الوسطية .. وآثار صفة الله في القلوب ( 9 - 10 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 





لكل صفة من صفات الله أثر في قلب المؤمن، وقد يظن الذين يدّعون العلم، وممن لاحظّ لهم من علوم الشريعة، أن معرفه أسماء الله وصفاته لا تؤثر في الإيمان بالله من حيث الزيادة والنقصان ولا تؤثر في القلوب، ولذلك لا فائدة من معرفتها أو جهلها أو إثباتها أو إنكارها، وقد توسع في هذا الجانب الفلاسفة الذين وصفوا الله - تعالى -بصفات من عند أنفسهم، وأنكروا وجحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسولهº فانحرفوا عن منهج الوسطيّة، ووقعوا في الإفراط والتفريط، وابتعدوا عن الصراط المستقيم ومنهج الاعتدال الذي يبيّنه القرآن.

ومما لا ريب فيه أنه ليست هناك صفة لله في القرآن أو في السنة إلا وقد ساقها الله - تعالى - لحكمة ومنفعة وغاية، ولولا ذلك لما ساقها، ولما ذكرهاº لإن كلامه وكلام رسوله ينزه عن العبث واللغو والحشو، ومن ظن أن الله يحشو كلامه بما لا فائدة في ذكره، أو لا غاية من ورائه، أو لا أهمية له فقد اتهم الله بالنقص واللغو.

ولبيان أن لكل صفة من صفات الله أثراً في قلب المؤمن سنبين ذلك ببعض التفاصيل من حيث إن لكل صفة في القلب أثراً يتضح ذلك ويخرج في السلوك البشري، فلا توجد صفة من صفات الله إلا ولها أثر وفائدة، وإنما الذي ينكر الأثر هم الجهلة والجاحدون، أما علماء أهل السنة والجماعة فبينوا ذلك الأمر بياناً أوضح من الشمس في رابعة النهار.



أثر صفة العظمة:

وهذه الصفة مشتقة من اسمه - تعالى -العظيم، والعظمة صفة من صفاته لا يقوم لها خلق، والمقصود أن عظمة الله - سبحانه وتعالى - لا يمكن أن يتصف بها أحد من خلقه، والله خلق بين الخلق عظمة يعظّم بها بعضهم بعضاً، فمن الناس من يعظم المال، ومنهم من يعظّم الفضل، ومنهم من يعظّم العلم، ومنهم من يعظم السلطان، ومنهم من يعظم الجاه، وكل واحد من الخلق إنما يعظم لمعنى دون معنى، والله - عز وجل - يعظم في الأحوال كلها، فينبغي لمن عرف حق عظمته - سبحانه - ألاّ يتكلم بكلمة يكرهها الله، ولا يرتكب معصية لا يرضاها الله (1).

فإذا شعر العبد بعظمة الله خاف مولاه واتقاه ورغب في مرضاته - سبحانه وتعالى -، والحديث الدال على صفة العظمة قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"يقول - تبارك وتعالى -: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما قذفته في النار\" (2).



أثر صفة يد الله:

ومن الصفات التي جحدتها قلوب النفاة و أنكرها الزنادقة قديماً، وصف الله نفسه - سبحانه - بأن له يدين، وهذا ما قد مدح الله به نفسه في آيات كثيرة من كتابه، وقد مدحه بها النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة، وهي تدخل في صفات الله الذاتية، وقد بيّن - سبحانه - في الآيات والأحاديث عظمة كفاءة وسعة فضله، وأن يده الكريمة - جل وعلا - دائمة العطاء والإنفاق، وفي مجال قوته وجبروته وبطشه وكمال قدرته وبيان عظمته أن السموات والأرض يوم القيامة تكون بيمينه (وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه - سبحانه وتعالى - عما يشركون) (3)

ولا شك أن آثار الإيمان بهذه الصفة في قلب المؤمن عظيمة، لأنها تورث القلب المهابة لله، والخوف منه وتعظيم أمره، وشأنه، وأنه الملك الذي قهر الملوك، وأنه لا مفر من قبضته، ولا ملجأ منه إلا إليه.



أثر اسم الله الحميد:

هذا الاسم يتضمن لصفة الحمد بكل أنواعه، فهي صفة ذاتية لله - عز وجل - لا تنفك عنه، وتظهر آثارها باستمرار في كل لحظة، ومعناها أنه - سبحانه - مستحق لكل أنواع الحمدº لأنه المحمود في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، وليس ذلك لأحد سواه - سبحانه -، كما يبدو لي أن العبد لابد أن يسلك في حياته سلوكاً يُحمد عليهº لأن أعماله جميعاً يجب أن تكون خاصة للحميد، ولو أن كل فرد تحرّى أن يكون عمله حميداً لصلح أمر الناس في الدنيا والآخرة، ولاختفت المنازعات فيما بينهم والخصومات و لعاشوا جميعاً أخوة في الله متحابين (4).



أثر اسم الله المهيمن

ومن آثار هيمنته - سبحانه - أنه يملك أن يتصرف في خلقه كيف يشاءº لأنهم ملكه، والمالك من حقه أن يتصرف في ملكه بكافه أنواع التصرف، من نماذج هذه التصرفات ما ذكره الله تنبيهاً وتذكيراً باستمرار وشمول هيمنته على خلقه - سبحانه وتعالى - (5).

قال - تعالى - (قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعاً وخفية لئن أنجانا من هذه لتكونن من الشاكرين قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف الآيات لعلهم يفقهون) (6)

وإذا شعر القلب بهيمنة ربه عليه لجأ إليه وطلب العون منه لدفع ضر أو جلب نفع، والآيات في هذا الباب كثيرة، وكذلك أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.



أثر صفه العلو في قلب العبد

إذا أيقن العبد أن الله - تعالى - فوق السماء، عالٍ, على عرشه بلا حصر، ولا كيفية، وأنه الآن في صفاته كما كان في قدمه، كان لقلبه في صلاته وتوجهه، ودعائه ومن لا يعرف ربه بأنه فوق السماء على عرشه، فإنه يبقى ضائعاً لا يعرف وجهة معبوده، ولكن ربما عرفه بسمعه، وبصره، وقدمه وتلك بلا هذا معرفة ناقصة، بخلاف من عرف أن إلهه الذي يعبده فوق الأشياء، فإذا دخل الصلاة وكبّر وتوجّه قلبه إلى جهة العرش منزهاً له - تعالى -، مفرداً له كما أفرد في قدمه وأزليته، ويعتقد أنه في علوه قريب من خلقه، وهو معهم بعلمه وسمعه وبصره وإحاطته وقدرته ومشيئته، ذاته فوق الأشياء، فوق العرش، ومتى شعر قلبه بذلك في الصلاة أشرق قلبه، واستنار، وأضاء بأنوار المعرفة والإيمان، وعكفت أشعة العظمة على قلبه وروحه، ونفسه، فانشرح لذلك صدره، وقوي إيمانه، ونزّه ربه عن صفات خلقه، من الحصر والحلول، وذاق حينئذ شيئاً من أذواق السابقين المقربين (7).



أثر صفه السمع:

قال - تعالى -: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (8)

وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: (الحمد لله الذي وسِع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلمه وأنا في ناحية البيت، ما أسمع ما تقول، فأنزل الله - عز وجل - (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها..... ) (9)

أقول: لو أن دارس الأسماء والصفات ومدرسيها تأملوا ماد لت عليه هذه الصفات، وأشعر المرء نفسه أنه مراقب في جميع أحواله، وأن ما ينطق به لسانه يسمعه خالقه من فوق سبع سماوات في حينه، وأنه سيجازيه على ذلك لانعكس على سلوكه وأخلاقه وأعماله وسيرته في مجتمعه، و لظهرت الأخلاق الربانية وأصبح الشخص لله ولياً، يمشى على وجه الأرض، ولشعرنا أن الأخلاق الرفيعة ثمرة من ثمرات التوحيد، وبقدر ما يملك العبد من الإيمان والتوحيد ينعكس ذلك ويظهر على أخلاقه.

ولابد أن نراعي قواعد السلف عند تأملنا وتفكرنا في أسماء الله وصفاته التي تزيدنا إيماناً بالله العلي العظيم، ويعجبني في هذا المقام أن أكتب ما كان يقوله ويكرره شيخي الفاضل الحق عبد المحسن العباد في دروسه بالمدينة المنورة (المذهب الحق وسط بين الطرفين في قضية الإثبات، فلا نفي ولا تأويل، وفيه التنزيه فلا تشبيه ولا تمثيل، وكل من المتشبهة والنفاة جمعوا بين إساءة وإحسان، فالمشبهة: أحسنوا إذ اثبتوا فلم ينفوا الصفات، وأساؤوا إذ شبهوا ومثّلوا، وأهل السنة والجماعة جمعوا بين الحسنتين وسلموا من الإساءتين، فإحسان الذي عند الطرفين عندهم، وليس عندهم ما عند كل من الإساءة، وذلك أنهم أثبتوا ما أُثبت في الكتاب والسنة من الصفات، ونزّهوا الله عن مشابهة خلقه، كما قال - تعالى -: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (10)فأول الآية تنزيه، وآخرها إثباتº فمثل هذا المذهب الحق بالنسبة إلى الطرفين المتقابلين كاللبن السائغ للشاربين الذي يخرج من بين فرث ودم (11).

ثانياً: تدبر القرآن على وجه العموم، فإن المتدبر لا يزال يستفيد من علوم القرآن ومعارفه، ما يزداد به إيماناً، كما قال - تعالى -: (... وإذا تُليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، وعلى ربهم يتوكلون) (12).

وكذلك: إذا نظرنا إلى انتظامه، وأحكامه، وأنه يصدق بعضه بعضاً، ويوافق بعضه بعضاً، ليس فيه تناقض ولا اختلاف: - تيقن أنه (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد))(13). وأنه لو كان من عند غير الله، لوجد فيه من التناقض والاختلاف أموراً كثيرة. قال - تعالى -: (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)(14).

وهذه من أعظم مقوّيات الإيمان، ويقويه من وجوه كثيرة: فالمؤمن بمجرد تلاوته آيات الله، ومعرفة ما ركب عليه من الأخبار الصادقة، والأحكام الحسنة يحصل له من أمور الإيمان، خير كبير، فكيف إذا أحسن تأمله، وفهم مقاصده وأسراره، لذلك كان المؤمنون الكمَل يقولون:

(ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا) (15)

ثالثاً: معرفة أحاديث النبي - صلى الله عليه وسلم - وما تدعوا إليه من علوم الإيمان وأعماله كلها من محصلات الإيمان ومقوّماته فكلّما ازداد العبد معرفة بكتاب الله وسنة رسوله، ازداد إيمانه ويقينه، وقد يصل في علمه وإيمانه إلى مرتبة اليقين، فقد وصف الله الراسخين في العلم الذين حصل لهم العلم التام القوي الذي يدفع الشبهات والريب، ويوجب اليقين التام، ولهذا كانوا سادة المؤمنين: الذين استشهد الله بهم، واحتج بهم على غيرهم من المرتابين (16).

والجاحدين، كما قال - تعالى -: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ، فيتّبعون ما تشابه منه: ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، وما يعلم تأويله إلا الله، والراسخون في العلم يقولون: آمنا به كل من عند ربنا، وما يذكر إلا أولو الألباب) (17)

فالراسخون زال عنهم الجهل والريب وأنواع الشبهات، ورضوا بالجميع، فكلها من عند الله، وما منه، وما تكلم به وحكم به- كله صدق وحق.

وقال - تعالى -: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائماً بالقسط، لا إله إلا هو العزيز الحكيم) (18).

ولعلمهم بالقرآن العلم التام، وإيمانهم الصحيح استشهد بهم في الدنيا والآخرة، كما قال - تعالى -:

(وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون) (19).

وأخبر - تعالى -في عدة آيات، أن القرآن آيات للمؤمنين، وآيات للموقنين لأنه يحصل لهم بتلاوته وتدبره من العلم واليقين والإيمان بحسب ما فتح الله عليهم منه، فلا يزالون يزدادون علماً وإيمانا ويقيناً (20).

رابعاً: ومن طرق موجبات الإيمان وأسبابه معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعرفة ما هو عليه من الأخلاق العالية، والأوصاف الكاملة.

فإن من عرفه حق المعرفة لم يرتب في صدقه وصدق ما جاء به: من الكتاب والسنة، والدين الحق، كما قال - تعالى -: (أم لم يعرفوا رسولهم؟ فهم له منكرون) (21).

فمعرفته - صلى الله عليه وسلم - توجب للعبد المبادرة إلى الإيمان ممن لم يؤمن، وزيادة الإيمان ممن آمن به.

وقال - تعالى -: حاثاً لهم على تدير أحوال الرسول الداعية للإيمان: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) (22).

وأقسم - تعالى -بكمال هذا الرسول، وعظمة أخلاقه، وأنه أكمل مخلوق بقوله: (ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون، وإن لك لأجرا غير ممنون، وإنك لعلى خلق عظيم)(23).

فهو- صلى الله عليه وسلم - أكبر داعٍ, للإيمان في أوصافه الحميدة، وشمائله الجميلة، وأقواله الصادقة النافعة، وأفعاله الرشيدةº فهو الإمام الأعظم، والقدوة الأكمل(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) (24).

وقد ذكر الله عن أولي الألباب الذين هم خواص الخلق أنهم قالوا: (ربنا إننا سمعنا منادياً) وهو: هذا الرسول الكريم (ينادي للإيمان). بقوله وخلقه وعمله ودينه، وجميع أحواله، (أن آمنوا بربكم فآمنا) أي: إيماناً لا يدخله ريب.

ولما كان هذا الإيمان من أعظم ما يقرب العبد إلى الله، ومن أعظم الوسائل التي يحبها الله توسّلوا بأيمانهم أن يكفر عنهم السيئات وينيلهم المطالب العاليات.

فقالوا: (ربنا، إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا، وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار)(25).

ولهذا كان الرجل المنصف الذي ليس له إرادة إلا اتباع الحق مجرد ما يراه ويسمع كلامه يبادر إلى الإيمان به - صلى الله عليه وسلم - ولا يرتاب في رسالته بل كثير منهم مجرد ما يرى وجهه الكريم يعرف أنه ليس بوجه كذاب وقيل لبعضهم: \"لم بادرت إلى الإيمان بمحمد قبل أن تعرف رسالته؟ \" (26) فقال: (ما آمر بشيء، فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته آمر به) ((27) فاستدل هذا العاقل الموفق بحسن شريعته و موافقتها للعقول الصحيحة على رسالته، فبادر إلى الإيمان (به) (28) ولهذا استدل ملك الروم هرقل لما وُصف له ما جاء به الرسول، وما كان يأمر به، وما ينهى عنه استدل بذلك: أنه من أعظم الرسل، واعترف بذلك اعترافاً جلياً ولكن منعته الرئاسة وخشية زوال ملكه من اتباعه، كما منعت كثيراً ممن أتضح لهم أنه رسول الله حقاً. وهذا من أكبر موانع الإيمان في حق أمثال هؤلاء، وأما أهل البصائر والعقول الصحيحة، فإنهم يرون هذه الموانع والرئاسات والشبهات والشهوات، ولا يرون لها قيمة: حتى يعارض بها الحق الصحيح النافع، المثمر للسعادة عاجلاً وآجلاً.

ولهذا السبب الأعظم، كان المعتنون بالقرآن حفظاً ومعرفة، والمعتنون بالأحاديث الصحيحة أعظم إيماناً ويقيناً من غيرهم، وأحسن عملاً في الغالب (29)29.

خامساً: ومن أسباب الإيمان و دواعيه التي بينها القرآن: التفكر في الكون، في خلق السموات والأرض وما فيهن: من المخلوقات المتنوعة، والنظر في نفس الإنسان، وما هو عليه من الصفات المتنوعة.

قال - تعالى -: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) (30)

وقال - تعالى -: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) (31)

فان التأمل والتفكر في الكون والنفس وآيات الله المنظورة داعٍ, قوي للإيمان، لما في هذه الموجودات من عظمة الخلق الدال على قدرة خالقها وعظمته، وما فيها من الحسن والانتظام، والإحكام الذي يحيّر الألباب، الدال على سعة علم الله، وشمول حكمته، وما فيها من أصناف المنافع والنعم الكثيرة التي لا تُعدّ ولا تُحصى، الدالة على سعة - رحمه الله -، وجوده وبره. وذلك كله يدعو إلى تعظيم مبدعها وبارئها وشكره، واللهج بذكره، وإخلاص الدين له، وهذا هو روح الإيمان وسره (32).

وإذا تأملنا في مخلوقات الله كلها نجدها مضطرة و محتاجة إلى ربها من كل الوجوه، وأنها لا تستغني عنه طرفة عين، خصوصاً ما تشاهده في نفسك: من أدلة الافتقار وقوة الاضطرار، وذلك يوجب للعبد كمال الخضوع، وكثرة الدعاء والتضرع إلى الله: في جلب ما يحتاجه من منافع دينه ودنياه، ودفع ما يضره في الثقة بوعده، وشدة الطمع في بره وإحسانه، وبهذا يتحقق الإيمان، ويقوى التعبد، فإن الدعاء مخ العبادة وخالقها.

قال - تعالى -: (يأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)(33)

وكذلك التفكر في كثرة نعم الله وآلائه العامة والخاصة، التي لا يخلو منها مخلوق طرفة عين. فإن هذا يدعو إلى الإيمان.

ولهذا دعا الله الرسل والمؤمنين إلى شكره، فقال: (يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون) (34).

فالإيمان يدعو إلى الشكر، والشكر ينمو به الإيمان فكل منهما ملازم وملزوم للآخر.

سادساً: ومن أسباب دواعي الإيمان التي بينها (القرآن) الإكثار من ذكر الله في كل وقت، و الإكثار من الدعاء الذي هو مخ العبادة.

فإن الذكر لله يغرس شجرة الإيمان في القلب، ويغذيها وينميها وكلما ازداد العبد ذكراً لله: قوي لإيمانه، كما أن الإيمان يدعو إلى كثرة الذكر. فمن أحب الله أكثر من ذكره، ومحبة الله هي: الإيمان، بل هي روحه (35) قال - تعالى - (يأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً وسبحوه بكرة وأصيلاً) (36) (لقد كان لكم في رسول الله أسوه حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً) (37)). سابعاً: من الأسباب الجالبة للإيمان التي بيّنها القرآن السعي والاجتهاد في تحقيق مقام الإحسان في عبادة الله والإحسان إلى خلقه: قال - تعالى -: (ومن يسلم وجه إلى الله وهو محسن... ) (38) قال - تعالى -: (... وقولوا للناس حُسناً... ) (39).

فعلى العبد: أن يعبد الله كأنه يشاهده، فإن لم يقو على هذا استحضر أن الله يشاهده ويراه، فيجتهد في إكمال العمل وإتقانه. ولا يزال العبد يجاهد نفسه ليلتحق بهذا المقام العالي، حتى يقوى إيمانه ويقينه ويصل في ذلك إلى حق اليقين وطريق المحسنين الذين جاء في القرآن في بيان صفاتهم في قوله - تعالى -: (إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم) (40).

وقال - تعالى -: (الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين) (41).

وبذلك يتضح لنا صفات المحسنين، ويكون الإحسان إلى الخلق- بالقول والفعل والمال والجاه وأنواع المنافع هو من الإيمان، ومن دواعي زيادته، والجزاء من جنس العمل، فكما أحسن إلى عباد الله، وأواصل إليهم من بره ما يقدر عليه أحسن الله إليه أنواعاً من الإحسان، ومن أفضلها: أن يقوى إيمانه ورغبته في فعل الخير، والتقرب إلى ربه، وإخلاص العمل له (42)

ثامناً: ومن الأمور التي تقوّي الإيمان وتزيده ما ذكره الله - تعالى -في سورة المؤمنون من قوله: (قد افلح المؤمنون) إلى قوله: (أولئك هم الوارثون) (43)).

فهذه الصفات الثمان، كل واحدة منها تثمر الإيمان وتنميه، كما أنها من صفات الإيمان وداخلة في تفسيره كما تقدم.

فحضور القلب في الصلاة، وكون المصلى يجاهد نفسه على استحضارها بقوله وفعله: من القراءة والذكر والدعاء فيها، ومن القيام والقعود، والرجوع والسجود من أسباب زيادة الإيمان ونموه.

وقد سمّى الله - تعالى -الصلاة إيماناً، بقوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) (44) (وأقم الصلاة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر... ) (45)

فحشاء ومنكر ينافى الإيمان، كما أنها تحتوي على ذكر الله الذي يغذى الإيمان وينميه، لقوله: (ولذكر الله أكبر) (46)والزكاة كذلك تنمي الإيمان وتزيده، وهى فرضها ونفلها وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - كونها برهان على إيمان صاحبها فهي تغذي الإيمان وتنميه.

والإعراض عن اللغو الذي هو كل كلام لا خير فيه، وكل فعل لا خير فيه بل يقولون الخير ويفعلونه، ويتركون الشر قولاً وفعلاً لاشك أنه من الإيمان ويزداد به الإيمان، ويثمرº ولهذا كان الصحابة -رضي الله عنهم- ومن بعدهم، إذا وجدوا غفلة أو تشعث إيمانهم، يقول بعضهم لبعض (اجلس بنا نؤمن ساعة): فيذكرون الله، ويذكرون نعمه الدينية والدنيوية، فيتجدد بذلك إيمانهم، وكذلك العفة عن الفواحش خصوصاً فاحشة الزنا، لا ريب أن هذا من أكبر علامات الإيمان ومنمّياته،فالمؤمن لخوفه و مقامه بين يدي ربه، (ونهى النفس عن الهوى) (47) إجابة لداعي الإيمان، وتغذية لما معه من الإيمان.

ورعاية العهود والأمانات وحفظها: من علائم الإيمان وإذا أردت أن تعرف إيمان العبد ودينه، فانظر حاله: هل يرعى الأمانات كلها، مالية أو قولية أو أمانات الحقوق؟ وهل يرعى الحقوق والعهود والعقود التي بينه وبين الله، والتي بينه وبين العباد؟ فإن كان ذلك: فهو صاحب دين وإيمان. وإن لم يكن كذلك نقص من دينه وإيمانه. بمقدار ما انتقص من ذلك. وختمها بالمحافظة على الصلوات على حدودها، وحقوقها، وأوقاتها لأن المحافظة على ذلك بمنزلة الماء الذي يجري على بستان الإيمان فيسقيه وينميه ويؤتى أكله كل حين.

تاسعاً: ومن دواعي زيادة الإيمان وأسبابه الدعوة إلى الله وإلى دينه، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، والدعوة إلى أصل الدين، والدعوة إلى التزام شرائعه بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.

وبذلك يكمل العبد بنفسه، ويكمِل غيره كما أقسم - تعالى -بالعصر: إن جنس الإنسان لفي خسر، إلا من اتصف بصفات أربع: الإيمان والعمل الصالح الذين لهم تكميل النفس والتواصي بالحق الذي هو العلم النافع والعمل الصالح والدين الحق، وبالصبر على ذلك كله، يكمل غيره.

وذلك: إن نفس الدعوة إلى الله والنصيحة لعباده، من أكبر مقومات الإيمان وصاحب الدعوة لابد أن يسعى بنصر هذه الدعوة ويقيم الأدلة والبراهين على تحقيقها، ويأتي الأمور من أبوابها، ويتوصل إلى الأمور من طرقها، وهذه الأمور من طرق الإيمان وأبوابه (48) قال - تعالى -: (ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم) (49) ومن حرص على نصح الناس ودعوتهم إلى دين الله لابد أن يجازيه الله ويؤيده لنور منه، وروح وقوة وإيمان، وقوة توكل، فإن الإيمان وقوة التوكل على الله، يحصل بها النصر على الأعداء: من شياطين الإنس وشياطين الجن (50) قال - تعالى -: (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون) (51).

والمتصدي لنصرة الحق، فلا بد أن يُفتح عليه فيه: من الفتوحات العلمية والإيمانية بمقدار صدقه وإخلاصه.

العاشر: ومن أهم مواد الإيمان ومقوياته: توطين النفس على مقاومته ما ينافي الإيمان: من شعب الكفر والنفاق، والفسوق والعصيان.

فقد ذكر الله - سبحانه وتعالى - في كتابه الأسباب المقوية المنمية للإيمان وأوضحها رسول الله، كذلك بيان المولى - عز وجل - الموانع والعوائق وإرشاده إلى دفعها، وهي: الإقلاع عن المعاصي، والتوبة مما يقع منها، وحفظ الجوارح كلها عن المحرمات، ومقاومة فتن الشبهات القادحة في علوم الإيمان، المضعفة له، والشهوات المضعفة لإرادات الإيمان. فإن الإرادات التي أصلها: الرغبة في الخير ومحبته والسعي فيه، - لا تتم إلا بترك إرادات ما ينافيها: من رغبة النفس في الشر، ومقاومة النفس الأمارة بالسوء.

فمتى حُفظ العبد من الوقوع في فتن الشبهات، وفتن الشهوات- تم إيمانه، وقوى يقينه (52).

فالعبد المؤمن الموفق لا يزال يسعى في أمرين:

أحدهما: تحقيق أصول الإيمان وفروعه والتخلق بها علماً وعملاً وحالاً.

والثاني: السعي في دفع ما ينافيها وينقصها أو ينقضها: من الفتن الظاهرة والباطنة، ويداوي ما قصر فيه من الأول، وما تجرّأ عليه من الثاني: بالتوبة النصوح، وتدارك الأمر قبل وفاته (53).

قال - تعالى -: (إن الذين اتّقوا إذا مسهم طائف من الشيطان، تذكّروا فإذا هم مبصرون) (54).

أي: يبصرون الخلل الذي وقعوا فيه، والنقص الذي أصابهم من طائف الشيطان، والذي هو أعدى الأعداء للإنسان، فإذا أبصروا تداركوا هذا الخلل بسده، وهذا الفتق برتقه، فعادوا إلى حالهم الكاملة، وعاد عدوهم حسيراً ذليلاً، وإخوان الشياطين (... يمدونهم في الغي ثم لا يُقصرون) الشياطين لا تقصر عن إغوائهم وإيقاعهم في أشراك الهلاك، والمستجيبون لهم لا يقصرون عن طاعة أعدائهم، والاستجابة لدعوتهم حتى يقعوا في الهلاك، ويحق عليهم الخسارة، وبعد هذا العرض الموجز لمفهوم الإيمان تبين أن ما جاء به القرآن وضحه سيد الأنام - صلى الله عليه وسلم - هو الصراط المستقيم والاستقامة والاعتدال بعيداً عمّا وقع فيه الملاحدة من الزور والبهتان، ووقع فيه الفلاسفة من تصوّرات خاطئة مريضة في أسماء الله وصفاته وأفعاله وذاته.

لقد وقع الناس بين إفراط وتفريط وانكسار وغلو فأكرم الله البشرية بهذا الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفهº ففي جانب الإيمان بالله - تعالى - جاء القرآن بالمنهج الوسط الذي تجسّدت فيه ملامح الوسطية من حكمة واستقامة واعتدال وعدل وبينية.

وقبل الانتهاء من مبحث الإيمان وأسباب زيادته رأيت من باب الفائدة والحث على استيعاب وفهم هذا الموضوع المهم في حياة الناس أن أتطرق إلى فوائد الإيمان وثمراته كما جاء في القرآن.

موضحاً الآثار والفوائد والثمرات العاجلة والآجلة في القلب والبدن والراحة والحياة الطيبة في الدنيا والآخرة، وذكر القرآن الكريم لهذه الفوائد والثمار يرسم لنا الصورة اليانعة الحية في وسطية القرآن في قضيه الإيمان.



----------------------------------------

1- أخرجه ابن ماجه، كتاب الزهد، باب البراءة من الكبر (ج2 / 1397)

2- رقم (4175) وصححه الألباني.

3- سورة الزمر آية 67.

a. انظر: مفهوم الأسماء والصفات مقال مجلة الجامعة الإسلامية ص (70).

b. انظر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة العدد (59) سعد ندا.

c. سورة الأنعام آية 63، 64، 65.

4- انظر: النصيحة في صفه الرب - جل وعلا - للواسطي ص 50.

5- سورة المجادلة آية 1.

6- البخاري مع الفتح، كتاب التوحيد، باب وكان الله سميعاً بصيراً (ح13/ 384).

7- سورة الشورى الآية رقم 11.

8- عشرون حديثاً من صحيح مسلم لعبد المحسن العباد (177- 178).

9- سورة الأنفال آية 2.

10- سورة فصلت آية 42.

11- سورة النساء آية 82.

12- سورة آل عمران الآية 193.

13- انظر: التوضيح والبيان ص (43).

14- سورة آل عمرا آية 7.

15- سورة آل عمران آية 18.

16- سورة الروم آية 56.

17- انظر: التوضيح والبيان ص (42، 43) .

18- سورة الذريات: 69.

19- سورة سبأ: 46.

20- سورة القلم: 1-4.

21- سورة الحشر: 7.

22- سورة آل عمران: 193.

23- سورة آل عمران آية: 193.

24- التوضيح والبيان ص (49) .

25- التوضيح والبيان ص (49) .

26- التوضيح والبيان لشجرة الإيمان ص (49)

27- شجرة الإيمان للسعدي ص (49)

28- سورة آل عمران آية

29- سورة الذاريات آية

30- التوضيح والبيان ص (50)

31- التوضيح والبيان ص (50)

32- سورة فاطر

33- التوضيح والبيان (51)

34- سوره الأحزاب

35- سوره الأحزاب

36- سوره لقمان ايه

37- سوره البقرة آية

38- سورة الذاريات

39- سورة آل عمران

40- التوضيح والبيان ص 54

41- سوره المؤمنون آية (1-11)

42- التوضيح والبيان ص 54

43- سورة البقرة الآية 143

44- سورة العنكبوت الآية، 45

45- سورة العنكبوت الآية، 45

46- سورة النازعات،...

47- التوضيح والبيان ص (58)

48- سورة فصلت

49- التوضيح والبيان ص (58)

50- سورة النحل آية (99)

51- التوضيح والبيان ص (61)

52- التوضيح والبيان ص (61)

53- سورة الأعراف آية 201

54- من سورة الأعراف: آية 202

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply