سد الذرائع المؤدية إلى الشرك بالله -2-


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 



الحلقة الثانية:

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده...وبعد:



أولاً: تعريف الشرك الأكبر وبيان خطورته:

الشرك الأكبر: هو أن يجعل العبد لله شريكًا وندًا في ربوبيته وإلهيته، وأغلب شرك المشركين وقع في توحيد الإلهية كدعاء غير الله، أو صرف أي لون من ألوان العبادة لغير الله كالذبح والنذر والخوف والرجاء والمحبة، وما إلى ذلك.

والشرك بالله أعظم ذنب عصي الله به، فهو أظلم الظلم، وأكبر الكبائر، وما هلكت الأمم الغابرة وَأُعِدَّت لهم النيران في الآخرة إلا بالشرك، وما أرسل الله الأنبياء والمرسلين وأنزل عليهم الكتب بالحق المبين إلا للتحذير منه وبيان قبحه وشؤمه، ودعوة الناس إلى ضدهº ألا وهو تحقيق التوحيد لله رب العالمين.

والشرك خطره عظيم وضرره على العبد كبير، وذلك للأسباب التالية:

1- لأنه تشبيه للمخلوق العاجز الضعيف بالواحد الأحد المتفرد بالجلال والكمال، ومن أشرك مع الله أحدًا فقد شبهه به، وهذا أعظم الظلم كما في الصحيحين من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: \"أن تجعل لله ندًا وهو خلقك\".

قال النووي: الند: الضد والشبه، وفلان ند فلان ونديده أي: مثله. أما أحكام هذا الحديث، ففيه أن أكبر المعاصي الشرك، وهذا ظاهر لا خفاء فيه. \"شرح النووي على مسلم 280، 81\".

2- أن الله لا يغفر لمشرك مات على الشرك دون توبة، قال الله تعالى: ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) النساء: 48، 117 .

3- أن الله حرم الجنة على كل مشرك، قال تعالى: ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) \"المائدة: 72\".

4 - أن الشرك يحبط جميع الأعمال التي يعملها العبد، وتصير هباءً منثورًا في يوم الدين، قال تعالى: ( ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين (65) بل الله فاعبد وكن من الشاكرين) \"الزمر: 65 66\".



ثانيًا: بعض الآيات والأمثلة المتعلقة بسد الذرائع إلى الشرك الأكبر

بعد الوقوف على خطورة الشرك الأكبر ومفاسده وأضراره أتعرض لذكر نماذج يسيرة من القرآن والسنة جاء بها الشرع الحكيم لقطع علائق الشرك كله وما يؤدي إليه، حتى يتبين لنا كيف أن الإسلام سدَّ الذرائع المؤدية إلى الشرك، وأحكم الحديث في هذا الباب أيما إحكام ليحذر العباد من الشرك ومن الوسائل المفضية إلى حصوله ووقوعه، فمن ذلك:

1 - الآيات الدالة على عبودية عيسى عليه السلام وأنه بشر رسول مخلوق، ليس بإله، أو فيه جزء من الإله، أو أنه ابن الله تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا وذلك سدًا لذريعة الشرك، واتخاذه إلهًا من دون الله أو مع الله، ودفعًا لأي شبهة ترد على الطريقة التي خلق بها، قال تعالى: ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون ) \"آل عمران: 59\".

قال ابن تيمية: \"فعنى بقوله: (مثل عيسى) إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرةº لأنه لم يذكر هنا اسم المسيح، إنما ذكر عيسى فقط، فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال: وخلق منها زوجها، وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، وهذا كله يبين به أن المسيح عبدٌ ليس بإله، وأنه مخلوق كما خلق آدم.

وقال ابن كثير: يقول تعالى: إن مثل عيسى عند الله في قدرة الله تعالى حيث خلقه من غير أب (كمثل آدم) فإن الله تعالى خلقه من غير أب ولا أم، بل خلقه من تراب ثم قال له: كن فيكون، والذي خلق آدم قادر على خلق عيسى بطريق الأولى والأحرى، وإن جاز ادِّعاء النبوة في عيسى بكونه مخلوقًا من غير أب، فجواز ذلك في آدم بالطريقة الأولى، ومعلوم بالاتفاق أن ذلك باطل فدعواها في عيسى أشد بطلانًا وأظهر فسادًا، ولكن الرب عز وجل أراد أن يظهر قدرته حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر، كما خلق البرية من ذكر وأنثى. \"تفسير القرآن العظيم لابن كثير 140\".

ويقرر ربنا في آيات أخرى بشرية عيسى وأمه عليهما السلام وأنهما من جنس البشر، ويسلكان في الطبيعة البشرية ما يسلكه غيرهم، قال تعالى: ( ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون ) \"المائدة: 79 \".

يعني أن عيسى رسول من رسل الله تعالى الذين أُرسلوا لهداية البشرية ودعوتها إلى توحيد الله وعبادته، وأمه صديقة من فضليات النساء، وحقيقتهما مساوية لحقيقة غيرهما من أفراد نوعهما وجنسهما بدليل أنهما كانا يأكلان الطعام، وكل من يأكل الطعام فهو مفتقر إلى ما يقيم بنيته ويمد حياته، إلى جانب أن أكل الطعام يستلزم الحاجة إلى دفع الفضلات، وعليه فلا يمكن أن يكون ربًا خالقًا، ولا ينبغي أن يكون ربًا معبودًا.

قال الشوكاني في تفسيره للآية: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أي: هو مقصور على الرسالة لا يجاوزها كما زعمتم، وجملة قد خلت من قبله الرسل صفة لرسول، أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين خلوا من قبله، وما وقع منه من المعجزات لا يوجب كونه إلهًا، فقد كان لمن قبله من الرسل مثلها، فإن الله أحيا العصا في يد موسى، وخلق آدم من غير أب، فكيف جعلتم إحياء عيسى للموتى ووجوده من غير أب يوجبان كونه إلهًا، فإن كان كما تزعمون أنه إله لذلك، فمن قبله من الرسل الذين جاءوا بمثل ما جاء به آلهة، وأنتم لا تقولون بذلك، وقوله: وأمه صديقة عطف على المسيح، أي: وما أمه إلا صديقة، وذلك لا يستلزم الإلهية لها، بل هي كسائر من يتصف بهذا الوصف من النساء، قوله: كانا يأكلان الطعام، استئناف يتضمن التقرير لما أشير إليه من أنهما كسائر أفراد البشر: أي من كان يأكل الطعام كسائر المخلوقين فليس برب، بل هو عبد مربوب ولدته النساء، فمتى يصلح لأن يكون ربًا. \"فتح القدير: 264\".

وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسيره: أي هذا غايته ومنتهى أمره، أنه من عباد الله المرسلين، الذين ليس لهم من الأمر، ولا من التشريع إلا ما أرسلهم به الله، وهو من جنس الرسل قبله، لا مزية له عليهم تخرجه عن البشرية إلى مرتبة الربوبية، \"وأمه\" مريم \"صديقة\" أي هذا أيضًا غايتها أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء، فإذا كان عيسى عليه السلام من جنس الأنبياء والرسل من قبله، وأمه صديقة، فلأي شيء اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟ وقوله: كانا يأكلان الطعام دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب، فلو كانا إلهين لاستغنيا عن الطعام والشراب ولم يحتاجا إلى شيء، فإن الإله هو الغني الحميد\". \"تيسير الكريم الرحمن

وقال تعالى: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم ) \"المائدة: 72\"، وأن مريم ولدت إلهًا، ولذلك رد الله عليهم هذا البهتان وعليه فكيف يدَّعون الإلهية لمن يعترف على نفسه بأنه عبد مثلهم كما أن دلائل الحدوث ظاهرة عليه. \"انظر الدين الخالص لصديق حسن خان 125\".

وقال تعالى: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب (116) ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد) \"المائدة: 116، 117\".

قال القاسمي في تفسيره: \"ذكر الله تعالى أنه يعدد نعمه على عيسى بحضرة الرسل واحدة فواحدة إشعارًا بعبوديته، فإن كل واحدة من تلك النعم المعدودة عليه، تدل على أنه عبد وليس بإله ثم أتبع ذلك باستفهامه لينطق بإقراره عليه السلام على رؤوس الأشهاد بالعبودية، وأمره لهم بعبادة الله عز وجل إكذابًا لهم في افترائهم عليه، وتثبيتًا للحجة على قومه، فهذا سر سؤاله تعالى له، مع علمه بأنه لم يقل ذلك، وكل ذلك لتنبيه النصارى الذين كانوا في وقت نزول الآية ومن تأثر بهم على قبح مقالتهم وركاكة مذهبهم واعتقادهم\". \"محاسن التأويل\".

ومثل ذلك ما جاء في قوله تعالى: قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا، إلى قوله: وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم.

قال ابن كثير في تفسيره: ومما أمر عيسى به قومه وهو في مهده: أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربهم وربه وأمرهم بعبادته فقال: فاعبدوه هذا صراط مستقيم أي: هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم، أي: قويم، فمن اتبعه هدي، ومن خالفه ضل وغوى. \"تفسير ابن كثير \".

وعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: \"من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل\". \"أخرجه البخاري 6474، ومسلم 158، 59، وأحمد في مسنده \".
 
لقراءة الكتاب كاملًا: اضغط هنا

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply