الاستغفار دعوة الأنبياء - عليهم السلام – ( 1 – 3 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 




توطئة:

ذات يوم كنت أقرأ سورة هود، فاستوقفني أمر غريب تكرر في كثير من القصص الواردة في هذه السورة، من خلال حوارات الأنبياء مع أقوامهم، ألا وهو أمر الأنبياء أقوامهم بالاستغفار، فلفت نظري هذا الأمر، وأردت أن أتابع التأمل فيه والنظر، من خلال هذه السورة، وتالياً في بقية آيات وسور القرآن الكريم، فكان هذا الموضوع.



1- أمر الأنبياء بالاستغفار:

بداية، لا بد أن أنبه إلى أن الأنبياء قبل أن يأمروا أقوامهم بالاستغفار أُمِروا به أولاً، فهذا نبينا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم- أمر بالاستغفار لذنبه وللمؤمنين، حيث يقول الله -تعالى-: \"فَاعلَم أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاستَغفِر لِذَنبِكَ وَلِلمُؤمِنِينَ\" (محمد: من الآية19).

ويمكن – عند تأمل الآية – الخروج ببعض الأمور المهمة:

الأول: إن الأمر بالاستغفار جاء بعد الأمر بالتوحيد، وهذا واضح من الآية، فالتوحيد أولاً والاستغفار ثانياً، وهو واضح الدلالة في أهميته.

الثاني: أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- بالاستغفار.

وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قد أُمر بالاستغفار، فدلالة ذلك واضحة في أهميته.

الثالث: الاستغفار للمؤمنين، فبعد أن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- بالاستغفار لنفسه جاء الأمر بالاستغفار للمؤمنين، وهذا يتضمن أهمية هذا الأمر أيضاً، إذ عطف المؤمنون على أمر طلب من النبي -صلى الله عليه وسلم- فعله، زد على ذلك أن هذه خصيصة للمؤمنين دون غيرهم، وسوف يأتي مزيد بيان لهذه النقطة لاحقاً.

وأمر آخر ألا وهو أن استغفار رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- للمؤمنين يتضمن فيما يتضمن حرصه وحدبه عليهم، نتيجة إيمانهم، وهذا الحرص يدخل فيه محض النصح لهم، ومحبة الخير لهم، وتعليم جاهلهم، وتأليف قلوبهم، وإزالة الأحقاد فيما بينهم، إلى ما هنالك من الأمور التي تكون – إذا حدثت – سبباً في الذنوب والآثام. انظر( تفسير السعدي ص732).

كما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم- بالاستغفار في قوله - تعالى-: \"إِذَا جَاءَ نَصرُ اللَّهِ وَالفَتحُ وَرَأَيتَ النَّاسَ يَدخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفوَاجاً فَسَبِّح بِحَمدِ رَبِّكَ وَاستَغفِرهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً\" (النصر:1-3).

فبعد أن بشر رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم- بالنصر والفتح، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، أمر بشكر الله - تعالى- على ذلك من خلال التسبيح والاستغفار، ولا شك أن هذا العمل، أعني: التسبيح والاستغفار سبب لاستمرار هذه النعمة ودوامها، بل ازديادها والله - تعالى- يقول: \"لَئِن شَكَرتُم لَأَزِيدَنَّكُم\" (إبراهيم من الآية7).

وحين كانت الأمة تستشعر مثل ذلك، كان أمرها في علو، بل كانت في مقدمة الركب.

وحين تخلت عن ذلك في العصور المتأخرة، حصل لها من البلاء ما لا يحصى، المهم أن نبي الله - تعالى- محمد - صلى الله عليه وآله وسلم- أمر بالاستغفار بعد أن بشر ببشارات عديدة.



2- التزام الأنبياء بهذا الأمر:

والاستغفار أيضاً هو فعل الأنبياء وقولهم وهجيّراهم، ولا أدل على ذلك من قوله - تعالى- متحدثاً عن داود - عليه السلام-: \"وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاستَغفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ\" (صّ من الآية24)، فإن داود - عليه السلام- حين حكم في مسألة الخصمين اللذين جاءا يختصمان إليه، ظن أنه ابتلي، فلم يجد ملجأ إلا الله - سبحانه وتعالى- فاستغفر ربه، ولم يفكر بأي شيء آخر سوى الاستغفار والإنابة.

ولما علم الله منه حسن التوبة والاستغفار والإنابة، جاء التعقيب بعد ذلك مباشرة \"فَغَفَرنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلفَى وَحُسنَ مَآبٍ,\" (صّ:25).

وكما لا يخفى فقد أفادت الفاء الترتيب مع التعقيب، فجاءت المغفرة مباشرة، وأصبحت منزلته أعلى من ذي قبل.

والذي يهمني هنا التأكيد على مسألة اللجوء إلى الله واستغفاره حين يفعل المرء شيئاً، يرى أنه أخطأ أو قصر أو تجاوز فيه.

كما أن هذا هو فعل نبينا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- حيث امتثل للأمر بالاستغفار، ففي (صحيح مسلم) عن ثوبان - رضي الله عنه -: \"كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثاً..\" بل كان - عليه السلام- يفتتح صلاة الليل بذلك، فعن عائشة - رضي الله عنها- قالت: \"كان إذا هبّ من الليل كبّر عشراً وحمد عشراً وقال: سبحان الله وبحمده عشراً، وقال: سبحان الملك القدوس عشراً، واستغفر عشراً وهلل عشراً...\" (أخرجه 0أبو داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح).

إن امتثال النبي - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- للأمر بالاستغفار فيه إشارة للأمة من بعده لامتثال هذا العمل في حياتهم، كيف وهم يقارفون الذنوب والآثام، فحاجتهم إليه أعظم.

فإذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو يفتتح طاعة وينصرف من طاعة يستغفر الله، وإذا كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يستغفر الله، فما بالنا نحن الضعفاء؟!



3- الاستغفار خصيصة للمؤمنين:

حين كان إبراهيم - عليه السلام- يحاج أباه ويدعوه إلى التوحيد، كان والده يقابله بأسوأ المقابلة، تأمل هذه المقولة منه: \"لَئِن لَم تَنتَهِ لَأَرجُمَنَّكَ وَاهجُرنِي مَلِيّاً\" (مريم: من الآية46)، ولاحظ أن هذه المقولة جاءت بعد مجموعة من العبارات المتلطفة من قِبَل إبراهيم – عليه السلام-.

وكان إبراهيم - عليه السلام- حين واجهه أبوه بهذه المقولة \"لَأَرجُمَنَّكَ\" لم يقابله بالإساءة أو نحوها، بل أول ما خطر في ذهنه أن يستغفر له \"قَالَ سَلامٌ عَلَيكَ سَأَستَغفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً\" (مريم:47) (راجع الآيات في سورة مريم من الآية 41-47).

إذن فالاستغفار هو أول شيء فكر به إبراهيم - عليه السلام-، وكان هذا الاستغفار طمعاً في هدايته، ولذلك قال - تعالى-: \"وَمَا كَانَ استِغفَارُ إِبرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَن مَوعِدَةٍ, وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوُّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنهُ\" (التوبة: من الآية114).

ومحصل ذلك عدم الاستغفار للمشركين، ويؤكد ذلك قوله - تعالى-: \"مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَستَغفِرُوا لِلمُشرِكِينَ وَلَو كَانُوا أُولِي قُربَى مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحَابُ الجَحِيمِ\" (التوبة:113).

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: \"استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزورها فأذن لي\" (صحيح مسلم ، كتاب الجنائز باب استئذان النبي - صلى الله عليه وسلم- برقم 1621).

وفي البخاري عن سعيد بن المسيب عن أبيه أن أبا طالب لما حضرته الوفاة دخل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل، فقال: \"أي عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب ترغب عن ملة عبد المطلب، فلم يزالا يكلمانه حتى كان آخر شيء كلمهم به: على ملة عبد المطلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: \"لأستغفرن لك ما لم أنهَ عنه\" فنزلت \"مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَستَغفِرُوا لِلمُشرِكِينَ وَلَو كَانُوا أُولِي قُربَى مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحَابُ الجَحِيمِ\" (التوبة:113)، ونزلت \"إِنَّكَ لا تَهدِي مَن أَحبَبتَ\" (القصص: من الآية56) (صحيح البخاري – كتاب المناقب باب قصة أبي طالب رقم 3595).

وعند الحديث عن المنافقين، نقرأ هذه الآية \"استَغفِر لَهُم أَو لا تَستَغفِر لَهُم إِن تَستَغفِر لَهُم سَبعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم\" (التوبة: من الآية80)، ونقرأ عندها أيضاً حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - في البخاري حيث يقول: إن عبد الله بن أبي لما توفي جاء ابنه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم-، فقال: يا رسول الله أعطني قميصك أكفنه فيه، وصل عليه واستغفر له، فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم- قميصه، فقال: آذني أصلي عليه، فآذنه، فلما أراد أن يصلي عليه جذبه عمر - رضي الله عنه- فقال: أليس الله نهاك أن تصلي على المنافقين، فقال: أنا بين خيرتين. قال: \"استَغفِر لَهُم أَو لا تَستَغفِر لَهُم إِن تَستَغفِر لَهُم سَبعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغفِرَ اللَّهُ لَهُم\" (التوبة: من الآية80) فصلى عليه، فنزلت \"وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ, مِنهُم مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُم عَلَى قَبرِهِ\" (التوبة: من الآية84). (البخاري – كتاب الجنائز، باب الكفن في القميص، رقم 190).

وتأسيساً على ذلك يقال: إن الاستغفار ميزة جعلها الله للمؤمنين رخصهم بها دون غيرهم من الناس، واختارهم لها، واختارها لهم، وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يجدر بنا أن نحافظ على هذه النعمة، وأن نستثمرها فيما يفيد ديننا ودنيانا.

وفي مقابل ذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم- يستغفر لإخوانه المؤمنين، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نعى لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- النجاشي صاحب الحبشة يوم الذي مات فيه، فقال: \"استغفروا لأخيكم\" (البخاري – كتاب الجنائز، باب الصلاة على الجنائز بالمصلى والمسجد، رقم 412).

واستغفر للمحلقين ثلاثاً وللمقصرين مرة، والنصوص في ذلك كثيرة.

حتى الصغار!! نعم الصغار كان يستغفر لهم رسول الله - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-، ففي حديث أبي إياس في المسند، قال: \"جاء أبي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو غلام صغير، فمسح رأسه واستغفر له\". (سنن الإمام أحمد، رقم 15661) .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply