن أَعرَضَ عَن ذِكرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحشُرُهُ يَومَ القِيَامَةِ أَعمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرتَنِي أَعمَى وَقَد كُنتُ بَصِيراً قَالَ كَذَلِكَ أَتَتكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ اليَومَ تُنسَى) (7)



الجيل الأول كان على التوحيد

هبط آدم إلى الأرض، وأنشأ الله من ذريته أمة كانت على التوحيد الخالص كما قال الله - تعالى -: (كان الناس أمة واحدة) أي على التوحيد والدين الحق، فاختلفوا (...فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِيَحكُمَ بَينَ النَّاسِ فِيمَا اختَلَفُوا فِيهِ... ) (8)

وفي حديث أبي إمامة أن رجلاً سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟ قال: (نعم، مكلم) قال: فكم بينه وبين نوح؟ قال: (عشرة قرون) وذكر ابن عباس - رضي الله عنه -: إنه (كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام) (9) ومقدار القرن مائة سنة وعلى ذلك يكون آدم ونوح ألف سنة، وقد تكون المدة أكثر من ذلك إذ قيّد ابن عباس هذه القرون العشرة بأنها كانت على الإسلام، فلا ينفي أن يكون بينها قرون أخرى على غير الإسلام وقد يكون المراد بالقرن الجيل من الناس قال - تعالى -: (وَكَم أَهلَكنَا مِنَ القُرُونِ مِن بَعدِ نُوحٍ,... )(10) وقوله: (ثُمَّ أَنشَأنَا مِن بَعدِهِم قَرناً آخَرِينَ)(11)



=============

الهوامش:

1- العقيدة في الله ص (243) نقل عن كتاب (الله) للعقاد

2- نفس المرجع السابق ص(244).

3- العقيدة في الله ص (245، 244)

4- العقيدة في الله ص (245)

5- سورة آل عمران الآية (5)

6- سورة البقرة الآية (39، 38)

7- سورة طه آية (126، 123)

8- سورة البقرة (213)

9- تفسير الطبري (ج2/336، 335)

10- سورة الإسراء آية (17)

11- سورة المؤمنون آية (3)

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply