هل كان تحريم العلماء للبنوك التقليدية سببا في تأخر قيام البنوك الإسلامية


بسم الله الرحمن الرحيم 

\"...في هذا المقال يناقش الكاتب، ما أثاره المحامي السعودي عبد العزيز القاسم، في قناة العربية أثناء مقابلة معه في برنامج (إضاءات)، حيث طرح (القاسم) جملةً من المغالطات التاريخية والفكرية، ومنها تحميل العلماء والفقهاء في السعودية تأخر قيام البنوك الإسلامية، وذلك بسبب فتاوى التحريم للتعامل مع البنوك حينذاك، وقد فنَّد الباحث هذا الشبهة، وبين ما فيها من المغالطات التاريخية ... \"

يقول عبد العزيز القاسم: (في الستينات كان الفقهاء يقولون: البنوك كلها حرام، وبهذا الإجمال تأخرت البنوك الإسلامية في السعودية حوالي 25 سنة، في بلاد أخرى سمح الفقهاء بتفصيل معنى البنوك، وبالفعل تطور مفهوم البنك التعاوني ثم البنك الإسلامي المتعامل مع السلع ثم تطور لدينا الآن قطاع كبير وهو من أسرع القطاعات نمواً في العالم الإسلامي وهو المصرفية الإسلامية، الخيار الأول اللي هو حجز أنواع البنوك ومصطلح البنوك حجزا احتياطيا تحفظيا أدى إلى سيادة البنوك، لما انفتح المجال الفقهي لمناقشة المعاملات البنكية مناقشة موضوعية وإيجاد المخارج والحلول التي تلبي الاحتياجات تحول جزء كبير من النظام المصرفي سواء في المملكة أو في بلدان أخرى إلى أن يكون متوافقاً مع الشريعة هذا نموذج).

في هذا الكلام من الأستاذ (القاسم) مغالطة تاريخية ومنطق معكوس وهو: (أن تحريم العلماء لكلمة \"بنك\" أو النظام البنكي كان سبباً في إنشاء البنوك الربوية وتأخر إنشاء البنوك الإسلامية)، وهذا الكلام مخالف للواقع وللحقيقة التاريخية ويتبين من عدة أمور:

أولاً: أن العلماء في هذه البلاد كانوا متمسكين بالدعوة إلى تطبيق الشريعة ورافضين أن تقام أنظمة تخالف الشريعة، وداعين إلى اقتصاد إسلامي، ولم يكن همهم ذات النظام أو شكل النظام أو كلمة \"بنك\"، بل كانوا يحرصون على المضمون وهذا الأمر هو الغالب على ما يسمى المؤسسة الدينية، ولهذا جاء نظام مؤسسة النقد منسجماً مع هذه الرغبة ومتمشياً مع هذا المطلب وهو تحريم (الفائدة الربوية) كما في نظام المؤسسة الصادر بتاريخ 25 رجب 1371هـ حيث قرار مجلس الوزراء رقم 13 الصادر بتاريخ 2جمادي الأولى 1377هـ:

المادة الثانية: لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي دفع أو قبض فائدةº إنما يجوز لها فقط فرض رسوم لقاء الخدمات التي تؤديها للجمهور أو للحكومة وذلك لسد نفقات المؤسسة (1). وينص في المادة السادسة منه على أنه: (لا يجوز لمؤسسة النقد العربي السعودي مباشرة أي عمل يتعارض مع قواعد الشريعة الإسلامية السمحاء فلا يجوز لها دفع أو قبض فائدة على الأعمال) (2). وتقييدي لهذا الأمر بالغالب من علماء هذه البلادº حتى لا يأتي كاتب أو متكلم ويأتي بشخص غير معتبر من هذه المنظومة، أو معتبر لكن اجتهاده لا يمثل الغالبº فيعلن أمام الملأ بسقوط هذا الغالب وهذه القاعدة بهذا الفرد وبذاك الاجتهاد الفردي.

ومما يبين ويوضح أن علماء هذه البلاد لا يهمهم الشكل أو المصطلح بحد ذاته فلا مشاحة في الاصطلاح أو في النظام عندهم ما دام أنه لا يؤثر في المضمون، وبشرطية عدم وجود آثار جانبية على المسلم الفرد أو على المجتمع بأكمله من جراء هذا المصطلح أو ذاك النظام، يوضح ذلك قبولهم نظام القضاء الغربي كآلية وهيكل على هيئة مواد.

يقول الشيخ صالح الحصين في ذلك: \"نظام القضاء في المملكة هو نفسه يرجع في مصدره التاريخي إلى الفقه الغربي وقد اقتبس من بعض التقنينات العربية المقتبسة بدورها من التقنيات الأوروبية، وقبل صدور هذا النظام عرض على هيئة كبار العلماء للمناقشة وكان حين عرضه على الهيئة مسبوقاً في أذهان عدد كبير من الأعضاء بجريدة طويلة دونها أحد العلماء من خارج المجلس تنتقد النظام في الجملة وتناقشه مادة مادة حاكمة على كثير من مواده بأنها مخالفة للشريعة أو غير موافقة لها.

وقد درست الهيئة النظام وتداولت الرأي حوله مادة مادة، وانتهت إلى الموافقة عليه دون تغيير عدا مادة واحدة جرى تعديلها صياغة وبقي مضمونها من دون تعديل (3).

ثانياً: أن سبب عدم إنشاء بنوك إسلامية ليس تحريم العلماء لكلمة (بنك) أو تحريمهم (للنظام البنكي)º بل العلماء كانوا منادين بإنشاء بنوك إسلامية وإن كانوا يسمونها أحيانا بتسميات أخرى (كالمصارف الإسلامية)، ولو راجعنا تاريخ إنشاء البنوك الإسلامية في المملكة لتبين لنا أن القول بأن العلماء كانوا عقبة أمام إنشاء هذا النوع من البنوك \" المصارف \" فيه مغالطة تاريخية.

فلو أخذنا شهادة شخص خبير في هذا المجال وصاحب أول تجربة سعودية، والشهادة هذه ليست مني - ولست متخصصاً في هذا المجال - ولكنها شهادة متخصص وخبير وصاحب تجربة كبيرة أيضاً وهو رجل الأعمال (صالح كامل)، فقد شهد بأنَّ الأمير محمد الفيصل هو رائد فكرة البنوك أو المصارف الإسلامية حيث قال: \"قولكم بأن صالح كامل هو رائد الاقتصاد الإسلامي فهذا افتراء على الحقيقة وللأمانة التاريخية فأول من بدأ فكرة البنوك الإسلامية هو الأمير محمد الفيصل وكنت أنا صالح كامل في ركابه، وللتاريخ يجب أن تثبت هذه الحقائق... صحيح أنا واصلت المسيرة ببعض الجهود المتعلقة في ذلك المجال، ولكن يظل فضل الريادة للأمير محمد الفيصل\" (4).

هذه الشهادة قد تكون من شخص ممارس، لكن هناك شهادة من شخص منظِّر وهو الشيخ عبد الله بن منيع حيث شهد لمحمد الفيصل بأنه أول من خاض تجربة المصارف الإسلامية أو الاستثمار الإسلامي من خلال البنوك حيث قال: \"من آثار دعوة الملك فيصل إلى التضامن الإسلامي أن تبنى ابنه البار سمو الأمير محمد الفيصل اتجاهاً جاداً نحو الاستثمار الإسلامي\" (5).

فإذا رجعنا إلى شهادة محمد الفيصل في هذا المجال وحكايته لتاريخ فكرة إنشاء المصارف أو البنوك الإسلامية يتضح لنا من هو الرافض لفكرة البنك الإسلامي أو غير المقتنع بجدواها أو صدقها أو نجاحها؟ ومن هو الداعم والمساهم لفكرة البنوك أو المصارف الإسلامية؟

فمن خلال شهادة الأمير محمد الفيصل، يتضح لنا أن المعارضة والرفض للبنوك الإسلامية جاءت من عدة توجهات و جهات، وهي كالتالي:

1- الاتجاه العلماني التغريبي:

يقول محمد الفيصل: \" في الوقت الذي ظهرت فيه فكرة البنوك الإسلامية في نهاية الستينات وبداية السبعينات الميلادية كان هنالك زخم كبير في الاتجاه العلماني التغريبيº فاجتمع سوء الغرض والعداء لكل ما هو إسلامي من الأعداء في الداخل والخارج مع الجهل بالإسلام من جانب المسلمين\" (6).

 

2- صندوق النقد الدولي:

يقول أحمد صلاح جمجوم متحدثاً عن مشروع وفكرة محمد الفيصل في البنوك الإسلامية: \"كانت هناك ضغوطاً من صندوق النقد الدولي ضد فكرة المشروع\" (7).

 

3- البنوك الربوية وممانعة القوى الغربية:

يقول محمد الفيصل: \"لا ننسى معارضة البنوك الربوية وممانعة القوى الغربية التي كانت تدرك أبعاد الفكرة وتأثيرها على الاقتصاد الدولي بتعظيم الدور الإسلامي وتفعيل الاقتصاديات الإسلامية بشكل أكثر استقلالية عن الاقتصاد الربوي الذي يسيطر الغرب عليه\" (8).

 

4- صحيفة الشرق الأوسط ورئيس تحريرها الأستاذ جهاد الخازن:

يقول محمد الفيصل: \"هاجمتنا جريدة الشرق الأوسط ورئيس تحريرها جهاد الخازن وأطلقوا علينا اسماً جديداً هو \" الإسلاربوية\" (9).

5- اللجنة المكونة من الأمير مساعد بن عبد الرحمن وأنور علي ومحمد أبالخيل وهشام ناظر:

يقول محمد الفيصل تحت عنوان (اللجنة التي رفضت مشروع المصرف): \"وأخيراً شكلت لجنة من الأمير مساعد، وأنا، وأنور علي، وهشام ناظر، لدراسة المشروع، فعقدت اللجنة اجتماعاً واحداً فقط، وقالوا لي فيه أنهم غير موافقين، وقال لي محمد أبا الخيل بالنص: (ما عندي استعداد أسمح لك بالتلاعب باسم الإسلام!!) ثم طلبت نعمل محضراً للاجتماع فرفضوا وخرجوا\" (10).

6- الدكتور إبراهيم الناصر في بحثه: (موقف الشريعة الإسلامية من المصارف):

فمن آراءه في البحث والتي تبين موقفه من المصارف أو البنوك الإسلامية فهو يعتبر من المساهمين في عدم أسلمة البنوك ومن الداعمين نظرياً في إضفاء الشرعية على البنوك التقليدية، فعلى هذا جعلته خامس خمسة، للمواجهين لأسلمة البنوك أو إنشائها أو فكرتها. يقول الدكتور الناصر: \"لن تكون هناك قوة إسلامية بدون اقتصاد، ولن تكون هناك قوة اقتصادية بدون بنوك، ولن تكون بنوك بلا فوائد\"، وقال في خاتمة بحثه: \"نستخلص ضرورة الترخيص بالقرض بفائدة... بذلك تتحقق أهداف الفائدة العامة خارج نطاق أي تحريم أو خطر قانوني في استخدام مدخرات المواطنين في تعزيز وهوية الاقتصاد الوطنيº فالعائد سيصبح ثابتاً ومضموناً\" (11).

 

7- بعض المسئولين في مجلس الوزراء:

حدثني الأستاذ عبد الرحمن بن عبد الله بن عقيل - عضو مؤسس لشركة الراجحي المصرفية - قال: \"في عام 144هـ عرض مشروع شركة الراجحي وفكرة توجهها إلى النظام الإسلامي على مجلس الوزراء، فمكث ما يقارب أربع سنوات لم يوافق عليهº والسبب أن هناك في المجلس من لا يرغب فكرة أسلمة البنوك، وبعد أربع سنوات وافقوا عليه\".

 

8- بعض المسئولين في وزارة المالية ومؤسسة النقد:

حدثني الأستاذ عبد الرحمن بن عقيل قال: \"كان هناك فكرة تأسيس (بنك إسلامي)، فقد اجتمعنا عدة مرات أنا والشيخ صالح الحصين والشيخ محمد الجميح والأستاذين عبد الله الغليقة وصلاح أبا الخيل، وكانت الاجتماعات في مكتب الجميح في الملز، واجتمعنا بأحد المسئولين في المالية وطلب أن نرفع له خطاباً في ذلك لكن لم يرد على الخطاب ولم يتجاوب معه\". يقول أحمد صلاح جمجوم: \"لكن مشروع الأمير محمد ووجِهَ بمعارضة شديدة من (مؤسسة النقد) و (وزارة المالية) التي كانت عضواً في اللجنة السعودية الأمريكية وكان موقف اللجنة نفسها معارضاً بنفس القدر، كما كانت هناك ضغوط من صندوق النقد الدولي ضد فكرة المشروع\" (12).

وقال أيضا: \"علمتُ أن المعاملة - معاملة مشروع محمد الفيصل - في مؤسسة النقدº فذهبت إلى محافظ المؤسسة وكان وقتها عبد العزيز القريشي وقلتُ له: علمتُ أن الموضوع أحيل إليك وكل ما أطلبه منك هو أن تقدم تقريرك من الناحية المالية الصرفة فحسب، بغض النظر عن كون المشروع إسلامياً، وألا تُدخِل الجوانب السياسية أو الحسابات الدولية في التقرير. فاعتذر لأنني قلت له بأن رأيه إذا كان إيجابياً سوف يكون دليلي الذي سأجادل به من أجل الترخيص للمشروع\" (13).

فيستفاد من هذا التاريخ، والتاريخ الذي دونه صاحب أول تجربة لإنشاء مصرف إسلامي، وكما مرَّ من قبل شهادة رجل الأعمال صالح كامل والشيخ عبد الله بن منيع فيه، وكلاهما متخصص في هذا المجال، فشهادة هؤلاء مقدمة وراجحة على من لم يدرك ذاك التاريخ، بل إن (القاسم) لم يولد في ذاك الزمن.

ونلاحظ من خلال هذا التاريخ الذي دونه وحكاه الأمير محمد الفيصل أنه لم يذكر من الرافضين لفكرة البنوك الإسلامية علماء الشريعة في السعودية أو لجنة شرعية، مع أنه اهتم بذكر اللجان التي عرضت عليها الفكرة وصرح برأيها.

 

يقول محمد الفيصل: \"تقدمت بطلب للملك فيصل بإقامة بنك على أسس تجارية عام 1969م فحولني للأمير ساعد بن عبد الرحمن وزير المالية وقتها الذي حولني بدوره الى هيئة كبار العلماء لأدرس معهم الأمر، ولم أطلع معهم بشيء، فلم يكن بينهم متخصص أناقش معه المشروع\" (14).

ومحمد الفيصل هنا يحكي عن حالته مع العلماء، فلم يذكر لهم رأي ولا قول في فكرته فلا ينسب لساكتٍ, قول، مع أنه حريص كما قلت على تدوين ما قيل في الاجتماع حتى لو اقتضى الأمر باللهجة العامية كما حصل مع اللجنة الأخرى والتي انتهت بالرفض.

 

ثالثاً: أن بعض العلماء كانوا مؤيدين لهذه الفكرة ومتحمسين لها في زمن الرفض، ويدل على ذلك ما قاله أيضاً محمد الفيصل متحدثاً عن تأسيس اتحاد البنوك الإسلامية، فيقول: \"كان أول اجتماع لنا في مكة، وتبرع لنا الشيخ محمد بن علي الحركان، بفيلا يملكها كمركز رئيسي، وحضر حفل الافتتاح أمير المنطقة فواز بن عبد العزيز والشيخ عبد العزيز ابن باز، وأثناء إلقاء الشيخ ابن باز كلمته جاءنا أمر بإلغاء الحفل، فشكرت الحضور وأنهيت الحفل\" (15).

يســتفاد من هذه الحادثة دعم ومساهمة بعض العلماءº فالشيخ محمد الحركان كان من العلماء البارزين المعروفين ومنحهم فيلا، والشيخ عبد العزيز ابن باز خطب فيهم فالأمر لا يحتاج إلى تعليق أو دليل على وقفتهم مع المشروع وبجانب الفكرة.

 

رابعاً:

وهو رأي مجلس هيئة كبار العلماء الذي حكاه عنهم الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - حيث قال: \"لقد درس مجلس هيئة كبار العلماء هذا الموضوع ـ الربا في البنوك ـ وتبادل فيه الرأي مع ولي الأمر، وبينّا له أنه لا يجوز الإبقاء على هذه البنوك الربوية، وأن الواجب إيجاد بنوك إسلامية تقي الناس من الربا ويضعون بها أموالهم، واستجاب وفقه الله ووعد بإيجاد مؤسسة عظيمة واسعة تكون فرجاً للناس من هذا الربا، وتوجد بها أموال المسلمين وتشغيل أموال المسلمين بالطرق الشرعية والطرق المباحة، وسوف ينتهي أمرها قريباً إن شاء الله وذلك في مصرف الراجحي المعروفº فإنَّ مصرف الراجحي قد تأسس ليكون بنكا إسلاميا، وأن توضع فيه أموال المسلمين المساهمين وأن تستعمل ما شرع الله من المعاملات الإسلامية وأن يبتعد عما حرمه الله وسوف - إن شاء الله -، وسيفتح قريباً ويستغنى به عما حرم الله من هذه المعاملات الربوية، وسوف يقضي على هذه المعاملات المحرمة في هذه البلاد، ونرجوا أن يقضى عليها في جميع البلاد الإسلامية ويرجع الناس للعقل والصواب، فإن دين الإسلام فيه كل خير لهم وفيه كل سعادة وفيه كل عاقبة حميدة في الدنيا والآخرة\" (16).

 

خامساً:

صدر عن مجلس هيئة كبار العلماء فتوى يتضح فيها دعم ومساهمة العلماء للعمل المصرفي والنظام البنكي وهذا نصها:

\"من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ الكريم نائب رئيس مجلس الإدارة التنفيذي للشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي (سلمه الله)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. وبعد، فأشير إلى الاستفتاء المقدم إلى مجلس هيئة كبار العلماء من الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي عن الأعمال التي تقوم بها الشركة وأفيدكم أن المجلس درس المضاربات السبع التي وردت في المذكرة المقدمة منكم أثناء انعقاده في الدورة الاستثنائية الخامسة واتخذ فيها القرار رقم 8 بتاريخ 1/3/141هـ ونصه ما يلي:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.. وبعد: ففي الدورة الاستثنائية الخامسة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة بمدينة الرياض ابتداءً من العشرين من شهر صفر 141هـ حتى غرة ربيع الأول منه اطلع المجلس على المذكرة الصادرة من الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي في الحادي عشر من ربيع الأول عام 14هـ المرافـقة لهذا القرار واستعرض المضاربات التالية مما تقوم به الشركة:

1- المضاربة الإسلامية الأولى ومدتها سنة من يناير 1979م حتى 198م.

2- المضاربة الإسلامية الأولى ومدتها ثلاث سنوات من يناير 1979م حتى 1982م.

3- المضاربة الإسلامية الثانية ومدتها خمس سنوات من يونيو 1979م إلى يونيو 1984م.

4- المضاربة الإسلامية الثالثة للاستثمار والادخار والتكافل بين المسلمين ومدتها عشرون سنة من أكتوبر 1979م على أكتوبر 1999م.

5- المضاربة الإسلامية الرابعة للاستثمار الجاري ومدتها خمسون سنة تبدأ من يناير 198م.

6- المضاربة الربع سنوية للمؤسسات المالية الإسلامية يونيو 1979م.

وبعد دراسة هذه المضاربات ومناقشتها وتداول الرأي فيها رأى المجلس ما يلي:

1- يوصي المجلس المسلمين عامة وأهل الحل والعقد منهم خاصة أن يعملوا ما في وسعهم لحماية مجتمعاتهم من الربا والتعرض لمحاربة الله ورسوله. وأن يبادروا إلى إقامة البنوك والمصارف الإسلامية وتنشيطها حتى يتمكن الناس من إيداع أموالهم واستثماراتها بالطرق التي أباحها الله ويتقلص نشاط شركات التأمين والبنوك الربوية الموجودة الآن بين أظهر المسلمين.

2- يقرر المجلس بالأكثرية أنه لم يظهر له في هذه المضاربات ما يخالف الشريعة الإسلامية. والله ولي التوفيق.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه. فآمل الإحاطة.. وفقكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته،، الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد\" (17).

وهذه الفتوى تدل بوضوح على أنه للعلماء في السعودية موقف من (البنوك) من ناحية الشكل أو النظام البنكيº بل موقفهم ينصب على المضمون وهو نوع التعامل: هل هو بالربا أم بالبيع الحلال؟

 

سادساً:

أن بعض العلماء أفتى بجواز العمل في البنوك الربوية وأخذ الراتب منه بشرط ألا يكون عمله يدخل في مسيرة الأعمال الربوية وألا يكون الراتب من الربا يقيناً، ومن هؤلاء العلماء الشيخ العلامة عبد الله بن حميد (رئيس المجلس الأعلى للقضاء وعضو هيئة كبار العلماء) - رحمه الله -، فقد سئل السؤال التالي:

أتيحت لي فرصة عمل في بنك بأن أعمل على الآلة الكاتبة وهذا البنك يتعامل في الربا ويتقاضاه، فما حكم عملي به؟ وما حكم ما أتقاضاه مع العلم بأني لا أكتب شيئاً يمس هذا الربا؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.

 

فكان جواب الشيخ:

\"نعم. لا بأس بذلك مادام أن راتبك لم يكن من الربا عيناً، بل هو مختلط، يحتمل أن يكون من الربا ويحتمل أن لا يكون من الرباº فما دام أن الأمر مشتبه فيجوز لك أخذه وخاصة أنك لا تساعد على كتابة الربا ولا تكتب النقود المشتبه بها للربا. فقد جاء في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لعن الله آكل الربا وموكله وكتابه وشاهديه)، وفي الحديث الآخر قال - صلى الله عليه وسلم -: (الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه)، فالربا أمره عظيم وشأنه كبير، وقد قال ابن دقيق العيد: \"إن أكلة الربا تكون خاتمتهم سيئة\" والعياذ بالله كما هو مشاهد. والحاصل أنه إذا اشتبه الأمر عليك ودفع لك راتبك ولا تدري هل هو عين الربا أو من غيره فلا بأس بأخذه كما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وإذا كنت لا تكتب الربا ولا تساعد في كتابته وإنما تكتب أشياء أخرى كما هو ظاهر سؤالك فلا حرج إن شاء الله عليك. والله أعلم\" انتهى (18).

فيستفاد من هذه الفتوى أن بعض هؤلاء العلماء أجازوا العمل في البنوك الربوية بشرطه المذكور، فما بال البنك غير الربوي، بالطبع سيكون دعمهم ومساهمتهم له أكبرº فالعلماء لم يكن لهم موقفاً من (البنك) من ناحية التسمية أو النظام، وإنما الرفض على المضمون وهو المساهمة في المعاملة الربوية.

وقبل أن أتجاوز التاريخ إلى المنطق أنبه إلى قضية تاريخية أخطأ فيها الأستاذ القاسم وهو قوله: \"كان الفقهاء - يقصد في السعودية - يقولون: البنوك كلها حرام وبهذا الإجمال تأخرت البنوك الإسلامية في السعودية حوالي 25 سنة، وفي بلاد أخرى سمح الفقهاء بتفصيل معنى البنوك، وبالفعل تطور مفهوم البنك التعاوني ثم البنك الإسلامي المتعامل في السلع... \".

في الحقيقة إن التاريخ لا يدعم هذه الشهادةº بل قد يحكم بأنها شهادة غير موثقة وليست من جهة متخصصةº فالمعلومة صحيحة فقد نشأ نظام البنك الإسلامي في خارج السعودية قبل السعودية. لكن ما هو تفسير هذا النشوء؟ وهل الموقف الفقهي في البلاد الأخرى - والذي يسميه القاسم (تفصيلي) في عمل البنوك - هو الذي ساهم في نشوئها؟

أم أن هناك دوافع أخرى لا تمت للموقف الفقهي بأي صلة هي التي ساهمت في ذلك النشوء. وفي الحقيقة أنه لا أنا ولا هو أدركنا تلك الأيام بحيث نشهد على هذا التاريخ، لكن نترك من أدرك تلك الفترة وعاين وجرب أن يشهد ويحكم.

يقول محمد الفيصل: \"ولما جاء أنور السادات وأراد أن يضرب الناصريين الاشتراكيين وجد في الإسلاميين مؤيداً له، وفي الأثناء تقدمنا بطلب لثلاث جهات بتأسيس بنك إسلامي: المملكة، ومصر، والسودان، بعد أن عملنا نظاماً مفصلاً للمشروع، وجاءت الموافقة من حكومة الرئيس السادات، وحكومة الرئيس جعفر النميري، وكان يمر بظروف مشابهة ويعيش مزاجاً إسلامياً وقتها\" (19).

ويؤكد هذه الحقيقة ويوضحها أحمد صلاح جمجوم بقوله: \"... أما الأمير محمد فإنَّ نشاطه لم يتوقف، بل ازداد إصراره على تنفيذ المشروع رغم العقبات. وقام - حفظه الله - بعمل اتصالات على أعلى المستويات في مصر والسودان وتمكن من الفوز بموافقة الرئيسين أنور السادات وجعفر نميري في العام نفسه، ولأسباب سياسية مواتية فالرئيس المصري كان متحالفاً مع الإسلاميين في ذلك الوقت ضد القوى اليسارية، والرئيس السوداني تخاصم مع التيار الشيوعي الذي جاء به إلى الحكم واستعان عليهم بالإسلاميين. وهكذا فقد صدرت الموافقة من السلطات الرسمية في البلدين عام 1979، وبدأنا على الفور في إنشاء بنكين الأول في الخرطوم تحت اسم بنك فيصل السوداني والثاني في القاهرة باسم بنك فيصل المصري\" (20).

ومما يبين أن الأمر لم يكن عن نظر فقهي، أو اعتراض بعض الجهات العلمية في بعض هذه البلدان التي نشأت فيهاº يقول الأمير محمد الفيصل: \"هاجمتنا مجلة \"الدعوة\" صوت حزب الأخوان المصري متصورين أنها لعبة سعودية أمريكية خصوصاً أن البنك لم يرخص له في المملكة\" (21).

ومثل هذا الكلام قاله الأستاذ أحمد صلاح جمجوم، ومما يبين حقيقة المقاصد التي كانت وراء هذا النشوء عند المنشئين، المآلات التي كادت تعصف بالفكرةº يقول الأمير محمد الفيصل: \"ومن التحديات التي واجهتنا أن رئيس الوزراء المصري الراحل محي الدين أعدَّ مذكرة كاد أن يوقعها بتأميم بنك فيصل المصري، ولكن المنية عاجلته بأزمة قلبية، ومن المصادفات أن الرئيس جعفر نميري كاد يعتمد قراراً مماثلاً في السودان إلا أن الانقلاب العسكري الذي أخرجه من السلطة أوقف ذلك وكانت هناك أزمة مرت بسلام والحمد لله مع حكومة مصرية لاحقة\" (22).

أما المنطق المعكوس في رأي الأستاذ عبد العزيز القاسم قوله: \"بأن تحريم كلمة بنك أو النظام البنكي ساهم في إنشاء البنوك الربوية\"!!.

فهذا كلام غريب واستنتاج أغربº فالعلماء لم يصدروا التحريم إلا على واقع مشاهد سبق فتواهم. وفتاويهم تتكلم على نظام قائم ويتعامل به ومتداول. فكيف تعكس القضية ويقال أن العلماء حرموا كلمة بنك أو النظام البنكي قبل أن يفد إليهم وقبل أن يعرفوا مبادئ وأساسيات ذاك النظام؟!، وأن تحريمهم هو الذي ساهم في إنشاء النظام البنكي المحرم؟!.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى إن فتاوى التحريم هي التي ساهمت في تقويض النظام البنكي المحرم وأفسحت المجال ودعمت وساهمت في إنجاح النظام البنكي الإسلامي. وكما مر معنا من كلام الشيخ عبد العزيز بن باز - حرمه الله - أن إنشاء البنوك الإسلامية في هذه البلاد كان بدعم واقتراح ومساهمة أصحاب فتاوى التحريم.

أما مفعول فتاوى التحريم في عملية إنجاح البنك الإسلامي، فقد حدثني المهندس منصور الغليقة نائب مدير عام شركة الراجحي بأن من أكبر عوامل إنجاح شركة الراجحي المصرفية هو قيام ما يقارب الخمسمائة ألف موظف من موظفي الحكومة تحويل رواتبهم إلى شركة الراجحي من دون البنوك التقليدية. هذا منذ عشر سنوات.

والمعروف أن هؤلاء المحولين لم يقوموا بذلك للخدمة المتميزة التي يوجد مثيلاتها في البنوك الأخرى المحول عنها، بل قد تكون أحيانا الأفضل في الامتيازات والخدمات وغير ذلك مما يحتاجه العميل. لكن سبب التحويل هو تقوى من الله وإبراء للنفس وطلب المال الحلال ومن باب التعاون على البر والتقوى. وهذه الفضائل قامت بالتعبئة القوية من هؤلاء العلماء تجاه البنك الربوي وذلك بالفتاوى والبيانات المحرمة والمنفرة من الربا.

يقول الشيخ صالح الحصين: \"لا شك أنَّ المصارف الإسلامية نجحت في الجملة (بالنسبة للمصارف الربوية) فهي لا تشكو من شح الودائع تحت الطلب، ولكن العامل الذي ساعدها في ذلك عامل خارجي هو التفضيل العاطفي الناشئ لدى المودعين عن كراهية الربا ومؤسساته\" (23).

وينقل الدكتور محمد عمر شابرا عن تقرير أعدته (د. تراوت واهلرز شارف) لمركز التنمية التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، يؤكد التقرير أن المصارف الإسلامية \"اجتذبت حتى الآن قطاعات جديدة من المسلمين، كانت لأسباب دينية خارج الإدارات المالية\" (24).

وذلك ما شهد به الرئيس التنفيذي لبنك (آركابيتا) في البحرين عاطف أحمد عبد الملك في حوار معه إذ يقول: \"... وأنت كمستثمر تحكم رأيك، فقبل 3 سنة لما بدأت الفكرة (يقصد فكرة البنوك الإسلامية) كانت بسيطة ليست من قبل رجال أعمال أو رجال بنوك، لكن بسبب الوازع الديني، وكان هناك تشكيك في تلك الفترة، انظر إلى البنوك السعودية الآن يطورون منتجاتهم وأصبحت جميع منتجاتهم إسلامية، كذلك في الإمارات والكويت وقطر، فهذه لم تأت من فراغ، لكن من الاقتناع في الطلب) (25).

ومن المعلوم من تاريخ التحولات التي طرأت على البنوك التقليدية ذات النظام الربوي إلى النظام الشرعي، والتي مازالت تشهد تحولاً أكبر في ذلك، من المعلوم من هذا التاريخ أن أكبر عوامل وأسباب هذه التحولات نجاح التجربة الأولى للبنك الإسلامي، وسبب نجاح هذه التجربة كما مر معنا هو دعم الناس لها وتحويل أموالهم واستثماراتهم تجاههاº وسبب هذا التحويل من المستثمرين والمودعين هو البعد عن المال الحرام وطلب الحلال، وهذا البعد سببه تحريم وتشديد العلماء على العملية الربوية. فكيف يأتي (القاسم) ويعكس هذه المعادلة ويقلب التاريخ ويتجنى على الحقيقة!!.

 

ـــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) الحاج علي، محمد سعيد، \"مؤسسة النقد العربي السعودي: إنشاؤها، مسيرتها، إنجازاتها\"، الرياض 1991، ص 271.

(2) نفس المصدر السابق، ص273.

(3) منتدى الفيصل، مجلة الفيصل العدد 246 ص 26.

(4) صحيفة المدينة، ملحق الرسالة، الجمعة 28شوال 1425هـ.

(5) صحيفة الجزيرة، اقتصاد، 29صفر 1424هـ.

(6) باطرفيº خالد محمد: الأمير محمد الفيصل يتذكر: الرياض 1425هـ، ص 253.

(7) باطرفي، خالد محمد: أحمد صلاح جمجوم يتذكر: الرياض 1425، ص 19.

(8) باطرفيº خالد محمد: الأمير محمد الفيصل يتذكر: الرياض 1425هـ. ص 253.

(9) نفس المصدر، ص254.

(10) نفس المصدر، ص 248.

(11) عن رد الشيخ صالح الحصين على الدكتور الناصر، ص129 مجلة البحوث الإسلامية، العدد 23، 148- 149هـ.

(12) باطرفي، خالد محمد: أحمد صلاح جمجوم يتذكر: الرياض 1425، ص 19.

(13) المرجع السابق، ص 11.

(14) باطرفيº خالد محمد: الأمير محمد الفيصل يتذكر: الرياض 1425هـ، ص 248.

(15) باطرفي، خالد محمد: أحمد صلاح جمجوم يتذكر: الرياض 1425، ص 26.

(16) شريط صوتي، ندوة الجامع الكبير.

(17) يعقوب، موسى، محمد الفيصل آل سعود.. ملامح من تجربته الاقتصادية الإسلامية، الدار السعودية للنشر والتوزيع، ص 32-33.

(18) القاسم، عمر بن محمد بن عبد الرحمن، فتاوى سماحة الشيخ عبد الله بن حميد، الرياض: دار القاسم 142هـ. ص 7.

(19) باطرفي، خالد محمد: الأمير محمد الفيصل يتذكر: الرياض، 1425هـ، ص 249.

(20) باطرفي، خالد محمد: أحمد صلاح جمجوم يتذكر: الرياض: 1425هـ، ص 111.

(21) باطرفي، خالد محمد: الأمير محمد الفيصل يتذكر: الرياض، 1425هـ، ص 253.

(22) المرجع السابق، ص 26.

(23) مجلة الجسور، العدد الثالث، السنة الأولى، شعبان-1424هـ، ص 33.

(24) شابرا، د. محمد عمر: \"تحريم الفائدة... هل هو متصور في عصرنا هذا؟، ترجمة / المصري، د. رفيق يونس المصري، جدة: 1424هـ، ص66.

(25)جريدة الشرق الأوسط، عدد 9632، الثلاثاء 3/3/1426 هـ، ص 19.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply