هل الملل صفة من صفات الله تعالى ؟


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

ورد في الحديث الصحيح قولـه - صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا)). رواه البخاري (43)، ومسلم (785)
وفي رواية لمسلم: ((فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا)).
قال أبو إسحاق الحربي في ((غريب الحديث)) (1/338): ((قولـه: ((لا يَمَلٌّ الله حتى تملوا)): أخبرنا سلمة عن الفراء يقال: مللت أمَلٌّ: ضجرت، وقال أبو زيد: ملَّ يَمَلٌّ ملالة، وأمللته إملالاً، فكأنَّ المعنى لا يملٌّ من ثواب أعمالكم حتى تملٌّوا من العمل))اهـ.
وقد اختلف أهل العلم هل يؤخذ من هذا الحديث إثبات صفة الملل لله - عز وجل - أم لا؟ ودونك أقوالهم:
القول الأول: يستفاد من هذا الحديث إثبات ملل يليق بالله تبارك وتعالى، على وجه المقابلة مثل الاستهزاء والمكر.
1-قال ابن عبد البر((وقد بلغني عن ابن القاسم أنه لم ير بأسا برواية الحديث إن الله ضحكوذلك لأن الضحك من الله والنزول والملالة والتعجب منه ليس على جهة ما يكن من عباده))[التمهيد]
2- قال الشيخ محمد بن إبراهيم في ((الفتاوى والرسائل)) (1/209): ((((فإنَّ الله لا يَمَلٌّ حتى تملٌّوا)): من نصوص الصفات، وهذا على وجه يليق بالباري، لا نقص فيه كنصوص الاستهزاء والخداع فيما يتبادر)).
3-قال الشيخ ابن عثيمين وقد سئل - رحمه الله - في ((مجموعة دروس وفتاوى الحرم)) (1/152): هل نستطيع أن نثبت صفة الملل والهرولة لله - تعالى -؟ فأجاب: ((جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولـه: ((فإنَّ الله لا يَمَلٌّ حتى تملوا)).
فمن العلماء من قال: إنَّ هذا دليل على إثبات الملل لله، لكن ملل الله ليس كملل المخلوق إذ إنَّ ملل المخلوق نقص لأنه يدل على سأمه وضجره من هذا الشيء، أما ملل الله فهو كمال وليس فيه نقص، ويجري هذا كسائر الصفات التي نثبتها لله على وجه الكمال وإن كانت في حق المخلوق ليست كمالاً.
ومن العلماء من يقول: إنَّ قولـه: ((لا يَمَلٌّ حتى تملوا)) يراد به بيان أنه مهما عملت من عمل فإنَّ الله يجازيك عليهفاعمل ما بدا لك فإنَّ الله لا يمل من ثوابك حتى تمل من العمل، وعلى هذا، فيكون المراد بالملل لازم الملل.
ومنهم من قال: إنَّ هذا الحديث لا يدل على صفة الملل لله إطلاقاً لأنَّ قول القائل: لا أقوم حتى تقوم لا يستلزم قيام الثاني، وهذا أيضاً: ((لا يمل حتى تملوا)) لا يستلزم ثبوت الملل لله - عز وجل -.

وعلى كل حال يجب علينا أن نعتقد أنَّ الله - تعالى -مُنَزَّه عن كل صفة نقص من الملل وغيره، وإذا ثبت أنَّ هذا الحديث دليل على الملل فالمراد به ملل ليس كملل المخلوق))اهـ.
3- قال الشيخ صالح آل الشيخ في ((شرح الطحاوية)) هناك أفعال تضاف إلى الله - جل وعلا -، ولا نشتقّ منها صفة نصف بها الرب - جل وعلا -، فباب الأفعال أضيق من باب الصفات فليس كل فعل أطلق أو أضيف إلى الله - جل وعلا - من فعله - سبحانه - نشتق منه صفة من الصفات، كذلك ليس كل ما جاز أن يُخبَر به عن الله - جل وعلا - جاز أن نجعله اسما له - سبحانه -، أو أن نجعله صفة له - سبحانه -، وكذلك ليس كل صفة له - جل وعلا - يجوز أن نشتق منها اسم، مثل مثلا الصٌّنع الله - جل وعلا - قال في آخر سورة النمل {صُنعَ اللَّهِ الَّذِي أَتقَنَ كُلَّ شَيءٍ} [النمل: 88] فالصنع هذا صفة ?صُنعَ اللَّهِ?، ?صُنعَ اللَّهِ? هذا صفة لكن لا يجوز أن نشتق منها الصانع، لأنه كما ذكرنا الشروط لا بد أن تكون:
أولا: جاءت في الكتاب والسنة.
والثاني: أن يكون يدعى بها، واسم صانع لا يدعى به الرب - جل وعلا -، لا نقول يا صانع اصنع لي كذا لأنه لا يتوسل إلى الله به.
والثالث: أنه ليس مشتملا على مدح كامل مطلق غير مختص.
باب الأفعال مثل {اللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِم}[البقرة: 15]، {وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ}، وهنا {وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ} [الأنفال: 30]، {اللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِم} جاء إضافة الأفعال هذه إلى الله - جل وعلا -، ما نقول نشتق منها صفة فيوصف الله بالمكر ويوصف الله بالاستهزاء وأشباه ذلك، هذا غلط لأن باب الأفعال كما ذكرنا أوسع من باب الصفات، وباب الصفات أضيق لأن المكر منقسم {وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ}جاء هنا إضافة {يَمكُرُ} إلى الله - جل وعلا – {يَمكُرُ اللَّهُ} لكن المكر صفة منقسمة إلى:
— المكر الذي هو بحق، وهو ما دلّ على كمال وقهر وجبروت وهو المكر بمن مكر به - سبحانه -، أو مكر بأوليائه، أو مكر بدينه، هذا مكر حق.
— وإلى مكر مذموم وهذا ما كان على غير وجه الحق.
فإذا كان كذلك، ما نقول أن من صفة الله الاستهزاء، كذلك الملل لا نقول من صفات الله الملل، وأشباه ذلك ((إِنّ الله لاَ يَمَلّ حَتّى تَمَلّوا)) أُطلق الفعل لكن لا نشتق منه الصفة لأن الصفة منقسمة، وكذلك من الصفة إلى الاسم، وهذا فيه قواعد ذكرها ابن القيم - رحمه الله - في أول ”بدائع الفوائد“.



القول الثاني: وهو قول من أول الحديث وأخرجه عن ظاهره.
1-قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: ((. قَوله: ((لَا يَمَلّ اللَّه حَتَّى تَمَلٌّوا)) هُوَ بِفَتحِ المِيم فِي المَوضِعَينِ، وَالمَلَال اِستِثقَال الشَّيء وَنُفُور النَّفس عَنهُ بَعد مَحَبَّته، وَهُوَ مُحَال عَلَى اللَّه - تعالى -بِاتِّفَاقٍ,. قَالَ الإِسمَاعِيلِيّ وَجَمَاعَة مِن المُحَقِّقِينَ: إِنَّمَا أُطلِقَ هَذَا عَلَى جِهَة المُقَابَلَة اللَّفظِيَّة مَجَازًا كَمَا قَالَ - تعالى{وَجَزَاء سَيِّئَة سَيِّئَة مِثلهَا} وَأَنظَاره، قَالَ القُرطُبِيّ: وَجه مَجَازه أَنَّهُ - تعالى -لَمَّا كَانَ يَقطَع ثَوَابه عَمَّن يَقطَع العَمَل مَلَالًا عَبَّرَ عَن ذَلِكَ بِالمَلَالِ مِن بَاب تَسمِيَة الشَّيء بِاسمِ سَبَبه. وَقَالَ الهَرَوِيٌّ: مَعنَاهُ لَا يَقطَع عَنكُم فَضله حَتَّى تَمَلٌّوا سُؤَاله فَتَزهَدُوا فِي الرَّغبَة إِلَيهِ. وَقَالَ غَيره: مَعنَاهُ لَا يَتَنَاهَى حَقّه عَلَيكُم فِي الطَّاعَة حَتَّى يَتَنَاهَى جُهدكُم، وَهَذَا كُلّه بِنَاء عَلَى أَنَّ \" حَتَّى \" عَلَى بَابهَا فِي اِنتِهَاء الغَايَة وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيهَا مِن المَفهُوم. وَجَنَحَ بَعضهم إِلَى تَأوِيلهَا فَقِيلَ: مَعنَاهُ لَا يَمَلّ اللَّه إِذَا مَلَلتُم، وَهُوَ مُستَعمَل فِي كَلَام العَرَب يَقُولُونَ: لَا أَفعَل كَذَا حَتَّى يَبيَضّ القَار أَو حَتَّى يَشِيب الغُرَاب. وَمِنهُ قَولهم فِي البَلِيغ: لَا يَنقَطِع حَتَّى يَنقَطِع خُصُومه ; لِأَنَّهُ لَو اِنقَطَعَ حِين يَنقَطِعُونَ لَم يَكُن لَهُ عَلَيهِم مَزِيَّة. وَهَذَا المِثَال أَشبَه مِن الَّذِي قَبله لِأَنَّ شَيب الغُرَاب لَيسَ مُمكِنًا عَادَة، بِخِلَافِ المَلَل مِن العَابِد. وَقَالَ المَازِرِيّ: قِيلَ إِنَّ حَتَّى هُنَا بِمَعنَى الوَاو، فَيَكُون التَّقدِير لَا يَمَلّ وَتَمَلٌّونَ، فَنَفَى عَنهُ المَلَل وَأَثبَتَهُ لَهُم. قَالَ: وَقِيلَ حَتَّى بِمَعنَى حِين. وَالأَوَّل أَليَق وَأَجرَى عَلَى القَوَاعِد، وَأَنَّهُ مِن بَاب المُقَابَلَة اللَّفظِيَّة. وَيُؤَيِّدهُ مَا وَقَعَ فِي بَعض طُرُق حَدِيث عَائِشَة بِلَفظِ (( اِكلَفُوا مِن العَمَل مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّه لَا يَمَلّ مِن الثَّوَاب حَتَّى تَمَلٌّوا مِن العَمَل )) لَكِن فِي سَنَده مُوسَى بن عُبَيدَة وَهُوَ ضَعِيف، وَقَالَ اِبن حِبَّان فِي صَحِيحه: هَذَا مِن أَلفَاظ التَّعَارُف الَّتِي لَا يَتَهَيَّأ لِلمُخَاطَبِ أَن يَعرِف القَصد مِمَّا يُخَاطَب بِهِ إِلَّا بِهَا، وَهَذَا رَأيه فِي جَمِيع المُتَشَابِه))
2-وقال النووي: ((. قَوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فَإِنَّ اللَّه لَا يَمَلّ حَتَّى تَمَلٌّوا)) هُوَ بِفَتحِ المِيم فِيهِمَا، وَفِي الرِّوَايَة الأُخرَى: (لَا يَسأَم حَتَّى تَسأَمُوا) وَهُمَا بِمَعنًى قَالَ العُلَمَاء: المَلَل وَالسَّآمَة بِالمَعنَى المُتَعَارَف فِي حَقّنَا مُحَال فِي حَقِّ اللَّه - تعالى -، فَيَجِب تَأوِيل الحَدِيث. قَالَ المُحَقِّقُونَ: مَعنَاهُ لَا يُعَامِلكُم مُعَامَلَة المَالِّ فَيَقطَع عَنكُم ثَوَابه وَجَزَاءَهُ، وَبَسَطَ فَضله وَرَحمَته حَتَّى تَقطَعُوا عَمَلكُم، وَقِيلَ: مَعنَاهُ لَا يَمَلّ إِذَا مَلَلتُم، وَقَالَهُ اِبن قُتَيبَة وَغَيره، وَحَكَاهُ الخَطَّابِيٌّ وَغَيره، وَأَنشَدُوا فِيهِ شِعرًا. قَالُوا: وَمِثَاله قَولهم فِي البَلِيغ: فُلَان لَا يَنقَطِع حَتَّى يَقطَع خُصُومه. مَعنَاهُ: لَا يَنقَطِع إِذَا اِنقَطَعَ خُصُومه، وَلَو كَانَ مَعنَاهُ يَنقَطِع إِذَا اِنقَطَعَ خُصُومه لَم يَكُن لَهُ فَضل عَلَى غَيره))
القول الثالث: وهو قول من أجرى الحديث على ظاهره ولكن قال أنه لا يستفاد منه الملل وإنما هو من باب المزاوجة أو المشاكلة، و أو وضع الفعل موضع الفعل،، أو قالوا بأن الملل هنا بمعنى الانقطاع، اتفق هؤلاء مع أصحاب القول الثاني في أن الملل صفة نقص مطلق ليس بها كمال.
1- قال ابن الأثير)) النهاية في غريب الأثر [جزء 4 - صفحة 790]
((إكلَفُوا من العمل ما تُطِيقُون فإن اللّه لا يَمَلٌّ حتى تَمَلٌّوا)) معناه: أن اللّهَ لا يَمَلٌّ أبداً مَلِلتم أو لم تَمَلٌّوا فجرى مَجرَى قولهم: حتى يَشيبَ الغُرَابُ ويَبيَضَّ الفَأر

وقيل: معناه: أنّ اللّه لا يَطَّرِحُكم حتى تَتركوا العمل (في الهروي زيادة: [له]) وتَزهَدوا في الرغبةِ إليه فَسَمَّى الفِعلَين مَلَلاً وكِلاهُما ليسا بِمَللٍ, كعَادَةِ العَرَبِ في وَضعِ الفِعلِ موضعَ الفِعلِ إذا وَافَقَ معناهُ نحو قولهم:
ثم أضحَوا لَعِبَ الدَّهرُ بهم...وكَذَاكَ الدَّهرُ يُودِي بالرِّجال
فجعل إهلاكَه إيَّاهُم لَعِباً
وقيل: معناه: أن اللّه لا يَقطع عنكم فَضلَه حتى تَمَلٌّوا سُؤالَه.فَسَمَّى فِعل اللّه مَلَلاً على طريق الازدِواج في الكلام كقوله - تعالى -: {وجزاءُ سَيّئةٍ, سَيِّئةٌ مثلُها} وقوله: {فَمن اعتدَى عليكم فاعتَدُوا عليه} وهذا بابٌ واسعٌ في العَربيةِ كثيرٌ في القرآنِ))[النهاية]
2-قال ابن قتيبة: ((قالوا رويتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إكلفوا من العمل ما تطيقون فإن الله - تعالى -لا يمل حتى تملوا فجعلتم الله - تعالى -يمل إذا ملوا والله - تعالى -لا يمل على كل حال ولا يكل
قال أبو محمد ونحن نقول إن التأويل لو كان على ما ذهبوا إليه كان عظيما من الخطأ فاحشا ولكنه أراد فإن الله - سبحانه - لا يمل إذا مللتم ومثال هذا قولك في الكلام هذا الفرس لا يفتر حتى تفتر الخيل لا تريد بذلك أنه يفتر إذا فترت ولو كان هذا هو المراد ما كان له فضل عليها لأنه يفتر معها فأية فضيلة له وإنما تريد أنه لا يفتر إذا افترت وكذلك تقول في الرجل البليغ في كلامه والمكثار الغزير فلان لا ينقطع حتى تنقطع خصومه تريد أنه لا ينقطع إذا انقطعوا ولو أردت أنه ينقطع إذا انقطعوا لم يكن له في هذا القول فضل على غيره ولا وجبت له به به مدحة وقد جاء مثل هذا بعينه في الشعر المنسوب إلى بن أخت تأبط شرا ويقال إنه لخلف الأحمر
صليت مني هذيل بخرق لا يمل الشر حتى يملوا
لم يرد أنه يمل الشر إذا ملوه ولو أراد ذلك ما كان فيه مدح له لأنه بمنزلتهم وإنما أراد أنهم يملون الشر وهو لا يمله))[تأويل مختلف الحديث]

 

وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

 

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply