بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيِّد الأنبياء و المرسلين، و على آله و صحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا تحرير لمسألة مهمة ذكرها الإمام ابن قدامة - رحمه الله - في (اللمعة) فقال: [و ما أشكل من ذلك أي الصفاتº وجب إثباته لفظاً و ترك التعرض لمعناه].
و هذه الكلمة قد أورثت إشكالاً كبيراً بين العلماء في: ما المراد بها، و ما هو مذهب ابن قدامة في الصفات؟
و قبل الولوج في تحرير مراد ابن قدامة من هذه اللفظة التي ذكرها في (اللمعة) أبيِّن مسألة نفيسة ينبني عليها هذا التحرير، و هي:
أن الصفات بالنسبة لمعانيها نوعان:
الأول: صفات معناها واضح جلي.
الثاني: صفات معناها مشكل خفي.
فالواجب في الأول أمران:
أحدهما: الإيمان بها لفظاً.
ثانيهما: الإيمان بالمعنى الظاهر منها.
و أما الثاني فالواجب فيه أمران أيضاً:
أولهما: الإيمان بها لفظاً.
ثانيهما: ترك التعرض لمعناها.
قال شيخنا العلامة الفقيه محمد بن صالح العُثَيمِين - رحمه الله -: (و الواجب عند الإشكال اتباع ما سبق من ترك التعرض له و التخبط في معناه). انظر: شرح لمعة الاعتقاد (33).
و أما كلمة الموفق فإن أهل العلم لهم فيها أربعة توجيهات:
الأول: أنه قول المفوضة، و قال به العلامة محمد بن إبراهيم (فتاويه 1/202-203)، و العلامة عبد الرزاق عفيفي (فتاويه 1/153).
بل نصَّ الثاني على أنه مفوِّض، و برأه الأول من التفويض و هو الحق.
الثاني: أن المراد بقوله: (و ترك التعرض لمعناه) أحد أمرين:
أحدهما: الكيفية.
الثاني: المعنى الباطل.
و مما يؤيد هذا و أنه هو من مراده بهذه اللفظة استدلاله بقول الإمام أحمد: (لا كيف و لا معنى) أي: لا تعرضاً للكيفية، و لا ذكراً للمعاني الباطلة التي تنـزه عنها الصفات.
الثالث: أن مراده تفويض الصفة التي أشكل عليه معناها، و هذا ظاهر كلامه.
قلت: و هذا هو الحق عندي و هو الذي يجب حمل كلامه عليه، لأدلة:
الأول: قوله: (و ما أشكل) فلم يرد مطلق التفويض لمعاني الصفات.
الثاني: آية آل عمران (7)، فقد قال في الروضة (1/281): (و لأن قولهم (آمنا به) يدل على نوع تفويض و تسليم لشيء لم يقفوا على معناه …).
و لا شك أن مراده تفويض المعنى المشكل.
الثالث: أن الآية فيها أن التشابه في الأدلة أمر نسبيº فقد يشكل نص على عالم، و ليس هو كذلك عند غيره.
ثم أيضاً إن الواجب إرجاع هذه اللفظة المشكلة من كلام الموفق - رحمه الله - إلى سائر كلامه في كتبه كما في رسالته (اللمعة) من تقريره الصفات على منهاج أهل السنة. [انظر أيضاً: تحريم النظر في كتب الكلام (59)]، و اعتقاده المشهود له به من قِبَلِ من ترجم له من أهل السنة.
الرابع: أن مراده بتلك القولة هو تفويض المعنى المراد عند الجهمية، و دليل ذلك استدلاله بقول الإمام أحمد: (لا كيف و لا معنى).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مبيناً معنى كلمة الإمام أحمد: (و المنتسبون إلى السنة من الحنابلة و غيرهم الذين جعلوا لفظ التأويل يعم القسمين يتمسكون بما يجدونه في كلام الأئمة في المتشابه مثل قول أحمد فى رواية حنبل و لا كيف و لا معنى ظنوا أن مراده أنا لا نعرف معناها و كلام أحمد صريح بخلاف هذا في غير موضع و قد بين أنه إنما ينكر تأويلات الجهمية و نحوهم الذين يتأولون القرآن على غير تأويله) [الفتاوي 17/363].
ثم قال: (فنفى أحمد قول هؤلاء و قول هؤلاء قول المكيفة الذين يدعون أنهم علموا الكيفية و قول المحرفة الذين يحرفون الكلم عن مواضعه و يقولون معناه كذا و كذا) [17/364].
و لِيُعلَم أن الأخذ بهذه الكلمة الموهمة و جعلها مذهباً للموفق دون الرجوع إلى مذهبه في سائر كتبه أمر لا يجوز الحكم من خلاله على الموفق، و هو حكم خالٍ, من التحقيق.
ثم أيضاً إن الموفق - رحمه الله - لم يُبَيِّن أن هذا هو مذهبه، بل إنه قرَّرَ منهجاً عاماً، و هذا فيه فائدة قلَّ من تنبه لها أحدº و هي: أنه سدَّ باب الخوض في الصفات بغير حق، و التكلف في تتبع الكيفيات، و ضرب المعاني الباطلة لصفات الله - تعالى -.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد