ضوابط النظر في النوازل والمتغيرات في اجتهادات الفقهاء ( 2 )


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

نتابع عرض بعض مصادر التشريع، وكنا قد عرضنا: (1-المصلحة المرسلة، 2- الاستحسان، 3- سد الذرائع والاحتياط)

 

4-عموم البلوى:

يظهر عموم البلوى في موضعين: -

الأول: ماتمس الحاجة في عموم الأحوال، بحيث يعسر الاستغناء عنه إلا بمشقة زائدة.

الثاني: شيوع الوقوع والتلبس، بحيث يعسر على المكلف الاحتراز عنه أو الانفكاك منه إلا بمشقة زائدة.

ففي الموضع الأول ابتلاء بمسيس الحاجة، وفي الثاني ابتلاء بمشقة الدفع.

 

الضابط في عموم البلوى:

يرجع النظر في عموم البلوى إلى ضابطين رئيسين: -

الأول: الضابط في نزارة الشيء وقلته:

أي أن مشقة الاحتراز من الشيء وعموم الابتلاء به قد يكون نابعاً من قلته ونزارته، ومن أجل هذا عفي عن يسير النجاسات، وعن أثر الاستجمار في محله، عما لا يدركه الطرف، وما لا نفس له سائلة ونيم الذباب(ما يخرج من فضلاته)، وما ترشش من الشوارع مما لا يمكن الاحتراز عنه، وما ينقله الذباب من العذرة وأنواع النجاسات.

 

الثاني: كثرة الشيء وشيوعه وانتشاره:

كما أن عموم الابتلاء ومشقة التحرز قد تكون نابعة من تفاهة الشيء ونزارته، كذلك قد يكون الأمر لكثرته وشيوعه فيشق الاحتراز عنه ويعم البلاء به.

وقد نبه الغزالي إلى أن الغلبة التي تصلح عذراً في الأحكام ليس المراد بها الغلبة المطلقة، وإنما يكفي أن يكون الاحتراز أو الاستغناء عنه فيه مشقة وصعوبة نظراً لاشتباهه بغيره من الحلال والمباح واختلاطه به وامتزاجه معه بحيث يصعب الانفكاك عنه، كما هو ظاهر في بعض صور النجاسات والمستقذرات واختلاط الأموال.

 

5-العرف:

ويراد به: ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول \".

فهو شامل لما عرفته النفوس وألفته، سواء كان قولا أوفعلا ولم ينكره أصحاب الذوق السليم. ويحصل الاستقرار في النفوس والقبول للطباع بالاستعمال المتكرر الصادر عن الميل والرغبة. ويخرج من ذلك العرف الفاسد، وهو ما استقر لا من جهة العقول كتعاطي المسكرات، وأنواع الفجور التي تستقر من جهة الأهواء والشهوات

كما يخرج ما لم تتلقه الطباع السليمة بالقبول كالكشف عن العورات، وعدم الاحتشام، والألفاظ المستقبحة. ويحسن الوقوف هنا وقفة ـ ونحن بصدد الحديث عن العرف ـ حول مسألة تغير العادات والأعراف، وبخاصة أن ذلك مزلق خطير، وقد يكون مركباً أثيرا لبعض المتعجلين أو المغرضين. والوقفة ذات شقين: -

 

أحدهما: تأكيد العلماء لقضية اعتبار الأعراف والعوائد.

وثانيهما: التفسير العلمي الفقهي للمقصود باعتبار الأعراف والعوائد. على أنه يحسن التنبيه على مسألة مهمة تتعلق بتغير الحكم لتغير العادة أو العرف وذلك أنه لا ينبغي أن يفهم من اختلاف الأحكام باختلاف العادات أنه اختلاف في أصل خطاب الشرع، بل معنى هذا الاختلاف أن العادات إذا اختلفت اقتضت كل عادة حكماًَ يلائمها، فالواقعة إذا صحبتها عادة اقتضت حكماً غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات. فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس كان التعزير بكشف الرأس مجزئاً، وإذا لم يكن كشف الرأس في عادة قوم مستقبحاً امتنع أن يكون طريقاً كافياً للتعزير ولا بد للقاضي من اتخاذ طريق آخر يكون له وقع الألم في نفس المستحق للتعزير. فخطاب الشرع الذي تعلق بالواقعة المقتضية للتعزير حال صحبتها عادة استقباح كشف الرأس غير الخطاب الذي يتعلق بواقعة مثلها تصاحب عادة عدم استقباح ذلك.

 

تغير الأحكام بتغير العادات والأعراف:

يقول الإمام القرافي: (إن الأحكام المترتبة على العوائد تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا أبطلت: - وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده وأجره عليه وافته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين) ويقرر السيوطي في أشباهه أن العادة والعرف مرجوع إليهما في الفقه في مسائل كثيرة ويزيد ابن عابدين الموضوع جلاء إذ يقول: (كثير من الأحكام يختلف باختلاف الزمان لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو لفساد أهل الزمان بحيث لو يبقى الحكم على ما كان عليه أولاً، لزم عنه المشقة والضرر بالناس، ومخالفة قوانين الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر)

 

ثم قال: (ولهذا نرى مشايخ المذهب يعني الحنفية خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة بناها على ما كان في زمنه لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم لقال بما قالوا من قواعد المذهب)

ويقول الحافظ ابن القيم:

 (ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان) يوضح ذلك: أن هناك أوصافاً ربط الشارع الحكم بها، وبني عليها أمور الناس فالعدالة مثلاً- شرط في قبول الشهادة بنص كتاب الله(وأشهدوا ذوي عدل منكم) وحينما نراجع كلام أهل العلم وتعريفاتهم للعدالة وأوصاف أصحابها نلاحظ أنهم يربطونها بمألوف الناس، ودلائل التعقل والمروءة، وهذا حق لا مرية فيه. ومن المعلوم أن هذا شيء متغير، فما يكون مألوفاً في بلد أو دلالة مروءة فيه قد لا يكون في البلد الآخر، وكذلك عند اختلاف الزمن. ولكي يزداد الأمر وضوحاً، فإن السير مكشوف الرأس أو الأكل في الأسواق كان في يوم من الأيام، أو بلد من البلدان مظهراً من مظاهر قلة المروءة واستمع في ذلك إلى القرافي في كتابه حين يقول: (ما الصحيح في هذه الأحكام الواقعة في مذهب الشافعي ومالك وغيرهما المرتبة على العوائد والعرف الذين كانا حاصلين حالة جزم العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إذا تغيرت تلك العوائد، وصارت العوائد تدل على ضد ما كانت تدل عليه أولاً فهل تبطل هذه الفتاوى المسطورة في كتب الفقهاء ويفتى بما تقتضيه العوائد المتجددة؟ أو يقال: نحن مقلدون وما لنا إحداث شرع لعدم أهليتنا للاجتهاد؟ فنفتي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين؟ )ويأتي الجواب منه - رحمه الله - تعالى- ليقول: (إن استمرا ر الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد خلاف الإجماع، وجهالة في الدين. بل كل ماهو في الشريعة يتبع العوائد يتغير الحكم فيه عند تغيره إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديدا للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهلية الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد).

ومن كل ما تقدم يتبين بلا ريب أن للظروف الملابسة للأشخاص أو للوقائع والأحداث أثراً في إدراك العلل وتوجيه الاستدلال بمدركه ودليله، وتبين مسالك تطبيقه ضماناً لمشروعية نتائجه، إذ العبرة بالنتائج العلمية الواقعة أو المتوقعة.

وبيان ذلك أن الظروف المتجددة الواقعة أو المتوقعة والتي تلابس الأشخاص أو الوقائع ينشأ عنها دلائل تكليفيه جديدة تقتضي أحكاماً جديدة تناسبها، وبما أن الظروف تتغاير وتتمايز باطراد، فاقتضى هذا وجوب اعتبارها شرعاً. ولهذا التغير ضوابط ومسارات نشير إليها بإيجاز فيما يلي: -

 

الضوابط العامة في النظر في المتغيرات:

حينما يكون الحديث عن الاجتهاد ومشروعيته في الإسلام واختلاف أنظار المجتهدين وتوصلهم إلى آراء مختلفة، بل قد يتغير رأي المجتهد في قضية واحدة في وقت بعد وقت فذلك كله يحتاج إلى تأمل وتدبر: -

1/إن كل ذلك لا يجوز أن يفهم منه أن النصوص غير ثابتة أو أنها لا تضع تشريعاً دائماً ثابتاً مستقراً شاملاً في الزمان، والمكان. بل إن الأصل في النصوص هو الثبات والدوام.

ومن أجل هذا يجب لزوم الحذر التام من التساهل أمام نصوص الشرع، أو محاولة التحلل منها، فذلك مزلق خطير، ومركب عسير تزل فيه الأقدام وتضل الأفهام وتنهار الأحكام.

إن مما يجب أن يعلم في هذا الباب أن شريعة الإسلام قد حكمت في ديار متباعدة الأقطار، مترامية الأطراف حكمت قروناً متوالية وأزمنة متتالية، ولاقت مختلف العادات والتقاليد، وعاشت عصور الرخاء والشدة، والقوة والضعف، واجهت الأحداث في جميع الأطوار فما قصرت عن حاجة، وما عجزت عن واقعة، ولا قعدت عن مطلب.

والأمر الذي يجب التنبه إليه وهو منطلق مهم من منطلقات هذا الموضوع، هو أن في سنن الله وفي شرعه عنصرين. أحدهما ثابت، والآخر متغير. فالاستمساك بأحدهما وإهمال الآخر يترتب عليه فساد عريض.

الثابت يجب أن يبقى ثابتاً، بل لا يمكن زحزحته فضلاً عن أن يسعى في زحزحته.

والمتغير طبيعته التغير، وجعله ثابتاً والالتزام به دائماً أبداً يوقع في عسر وحرج لا يطيقه المكلف.

ومن أجل مزيد إيضاح فليعلم أن دعاة التحرر في هذه العصور المتأخرة المتأثرين بالتيارات الوافدة من الغرب أو الشرق استمسكوا بالمتغير، وجعلوه ركن تفكيرهم، وأصل حضارتهم، وظنوا أن الحياة تستقيم بهذا المفهوم للحرية، وهي التغير في كل شيء أصولاً وفروعاً.

وبهذا وكما هو مشاهد- حين لم يكن لهم ثوابت مستقرة، ومحاور راسية يستندون إليها فقد ضاعوا، فلم تنضبط لهم موازين، وفقدوا معنى الثبات.

أما معرفة الثوابت والاستمساك بها، وتمييز المتغيرات، وضبط حركتها حول المحور الثابت حتى لا تخرج عن المسار الصحيح، فبه يكون الدوام والاستقرار والتمشي مع المتغيرات في الأزمنة والأمكنة والناس، مع بقاء الأصول الثوابت، والمحافظة على الجوهر، وهذا هو سر بقاء الشريعة وحيويتها. هذا منطلق.

2/ ومنطلق آخر: وهو منطلق عقدي صرف، من لا يؤمن بالشرع فلا خطاب معه، وذلك هو ما يجيب على هذا التساؤل: كيف يتأتى للشريعة التي نزلت قبل أربعة عشر قرناً أن تواكب ماجد في حياة الناس من تغيرات؟

الجواب-كما أسلفت- عقدي إيماني- نابع من الإيمان بالله الحق العليم الخبير الحكيم، فكأن هذا المتسائل أو المتشكك يظن أن الله لم يكن يعلم تعالى الله- حين أنزل هذه الشريعة أن أموراً ستجد في حياة الناس تختلف عن الأوضاع التي كانوا عليها يوم نزلت هذه الشريعة.

وحكمته - سبحانه - ـ لو كانوا يعلمون ـ تقتضي ألا ينزل شريعة غير ممكنة التطبيق في حيز من الزمن ثم يلزم الناس بها إلى يوم القيامة، ألا ساء ما يظنون. ولكي يزداد الأمر وضوحا في هذا الأمر الإيماني لو نظرت إلى بعض الضعاف في هذا المضمار ممن استهوتهم الحضارة المعاصرة، وسولت لهم أنفسهم ما سولت ويحبون ـ أمام الناس ـ أن يبقى لهم الانتساب إلى الإسلام، مع إتباعهم أهوائهم، فهم يريدون إسلاماً على مايشتهون، أو على ما يشتهي إخوانهم في الغيّ من المستشرقين والمستغربين.

فتبدأ مقولتهم بأنهم لا يأخذون بأقوال الفقهاء، والمفسرين، والشراح، والمحدثين، فهم بشر ورجال، ولا تعبد بآراء الرجال، ولا يأخذون إلا من الكتاب والسنة، ثم يتدرج بهم الأمر بأن يأخذوا القرآن، والمتواتر من السنة، وما كان قطعياً في ثبوته ودلالاته، فالسنة فيها الضعيف والمردود والموضوع، بل حتى أخبار الآحاد فيها عندهم نظر، ثم يتدرجون ليطعنوا في بعض الدلالات ليقولوا إن القرآن الكريم إنما كان يعالج أوضاعاً وبيئات قد اندرست، ويهتم بشؤون مجتمعات بدائية وبدوية، وقد يترقى بهم الحال ليقولوا: (إن القرآن إذا قال إن الخنزير رجس قالوا: إنما كان ذلك في خنازير سيئة التغذية، أما خنازير اليوم فتلقى عناية خاصة، وحينما ينظرون في الميراث وفيه: (فللذكر مثل حظ الأنثيين) يقولون: إنما كان ذلك قبل أن تخرج المرأة إلى ميادين العمل، وتثبت وجودها في جوانب الحياة المختلفة، والخمر حرم في بيئة حارة، ولو نزل القرآن في بيئة باردة لكان له شأن آخر). وهكذا نلاحظ التحلل من الأحكام، حتى ترقى الأمر إلى نسبة الله جل وعز إلى الجهل بشؤون خلقه فيما يضرهم وما ينفعهم - تعالى -الله عما يقولون علواً كبيرا.

3/ ومنطق ثالث: ذلكم أن الحديث عن التغير والتطور، ومجاراة العادات والأعراف، لايعني أن هم المجتهد والفقيه تبريد الواقع، وتلمس السند الشرعي له والتعسف وسوء التأويل بدعوى أن ذلك هو مفهوم المرونة والتطور.

فالإسلام لم يأت ليخضع لأهواء الناس، ومجريات حياتهم، ولكنه جاء ليرفع الناس إلى ميزان الحق، والعدل، والمصلحة الحقيقية، ويكف عنهم الإثم والظلم، ويرفع الآصار والأغلال. إن هذا التشريع لم يضعه المجتمع حتى يخضع له ويستجيب لظروفه وأوضاعه. إنه تشريع إلهي وضع ليرقى بالمجتمع، وتخضع أوضاعه لهدايته، فكلمة هذا التشريع هي العليا.

إن مهمة التشريع أن يصوب الخطأ ويقوم العوج، لا أن يبرر الأوضاع ويسوغ التصرفات، إنه يستعصي على الذوبان والتميع.

وفي جانب آخر فإن للاجتهاد من أهله مجالاً كبيراً، اجتهاد في فهم النصوص، واجتهاد أحياناً- في ثبوت بعضها (أي في مدى تصحيح بعض الأحاديث ودرجة قبولها).

ثم الاجتهاد فيما نص فيه بخصوصه مضبوط بطرق القياس، والمصلحة المرسلة، والاستحسان، والنظر في العوائد، والاستصحاب، والبراءة الأصلية وأحكام الضرر والضرورات، وأمثالها من مجالات النظر التي تختلف في تقديرها آراء أهل الاجتهاد باختلاف مداركهم وفهومهم كما سبق إيضاحه. والأصول الثوابت التي لا مساغ للاجتهاد فيها هي القطعيات وما علم من الدين بالضرورة، وما تلقته الأمة بالقبول من الفرائض المحكمات، والنصوص القطعيات، كفرائض الصلاة والزكاة، والصيام، والحج، والمواريث، والحدود، والحجاب، والمحرمات من الربا، والزنا، والخمر والميسر والطلاق والوفاة، وأمثال ذلك.

فهذه دوائر لا تقبل الاجتهاد والجدل، كأن يقول بعض الناس بتعطيل فريضة الزكاة اكتفاء بالضرائب فضلاً عما في الضرائب من نقاش- أو تعطيل فريضة الصيام تشجيعاً للإنتاج، أو إلغاء فريضة الحج توفيراً للعملة الصعبة، أو إباحة الزنا والخمر وما يتبعها ترغيباً في السياحة، واستحلال الربا دعماً لمشروعات التنمية والإنتاج.

 

4/ليس لأحد الحق في أن يقول في دين الله مالا يعلم، فباب الاجتهاد والفتوى يجب أن يكون مقصوراً على أهله ومع الأسف فإن فشو القراءة والكتابة في الناس، والمفهوم الخاطئ لحرية البحث العلمي جعلت أناساً يتجرؤون على أحكام الله ويتجاوزون حدود الله في اقتحام أبواب الحلال والحرام ولم يعرف لهم زاد من العلم سوى ما يسمى بثقافة إسلامية عامة، فجعلوا ساحة الحلال والحرام مباحة لكل من هب ودب، فظهرت أقوال من غير خطم ولا أزمة، ونزعت الثقة في أولي العلم والأئمة.

 

ومسئولية الحراسة في ذلك يجب أن يتولاها العلماء الربانيون المخلصون، والمراكز والهيئات الإسلامية العريقة المعروفة إذا أخلصت لله، وبنت منهجها وطريقها على خالص شرع الله، فتستعيد مكانها وموضعها، وتحمي حمى الدين وساحة الأحكام كدور الإفتاء، والقضاء الشرعي، وهيئات كبار العلماء.

 

5/ يعيش المسلمون في هذه الأزمنة حالات من الضعف في كثير من أمورهم وشؤونهم، ومنها أوضاعهم الاقتصادية وبخاصة المستجد من النوازل فيها، وعليه فمن العسير أن تسير معاملات المسلمين على العزائم دون الرخص، وعلى المجمع عليه دون المختلف فيه، وعلى الحلال الخالص دون المشوب، مما يقتضي النظر في هذه الواقعات والنازلات من أجل تلمس الحلول النافعة، والمخارج للأمة ولو قامت على رأي فقيه واحد معتبر خالفه جمع كبير من أهل العلم ما دام هذا رأي يحقق مصلحة للمسلمين ولا يصادم نصاً، بل قد لا يكون من المتعين أن يكون في المسألة رأي سابق لإمام من الأئمة، أو عالم من العلماء ما دام أنه في دائرة الضوابط الشرعية، والأصول العامة، والقواعد الكلية في الشريعة (الأسهم المالية في نظر الشريعة، صفوت الشوادفي. بحث الاستثمار في الأسهم د. علي محي الدين القره داغي، ص32. ).

 

يقول الأستاذ مصطفى الزرقاء - رحمه الله -: ((إن الآراء والنظريات الفقهية في المذاهب المعتبرة، سواء منها الراجح والمرجوح كلها ثروة تشريعية قيمة وقد يظهر تطور المصالح الزمنية، وإعادة النظر أن ما كان من الآراء الفقهية وهو الذي يجب أن يكون الراجح وما كان يظن ضعيف المبنى هو في الحقيقة أقوى وأسد، ولكن مرمى نظر صاحبه قد كان أمام قافلته بمسافات لا تدركها أبصارهم، فيبقى غير معتمد عليه حتى تصل العصور بالأجيال إلى مرمى ذلك النظر، فإذا هو البصر الحديد، والفهم الرشيد.

 

وفي كل مذهب أنظار فقهية شتى من هذا القبيل يمتاز فيها المذهب بما لم يدركه سواه من المذاهب)) (المدخل، الزرقاء. ج1، ص568. ).

ليس كل ما قال فقيه، أو عالم برمته كان حراماً في نفس الأمر، وإنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس مرجح لذلك أو ما تنازع فيه العلماء رد إلى هذه الأصول(الأسهم المالية في نظر الشريعة، صفوت الشوادفي. ص 38، نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية، مجموع الفتاوى\"29/211-223\").

 

الاجتهاد الجماعي:

مما مضت به سنة الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم- أنهم كانوا إذا نزلت بهم نازلة، أو استفتاهم مستفت في مسألة أن يجمعوا لها أعيان الصحابة وكبارهم ليبدي كل واحد منهم رأيه بدءا بما يحفظ من النص الشرعي كتابا وسنة، فإذا لم يوجد نص صاروا إلى الرأي، فيجري التشاور بينهم والمداولة حتى يصلوا إلى رأي يتفقون عليه بالإجماع أو بما يشبه الإجماع، وذلك في كل ما يعرض لهم.

ولقد كان ذلك عاملاً قوياً في الحفاظ على وحدة الأمة وتماسكها فكرياً وسياسياً، واجتماعياً.

وقد أخرج الدارمي في مسنده عن المسيب بن رافع قال: (كانوا- يعني صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر اجتمعوا لها وأجمعوا فالحق فيما رأوا) \"مسند الدارمي، ج1 ص46 وما بعدها. \".

وتتأكد أهمية المسلك الجماعي في الاجتهاد مع متغيرات العصر، وسعة الاتصال والتواصل بين الناس، ولا سيما مع ملاحظة ما يجري من خلال القنوات الفضائية وشبكات المعلومات، وكثرة الخوض فيها من قبل أناس لا صلة لهم بالعلوم الشرعية المتخصصة.

ومن المؤكد أن جانباً من هيبة الأمة ومهابتها في قرونها الأولى المفضلة وحفظها لحقوقها يعود إلى المنهج الجماعي الذي يقي-بإذن الله- من الزلات والهفوات والأخطاء القاتلة، ويحفظ من الشقاق والفرقة.

وفي الغالب فإن الاجتهاد الجماعي يجمع علماء قادرين متخصصين مدركين لأصول الاستدلال ومن ثم تكون لهم هيبتهم ووزنهم في الأمة.

والمجامع الفقهية الموجودة خطوة طيبة في هذا المضمار، وينبغي أن تتسع دائرة التجمع، كما ينبغي أن ينظر في طريقة الاختيار أو الترشيح للأعضاء يبعده عن بعض المؤثرات التي لا علاقة لها بالتخصص العلمي، ومتطلبات الاجتهاد، وشروط الإفتاء.

ومما يعين على إعطاء الاجتهاد الجماعي أثره في استصدار الأحكام الفقهية في مكانتها اللائقة بها كمنتدى لكبار فقهاء الأمة بعيداً عن المؤثرات الخارجية والتوجهات السياسية وغير السياسية، ذلك أنه قد كثر الأدعياء، وانتشر المغررون، والمتهورون، والمتهتكون الذين لو فتح لهم الباب لاجترؤوا على حدود الله، وغيروا معالم الشرع إرضاء لنزوة، وسعياً لشهرة، أو إتباعا لهوى، فيصبح الدين والناس فوضى فيضلوا ويضلوا.

ومن أجل أن يعطى الاجتهاد الجماعي أثره على مستوى الإنتاج والقبول والثقة يحسن مراعاة ما يلي: -

1-ينبغي أن يكون هناك تنسيق كامل بين المؤسسات العلمية الشرعية وبين المراكز الأخرى من طبية، واقتصادية وسياسية، واجتماعية وغيرها، وذلك لتحقيق هدفين رئيسين: -

أحدهما: اتصال المؤسسات الشرعية بالواقع ومستجدات الناس فيكون الاجتهاد مبنياً على تصور صحيح.

ثانيهما: معرفة كل جديد في وقته، وبيان حكمه الشرعي.

 

2- التنسيق بين دور الإفتاء والمجامع الفقهية والجهات البحثية الشرعية في الجامعات وغيرها لإمدادها بالموضوعات المستجدة، والنوازل، والواقعات وما تحتاج إليه الأمة من بحوث، بدلاً من التكرار أو البحث في قضايا ومسائل لا تطبيق لها، أو أنها ذات أهمية محدودة.

 

3- إعادة النظر في طريقة تدريس الفقه ولا سيما في المستويات العليا من الكليات الشرعية، ومرحلة ما فوق الجامعة، ويكون هذا النظر من جهتين:-

أولهما: أسلوب البحث والتأليف والتدريس بطريق القواعد الفقهية والأصولية والنظريات الفقهية.

وهو أمر ليس بمستغرب إذا نظرت في بعض طرائق المتقدمين كالشاطبي في كتابه الموافقات وتوجهه نحو إعادة النظر في طرق الكتابة والتأليف في أصول الفقه. ثم توجهه إلى العناية بمقاصد الشريعة، وكذلك أسلوب ابن رجب في كتابة القواعد الفقهية.

ثانيهما: العناية التفصيلية بالمسائل المستجدة، فلو قارنت في كتابة المتقدمين في الزكاة والأموال الزكوية ولا سيما زكاة السائمة من بهيمة الأنعام وطرق تفصيلها-لوجدت أنها متمشية مع مصطلحات وقتهم وما هو سائد فيهم من ألفاظ وأسلوب حياة، بينما جد في الوقت الحاضر أنواع من الأموال نحتاج إلى تبسيطها وتقريبها لطلاب العلم في مراحل الطلب، كالأسهم في معرفة أنواعها وشركاتها وكيفية إخراج الزكاة فيها.

وقبل إنهاء هذه المقدمة يحسن إيضاح معنى التجديد في الفقه مما يؤكد كل المعاني السابقة.

 

التجديد في الفقه:

التجديد: من الجدة والقوة، والتجديد: إعادة الجدة.

وفي الحديث: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)).

والمراد بتجديد الدين هنا-والله اعلم- ما يعيد له القوة ويرجعه إلى أصل صفائه الذي كان عليه حين البعثة وتنزل الوحي، وليس التجديد هو التغيير والتبديل.

إن التجديد هو العودة إلى أصل الشيء عند بدايته وظهوره لأول مرة، وإصلاح ما أصابه من خلل أو ناله من ضعف، ليعود قوياً كما كان حين بدأ، وذلك بإبراز حقائقه الناصعة، وتجلية خصائصه المميزة.

فيكون تجديد الدين وتجديد الفقه بتقوية التمسك به، وإحسان تطبيقه وتنفيذه.

وبناء على ذلك فتجديد الدين لا يكون إلا بالدين وللدين، لا بالدنيا، ولا للدنيا، ولا يكون إلا من داخل الدين، وبمفاهيم الدين، لا من خارج الدين، وبمفاهيم مستوردة وأفكار دخيلة.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply