بسم الله الرحمن الرحيم
الأسباب المفضية لدى أهل العلم إلى عدم فهم كلام السلف على حقيقته
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد، ففي هذه الحلقة نواصل ما بدأناه في المقالات السابقة فنقول مستعينين بالله:
الظاهر أن الذي حمل من يجهلون طريقة السلف ويغيب عنهم مذهبهم في الصفات(1)، على القول بالتفويض والادعاء بأنه مذهب أهل السنة والجماعة، مرجعه إلى أمرين:
الأمر الأول: ما ورد من نهي السلف عن تفسير الصفات والخوض في معانيها والزعم من ثمّ أنها من المتشابه:
فقد وردت في أقوال السلف عبارات لم يدرك جل الأئمة الذين ينسبون إلى السلف معتقد التفويض حقيقتها ولا المراد منها، كإمرار التابعين وتابعيهم بإحسان رحمة الله عليهم لمعاني الصفات وكامتناعهم ونهيهم عن تفسيرها، في نحو ما أوردناه من قول الوليد بن مسلم: \"سألت الأوزاعي ومالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد عن الأحاديث التي فيها الصفات؟ فكلهم قالوا لي: أمروها كما جاءت بلا تفسير\"(2)..وما أوردناه عن محمد بن الحسن من قوله: \"اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صفة الرب - عز وجل - من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه، فمن فسر شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وفارق الجماعة، فإنهم لم ينفوا ولم يفسروا، ولكن آمنوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة، لأنه وصفه بصفة لا شيء\"..وما جاء في قوله في أحاديث (إن الله يهبط إلى السماء الدنيا)، ونحو هذا من الأحاديث هي: \"أحاديث قد روتها الثقات، فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها\"(3).
وكذا ما جاء عن شيخ المحدثين يحيى بن معين قال: \"شهدت زكريا بن عدي سأل وكيعاً فقال: يا أبا سفيان، هذه الأحاديث مثل حديث (الكرسي موضع القدمين) ونحو ذلك.. ؟، فقال: \"كان إسماعيل بن أبي خالد والثوري ومِسعَر بن كدام- يروون هذه الأحاديث، لا يفسرون منها شيئاً\"(4).. وما جاء عن سفيان بن عيينة- فيما نقله عنه الإمام أحمد- قال: \"كل وصف وصف الله به نفسه في كتابه، فتفسيره قراءته لا تفسير له غيرها، ولا نتكلف غير ذلك فإنه غيب لا مجال للعقل في إدراكه\"(5).. وما جاء عن أبي عبيد القاسم بن سلام - فيما رواه عنه البيهقي وغيره بإسناد صحيح- في أحاديث الرؤية والكرسي وموضع القدمين وضحك ربنا وحديث (أين كان ربنا قبل أن يخلق السماء) و(أن جهنم لا تمتلئ حتى يضع ربك - عز وجل - قدمه فيها فتقول قط قط) وأشباه هذه الأحاديث، فقال: \"هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا نشك فيه، ولكن إذا قيل لنا كيف وضع قدمه فيها وكيف يضحك، قلنا لا نفسر هذا ولا سمعنا أحداً يفسره\"(6)، إلى غير ذلك من نصوص فَهِمَ متأخرو الأشاعرة من مؤداها إدخال أسماء الله وصفاته أو بعض ذلك في المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وقد أتى السيوطي وهو يحتج ببعض هذه الأقوال بما يفيد أن السلف كانوا يقولون بتفويض الصفات(7)، وهذا توهم منه لا يبعد أن يكون قد تأثر فيه بما تراجع متأخرو الأشاعرة عنه ولم يبلغه ذلك، كما لا يبعد أن يكون غيره كذلك قد تأثر به فيه..
والجواب عن هذا أن المعنى الذي نفوه، وأبوا حمل التفسير عليه، هو المعنى الذي ابتكره المعطلة من الجهمية وغيرهم ممن ابتدعوا تفسيرات للصفات على خلاف ما كان عليه الصحابة والتابعون من الإثبات(8).. أو أن يكون المراد من ذلك ترك التفسير الذي يخرج عن ظاهر اللفظ أو الذي يؤدي إلى معرفة الكيفية أو الكنه، ذلك - وببساطة شديدة - أن التفسير إنما يكون لما انبهم من الكلام، وصفاته - تعالى -ليست مبهمة وإنما هي ظاهرة معلومة المعنى، والمجهول هو الكيف ومن ثم كان هو الذي يحتاج إلى تفسير، ولما كان هذا الكيف مجهولاً للخلق ولا مطمع في إدراكه قال السلف: أمروها بلا كيف.
وليس أدل على صحة ذلك الجواب، من أن السلف مع نفيهم الكيفية، أنكروا على المعطلة نهجهم الذي يقضي بنفي الصفات وعدم إثباتها، ومن أقوال أئمة السلف في ذلك ما نقل عن الإمام أحمد من قوله: \"ليس كمثله شيء في ذاته.. وصفاته غير محدودة، ولا معلومة إلا بما وصف به نفسه، قال: فهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث بل نقول كما قال ونصفه بما وصف به نفسه.. نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته بشناعة شنعت.. سميع بصير لم يزل متكلماً عالماً غفوراً.. فهذه صفات وصف بها نفسه لا تدفع ولا ترد وهو على العرش بلا حد كما قال - تعالى -: (ثم استوى على العرش.. الأعراف/ 54 يونس/ 3الرعد/ 2 الفرقان/ 59 السجدة/ 4 الحديد/ 4) كيف شاء، المشيئة إليه والاستطاعة إليه، ليس كمثله شيء وهو خالق كل شيء وهو سميع بصير بلا حد ولا تقدير، لا نتعدى القرآن والحديث، - تعالى -الله عما يقول الجهمية والمشبهة\"(9).
ومن أدلته كذلك أن السلف أنكروا تفسير أولئك المعطلة وأثبتوا مع إنكارهم لتفسيراتهم تلك، تفسيرات أخري هي الموافقة لما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، ليتضمن كلامهم الرد على كلتا الطائفتين المبتدعتين طائفة المعطلة وطائفة المشبهة، يقول حنبل بن إسحاق: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) فقال لي: \"اسكت عن هذا، مالك ولهذا! أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد كما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب، قال الله - عز وجل -: (فَلاَ تَضرِبُوا لِلّهِ الأَمثَالَ.. النحل/74)، ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته أحاط بكل شيء علماً، لا يبلغ قدره وصف واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب\"(10).. ويقول محدث الكوفة في وقته الحافظ أبو جعفر محمد بن عثمان بن محمد ابن أبي شيبة العبسي ت297 في كتابه عن العرش وذلك فيما نقله عنه الحافظ الذهبي: \"ذكروا أن الجهمية يقولون: ليس بين الله وبين خلقه حجاب، وأنكروا العرش وأن يكون الله فوق، وقالوا: إنه في كل مكان، ففسرت العلماء (وَهُوَ مَعَكُم.. الحديد/ 4) يعني علمه، ثم تواترت الأخبار أن الله - تعالى -خلق العرش فاستوى عليه، فهو فوق العرش متخلصاً من خلقه بائناً منهم\"(11).
والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) احترامنا الشديد لهم واعترافنا بفضلهم وإقرارنا بموالاتهم وبأنهم أرادوا الحق فأخطأوه، وما قصدوا مخالفته ولا تعمدوا الخروج فيه على إجماع المسلمين ولا سلف الأمة، ومن ثم فلا عذر لمقلديهم ولا للاحتجاج - فيما خالفوا فيه السلف - بأقوالهم كما يفعل البعض، لاسيما وأنهم ما دعوا الناس إليه ولا جعلوه مذهباً يضاهئون به قول أهل الحق أو يحرضون الدهماء على الانتصار له أو يدعون من خلاله إلى خرم ما اتفق أهل السنة عليه، وما عمدنا إلى إظهار ما كتبوه إلا لبيان الحق ومعرفة وجه الصواب فيه والتحذير مما وقعوا فيه بعد إقامة الحجة وتسجيل تراجع جلهم إلى الحق، وحاشانا أن يكون المأرب من وراء ذلك القدح في معتقداهم ولا التشهير بهم ولا اتهامهم في دينهم أيضاً كما يفعل البعض، والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
(2) العلو ص 104ومختصره ص142.
(3) ينظر اللالكائي 3/ 433وذم التأويل ص6والعلو ص113 واجتماع الجيوش ص87.
(4) الصفات للدارقطني ص69وذم التأويل ص9والعلو ص 109والتوحيد لابن مندة3/ 116.
(5) عقائد السلف ص571 وينظر العلو ص 183، 192والصفات للدارقطني ص70 والتوحيد لابن مندة 3/ 307، 308.
(6) العلو ص 127ومختصره ص186 والصفات للدارقطني ص68، 69والتوحيد لابن مندة3/ 116والأسماء للبيهقي ص491والحموية ص30 والمعارج1/14، 273والحجة1/ 439.
(7) ينظر الإتقان ص305.
(8) الحموية ص115.
(9) ينظر اجتماع الجيوش ص83 والمعارج1/297.
(10) اللالكائي3/ 453 مجلد2 وينظر علاقة الإثبات ص72 والصواعق 2/ 252.
(11) العلو ص 148ومختصره ص220.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد