بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه...وبعد:
نتابع في هذه الحلقة الكلام على منهج السلف في إثبات صفات اللَّه - تعالى -ومراد عبارة أهل العلم من وجوب إثبات الصفات دون تعطيل أو تكييف، فنقول مستعينين بالله:
ومما جاء عن ابن مندة محدث الشرق في هذا قوله: \"هو - تعالى -موصوف غير مجهول، وموجود غير مُدرَكٍ, ومرئِيُّ غير مُحَاطٍ, به لقربه كأنك تراه، وقريبٌ غير ملازقٍ, وبعيدٌ غيرُ منقطعٍ,، يسمع ويرى وهو العليّ الأعلى وعلى العرش استوى.. فالقلوب تعرفُه والعقول لا تُكَيِّفُهُ، وهو بكل شيء محيط\"(1).. وأنى لعقولنا أن تكيفه وإنا- على حد ما ذكره القاضي أبو يعلى في هذا الصدد- لعاجزون كالٌّون حائرون باهتون في حد الروح التي فينا، وكيف تعرج كل ليلة إذا توفاها بارئها، وكيف يرسلها، وكيف تستقل بعد الموت؟ وكيف حياة الشهيد المرزوق عند ربه بعد قتله؟ وكيف حياة النبيين الآن؟ وكيف شاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أخاه موسى يصلي في قبره قائماً ثم رآه في السماء السادسة وحاوره، وأشار عليه بمراجعة رب العالمين، وطلب التخفيف منه على أمته؟ وكيف ناظر موسى أباه آدم وحجه آدم بالقدر السابق، وبأن اللوم بعد التوبة وقبولها لا فائدة فيه؟ وكذلك نعجز عن وصف هيئتنا في الجنة، ووصف الحور العين؟.. فكيف بنا إذا انتقلنا إلى الملائكة وذواتهم وكيفيتها، وأن بعضهم يمكنه أن يلتقم الدنيا في لقمة، مع رونقهم وحسنهم وصفاء جوهرهم النوراني؟.. وإذا ظهر عجزنا على نحو واضح وفاضح عن معاينة بعض خلقه، فمن ذا الذي يستطيع أن يصف لنا كنهه - سبحانه - أو ينعت لنا كيف سمع كلامه؟ ومن ذا الذي عاينه أصلاً أو قبلاً فنعته لنا؟ (2).
وعلى نحو ما دل العقل على عدم إدراك كنه صفاته - تعالى -، فإنه قد دل كذلك على ضرورة الوقوف على معانيها، ذلك أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - تضمنت شيئين مهمين هما العلم النافع والعمل الصالح كما قال - تعالى -: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [التوبة: 33، والصف: 9]، فالهدى: هو العلم النافع، ودين الحق: هو العمل الصالح الذي اشتمل على الإخلاص لله والمتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، والعلم النافع يتضمن كل علم يكون للأمة فيه خير وصلاح في معاشها ومعادها، وأول ما يدخل في ذلك: العلم بأسماء الله وصفاته وأفعاله، فإن العلم بذلك أنفع العلوم وبه قوام الدين قولاً وعملاً واعتقاداً، ومن أجل ذلك كان من المستحيل أن يهمله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يبينه للناس بياناً ظاهراً ينفي الشك ويدفع الشبهة، خاصة وأن الإيمان بالله وأسمائه وصفاته هو أساس الدين وخلاصة دعوة المسلمين، وهو أوجب وأفضل ما اكتسبته القلوب وأدركته العقول، ثم إنه - صلى الله عليه وسلم - كان أعلم الناس بربه وهو أنصحهم للخلق وأبلغهم في البيان، فلا يمكن مع هذا المقتضي التام للبيان أن يترك باب الإيمان بالله وأسمائه وصفاته ملتبساً مشتبهاً(3).
وفيما مضى، الرد الكافي على من أخطأوا في تنزيه الله وأحسنوا الظن بعقولهم وأساءوه بالكتاب والسنة فضلوا بذلك طريقهم، فمنهم من نزهه عن فوقيته على عرشه وبينونته من خلقه فاعتقد أنه عين الوجود وأنه في كل مكان ولم يصنه عن أخس الأماكن وأقبحها وهم الحلولية من أتباع جهم وأشياعهم، ومنهم من نزهه عن العلو والفوقية وجعل الوجود بأسره - على اختلاف أنواعه وتقابل أضداده مما لا يسوغ التلفظ بحكايته - هو المعبود، وهم طائفة ابن عربي وابن الفارض وابن سبعين وأضرابهم من طائفة الاتحادية، ومنهم من أثبت إثباتاً هو عين النفي فوصفوا الباري بصفة العدم بقولهم بوجوده لا داخل العالم ولا خارجاً عنه ولا مبايناً له ولا محايثاً ولا منفصلاً عنه ولا متصلاً به ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أمامه ولا فوقه ولا تحته، فنزهوه بسلوبهم عن علوه وفوقيته على عرشه وجعلوا وجوده بذلك وجودا ذهنياً لا حقيقة له أو هو عين موجوداته، وهو مذهب الطوسي وغلاة الجهمية وطائفة الدهرية والسلبية ومن هم في زماننا على شاكلتهم.
وهذا كله مخالف- كما تقرر- لما جاء به الوحي ولما أجمع عليه سلف الأمة من أنه - سبحانه - فوق سماواته على عرشه، وأنه مع علوه بائن من خلقه، يعلم ما هم عليه لا يخفى عليه منهم خافية، واستواؤه على عرشه كما أخبر وعلى الوجه الذي عناه وأراده وكما يليق بجلاله، ففوقيته - جل وعلا - إنما هي فوقية ذات وفوقية قهر، واستواؤه على عرشه إنما هو استواء علو وارتفاع يليقان بجلاله، ونزوله - سبحانه - إلى خلقه محمول على حقيقته اللائقة به، وأنه يأتي لعباده يوم القيامة لفصل القضاء ويراه أهل الجنة كما يرون الشمس لا يضارون في رؤيته، لا نتكلف لذلك تأويلاً ولا تكييفاً، بل نقول كما قال سلفنا: آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء به رسول الله على مراد رسول الله، لا نطلب إماماً غير الكتاب والسنة ولا نتخطاهما إلى غيرهما ولا نتجاوز ما جاء فيهما، ننطق بما نطقا به ونسكت عما سكتا عنه ونسير سيرهما حيث سارا ونقف معهما حيث وقفا.
منشأ الخطأ عند علماء الكلام ولدى من تأثر بقول المفوضة من متأخري الأشاعرة:
غلب على ظن البعض من متأخري علماء الكلام ومن لا يزال متأثراً عن جهالة بمعتقدهم أو متشبثاً به في إصرار وعناد، أن التفويض في معنى الصفات هو طريق السلف، ويذكر أن الشهرستاني كان من أوائل من ذكر أن مذهب السلف هو التفويض وقد تبعه في ذلك إمام الحرمين في الرسالة النظامية والرازي في أساس التقديس(4) والسيوطي في الإتقان وغيره(5)، ثم شاع هذا بين الباحثين قديماً وحديثاً وراج حتى اتخذت هذه العبارات شبهة تقرر من خلالها أن مذهب السلف هو التفويض وليس الإثبات، قال الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل): \"ثم إن جماعة من المتأخرين زادوا على ما قاله السلف، فقالوا: لا بد من إجرائها على ظاهرها فوقعوا في التشبيه الصرف وذلك على خلاف ما اعتقده السلف\"(6)، فقد أفاد في هذا النص أن إجراء آيات الصفات على ظاهرها هو زيادة على مذهب السلف وأن هذا لم يكن طريقهم ولا مرادهم في فهم صفات الله - تعالى -لكون القول بإجراء الصفات على ظاهرها مؤد لا محالة- على ما ظنه- إلى التشبيه الصرف.
وفضلاً عن عدم صحة ما ذكره في هذا الصدد فقد ناقض نفسه حين قال قبل ذلك بصفحة واحدة: \"اعلم أن جماعة كبيرة من السلف كانوا يثبتون لله - تعالى -صفات أزلية من العلم والقدرة والحياة، و.. لا يفرقون بين صفات الذات وصفات الفعل بل يسوقون الكلام سوقاً واحداً، وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه ولا يؤولون ذلك\"، ثم ذكر أن ممن يقول بهذا مالك بن أنس وأحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود بن علي الأصفهاني ومن تابعهم، ولا يعني ذلك- على حد فهمه- إلا اعتقاد السلف أن ثمة فارقاً بين صفات الذات والصفات الخبرية، لوجوب تأويل الأخيرة حتى لا يتوهم منها التشبيه.
وقد أيد الإمام الرازي ت606 الشهرستاني ت548وذلك فيما جعله الأول في كتابه (أساس التقديس) قانوناً كلياً للمذهب، ويقضي هذا القانون الكلي وتلك القاعدة العامة التي أرساها الفخر الرازي في كتابه المذكور بـ \"أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معاً وأنه باطل\"، وقد أداه تسليمه لما قرره لأن يفصح ويكشف اللثام عن أن الدلائل العقلية قاضية و\"قاطعة بأن هذه الدلائل النقلية- يقصد تلك المفصحة عن الصفات الخبرية وصفات الأفعال والمتعارضة على حد زعمه مع الدلائل العقلية- إما أن يقال إنها غير صحيحة، أو يقال إنها صحيحة إلا أن المراد منها غير ظاهرها\"، ثم يردف قائلاً: \"ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع(7) بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وإن لم يجز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله - تعالى -، فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات\". أ. هـ من كلام الرازي\".
ويحق لنا هنا- ونحن نشير إلى أن التفويض لم يكن بحال من الأحوال مذهباً للسلف وإلى أن التشابه إنما كان مقصوراً لديهم على كيفيات الصفات دون معانيها- أن نتساءل أليس ما ذكره الشهرستاني من القول بالتفويض ومن أن المراد منها غير الظاهر وتبعه فيه الرازي، هو من قبيل ذكر الشيء وضده؟ وأليس ذلك وما ذكراه من نسبة كلٍّ, للسلف هو التناقض بعينه؟، وألا يكفي ويشهد لما نسبه مؤخراً للسلف وعلى رأسهم مالك وأحمد والثوري وداود وغيرهم من إثبات لصفات الذات وصفات الفعل ومن إجراء للصفات جميعاً على ظاهرها دون ما تمثيل ولا تشبيه، أن يكون هو الحق الذي لا ينبغي الحياد عنه؟ وأليس ما ذكره في شأن صفات الفعل والصفات الاختيارية وإيهام أنهما شيئان مختلفان عن صفات الذات مدعاة للتفرقة بين صفات مثبتة وأخرى مثبتة كذلك؟.
وبمثل هذه التناقضات نطق الرازي حين ذكر في كتابه (أساس التأسيس) قبل تراجعه إلى مذهب السلف(8): \"أن هذه المتشابهات يجب القطع بأن مراد الله منها شيء غير ظواهرها كما يجب تفويض معناها إلى الله - تعالى -ولا يجوز الخوض في تفسيرها\"(9)، فقد أوجب هنا تفويض معنى هذه المتشابهات- على حد زعمه- إلى الله ثم دعا إلى حملها على غير ظواهرها، فكيف يسوغ فيما كان كذلك أن يقع فيه التفويض؟ وكيف يتسنى القول بالتفويض ومجرد حملها على غير ظواهرها المفضي ضمناً إلى التأويل هو نقض للتفويض من الأساس؟، ثم إن كان (لا يجوز لنا- على حد قوله- الخوض في تفسيرها) فما فائدة القول إذن بحملها على غير ظاهرها أو القول على سبيل التبرع بتأويلها؟.
وعلى نحو ما اغتر الرازي بكلام الشهرستاني، فقد اغتر زين الدين المقدسي بكلام الجويني الذي ذكر في الرسالة النظامية - قبل أن يتراجع- ما نصه: \"وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب - تعالى -، والذي نرتضيه رأياً وندين الله به عقداً اتباع سلف الأمة\"، إلى أن قال: \"فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً ومحتوماً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة\"(10).. ذلك أنه وبعد أن نقل في كتابه (أقاويل الثقات) قول السيوطي في الإتقان ص305: \"وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث، على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله تعالى\"، وكلام ابن الصلاح الذي قال فيه: \"وعلى هذه الطريقة مضى صدر الأمة وساداتها، وإياها اختار أئمة الفقهاء وقاداتها وإليها دعا أئمة الحديث وأعلامه، ولا أحد من المتكلمين من أصحابنا يصدف عنها ويأباها\".. لم يكتف بما نقله عنهما من القول بالتفويض في معنى الصفات حتى علق على ما ذكره لهما بأن هذا \"القول، هو الحق وأسلم الطرق، فإنك تجد كل فريق من المتأولين يُخطّئ الآخر ويرد كلامه، ومن طالع كلام طوائف المتكلمين والمتصوفين عَلِم ذلك علم اليقين\"، بل راح ينشد وينسج على هذا المنوال قائلاً:
\"الناسُ شتى وآراءٌ مُفَرَّقَةُ *** كلٌ يَرىَ الحقَّ فيما قال واعتَقَدَا\"(11)
وكلام المقدسي بهذا يحمل كثيراً من الخطأ كما يحمل كثيراً من الصواب، ذلك أنه وإن كان في ظاهره يعد رداً على عادة المعتزلة والنفاة من رفض سبيل التأويل الناشئ عن نفي الصفات ومن عدم حملها على ظواهرها، كما يعد إثباتاً لما نفوه في حق الله - تعالى -من صفات القدرة والإرادة والعلم والحياة والسمع والبصر والكلام، إلا أنه يحمل في طياته الرضا بما ارتضوه هم وأولئك المتكلمون من متأخري الأشاعرة من تأويل سائر ما أثبته - سبحانه - لنفسه، لكون ذلك ببساطة شديدة هو منهج المتكلمين الذي ارتضاه لنفسه كما ارتضاه لنفسه كل من نقل عنهم وسلم لهم به ولم يتعقبهم، كما يحمل في طياته أن ما لم يمكن تأويله يجب تفويض المعنى فيه إلى الله، يقول ابن الصلاح فيما نقله عنه المقدسي في الأقاويل: \"وهذا القول.. هو قول بالتفويض وعد الصفات من المتشابه\"، ويقول ناقله: \"اعلم- أيدني الله وإياك بروح منه- أن من المتشابه صفات الله - تعالى -، فإنه يتعذر الوقوف على تحقيق معانيها والإحاطة بها، بل على تحقيق الروح والعقل القائمين بالإنسان، وأهل الإسلام قد اتفقوا على إثبات ما أثبته الله لنفسه من أوصافه التي نطق بها القرآن من نحو سميع وبصير وعليم وقدير\"، يعني ما أطلقوا عليه وأسموه بصفات المعاني، يقول: \"ونافي ذلك كافر لأنه مكذب لصريح القرآن\"(12).
وقد شاع هذا الفهم المغلوط عن السلف بتناقضاته كما سنبين ذلك تفصيلاً، في عبارات المتكلمين- ممن حسبوا أنفسهم من الخلف أنهم أشاعرة - نظماً ونثراً ومتناً وشرحاً، ففي شرحه على ما جاء في جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني:
وكــل نص أوهم التشبيهــا *** أوِّلــه أو فوِّض ورُم تنــزيهاً
يقول البيجوري في كتابه (تحفة المريد على جوهرة التوحيد): \"قوله: (فوضه) أي بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوض المراد من النص الموهم، إليه - تعالى -على طريقة السلف.. وقوله: (ورم تنزيهاً) أي واقصد تنزيهاً له - تعالى -عما لا يليق به مع تفويض علم المعنى المراد\"(13).
فهو يرى أن ثمة نصوصاً في الصفات موهمة وأن هذه النصوص الموهمة - يقصد بها تيك الصفات الخبرية وصفات الأفعال - تستوجب صرفها عن ظاهرها بتأويل إجمالي يعقبه تفويض، كما يرى أن هذا الخليط العجيب هو ما ارتآه السلف معتقدين إياه.
على أن البيجوري لم يكتف بالجمع بين هذه المتناقضات في تأويل الصفة وصرفها عن ظاهر معناها، والقول مع هذا بتفويض علمها إلى الله والزعم بأن هذا المزيج هو معتقد السلف في الصفات، حتى راح يدعي عليهم أنهم فيما يوهم الجهة في نحو قوله - تعالى -: يخافون ربهم من فوقهم.. [النحل: 50] \"يقولون: فوقية لا نعلمها\"، وأنهم في قوله - تعالى -: الرحمن على العرش استوى.. [طه: 5]، \"يقولون استواء لا نعلمه\"، يقول هذا على الرغم من شهرة ما ورد عن مالك وغيره من أن (الاستواء معلوم)، بل وعلى الرغم من سوقه عبارة مالك تلك في سياق كلامه.. كما يدعى البيجوري أن السلف في حديث: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا) \"يقولون: مجيء ونزول لا نعلمهما\"، وفي قوله - تعالى -: (ويبقى وجه ربك.. الرحمن/ 27) وقوله: (يد الله فوق أيديهم.. الفتح/ 10)، وحديث: (إن قلوب بني آدم كلها كقلب واحد بين أصبعين من أصابع الرحمن)، \"يقولون: لله وجه ويد وأصبع لا نعلمها\"، وهكذا(14)، وليس ذلك بغريب على من ترك الأمر فيما ظنه موهماً للتشبيه بالخيار بين التأويل والتفويض، ولا في حق من عد ذلك تنزيهاً لله عن المشابهة وأنشأ في ذلك النظم.
هذا والقول بالتفويض مما يكثر الكوثري أيضاً عزوه لأئمة السلف، فقد ذكر في تعليقه على كتاب (السيف الصقيل) ص13 أن \"الذي عليه السلف إجراء ما ورد من الكتاب والسنة المشهورة في صفات الله - سبحانه - على اللسان، مع التنزيه بدون خوض في المعنى ومن غير تعيين المراد\"، وأعاد الكوثري هذا المعنى في مواضع أخرى من الكتاب المذكور منه ص131، 145، وجرى على منواله الشيخ سلامة القضاعي العزامي حيث ذكر نحوه في غير ما موطن إبان تعليقه على كتاب البيهقي في (الأسماء والصفات)، بله أنه كان في ذلك أكثر جرأة حين صرح في ص94 منه بأن \"أكثر السلف على الكف عن بيان المعنى المراد اللائق بالحق تعالى\"، وكرر مثل هذا في صفحات 5، 81 حيث نسب إلى أكثر السلف تنزيههم عن بيان المعنى اللائق بالله تعالى(15).
فالعجب ممن ينسب إلى السلف الصالح القول بالتفويض في آيات وأحاديث الصفات ويرميهم بعدم البحث عن المراد منها على نحو ما ارتأينا، مع وضوح ما نقلناه عن سلف هذه الأمة بل ومع إجماعهم على القول بنقيضه ووضوح ما جاء عن الإمام مالك وشيوخه وعن أم سلمة أم المؤمنين في تصريحهم بأن الاستواء معلوم..
وباعتقادي أن أولئك الذين اتهموا السلف بما هم منه برءاء إنما أوتوا - كما ذكر ذلك غير واحد من محققي أهل العلم - من حيث ظنوا أن طريق السلف يكمن في مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ذلك، فجعلوهم بهذا بمنزلة الأميين، وحاشاهم أن يكونوا كذلك.
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) التوحيد لابن مندة3/ 34 وينظر كتابه الإيمان1/ 220، 2/ 758 وما بعدهما والعلو ص171 ومختصره ص 254والحجة للأصفهاني1/ 91والإبانة الصغرى لابن بطة ص206 وما بعدها والمعارج للشيخ حكمي1/148.
(2) ينظر العلو ص 183ومختصره ص 270، 271.
(3) ينظر فتح رب البرية بتلخيص الحموية ص 50، 51.
(4) وقد كان ذلك منهما قبل تراجعهما إلى مذهب السلف، فلا عجب إذن حين نلحظ تناقض كلامهما هنا مع آخر ما استقرا عليه.
(5) ومما قاله الأخير ونقله عنه ثلة من أهل العلم، منهم زين الدين المقدسي: \"وجمهور أهل السنة منهم السلف وأهل الحديث، على الإيمان بها وتفويض معناها المراد منها إلى الله - تعالى -ولا نفسرها مع تنزيهنا له عن حقيقتها\".. الإتقان ص 305 طبع ونشر مكتبة مصر، وأقاويل الثقات ص65.. والغريب في الأمر أن السيوطي يسوق ويدلل على قوله الذي أسلفنا، بقول الإمام مالك: (والاستواء غير مجهول)، ولا ندري كيف يتأتى له أن يسوق ذلك الأثر على ما أوجبه من تفويض علم مثل ذلك إلى الله؟!!
(6) الملل والنحل للشهرستاني1/93.
(7) هكذا وصلت قيمة نصوص الوحي إلى حد جعل الاشتغال بتأويلها-الذي هو تحريف لها- يعد تبرعاً وإحساناً.
(8) وفي شأن تراجعه المأمول بعد شناعة ما صدر عنه يقول الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء21/501: \"وقد بدت منه في تواليفه بلايا وعظائم، وسحر وانحرافات عن السنة، والله يعفو عنه، فإنه توفي على طريقة حميدة، والله يتولى السرائر\"، أما عن إمام الحرمين فسيأتي الحديث عن تراجعه هو الآخر وعن بعض ما صدر منه من عبارات في هذا الشأن.
(9) أساس التقديس للرازي ص223.
(10) العقيدة النظامية لإمام الحرمين ص165، 166.
(11) أقاويل الثقات ص67.
(12) أقاويل الثقات للمقدسي ص67.
(13) شرح البيجوري على الجوهرة ص100.
(14) شرح البيجوري ص101، 102.
(15) وقد أشار إلى ذلك ونوه عليه الألباني في مختصره على كتاب العلو للذهبي ص36، 37.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد