عقد التأمين .. نظرة فقهية موجزة لأبرز مسائله


بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله وحده، والصَّلاةُ والسَّلامُ على من لا نبي بعده، وبعد:

فإن من نوازل هذا العصر وقضاياه المستجدة عقد التأمين الذي نشأ وانتشر بفعل القوانين التجارية والمدنية التي جعلته واقعاً في كثير من التشريعات.

وحيث إنه سبق أن بُحِث في عدد من اللقاءات والندوات، وصدرت حوله كثير من المؤلفات والأبحاث والرسائل، وحيث حصل مؤخراً في هذا العقد مناقشات ومداولات فقد أحببت أن أكتب مختصراً عن هذا العقد ورأي الباحثين فيه في هذه الأكتوبة الموجزةº وذلك من خلال أربع نقاط:

 

* أولاً: تعريف التأمين وحقيقته:

التأمين في اللغة مصدر أمَّن يؤمَّن، مأخوذة من الاطمئنان الذي هو ضد الخوف، ومن الأمانة التي هي ضد الخيانة. يقال: أمَّنهُ تأميناً وائتمنه واستأمنه(1).

 

وعند الفقهاء: التأمين قول آمين.

 

وصار يُستخدم التأمين للدلالة على عقد خاص تقوم به شركات التأمين تدفع بموجبه مبلغاً في حال وقوع حادث معين لشخص يدفع لها قسطاً من المال(2).

 

لا بد للناظر للتأمين أن يتنبه إلى الفرق بين تناول التأمين كفكرة ونظريَّة، وبين تنظيمه في عقد.

 

فالتأمين كنظرية ونظام مقبولº إذ إنه تعاون بين مجموعة من الناس لدفع أخطار تحدق بهمº بحيث إذا أصابت بعضهم تعاونوا على تفتيتها مقابل مبلغ ضئيل يقدمونه(3).

 

ولا شك أن هذه الفكرة فكرة مقبولة تقوم عليها كثير من أحكام الشريعة مثل الزكاة والنفقة على الأقارب، وتحميل العاقلة للدية. إلى أمثلة كثيرة تدعو إلى التعاون على البر والإحسان والتقوى والتكافل والتضامن.

 

هذه فكرة التأمين، وهي فكرة تتفق مع مقاصد الشريعة الإسلامية وأحكامها، وليس في هذا إشكال بحمد الله، وإنما الإشكال في صياغة هذه الفكرة في عقد معاوضة، أي في كونه علاقة بين المؤمن من جهة والمستأمن من جهة أخرى0

 

وسيكون هذا هو محل البحث في هذه الأوراق.

 

نشأة التأمين التجاري:

كان أول ظهور التأمين التجاري تأميناً للمخاطر التي تتعرض لها السفن المحملة بالبضائعº وذلك في شمال إيطاليا في القرن الثاني عشر الميلاديº حيث كان صاحب البضاعة يدفع قسطاً معيناً على أنه في حال تلف البضاعة يقبض مبلغاً من المال. ثم بدأ التأمين التجاري بالرواجº ولكنه لم ينتقل إلى الدول العربية إلا في القرن التاسع عشرº بدليل أن فقهاء المسلمين حتى القرن الثالث عشر الهجري لم يبحثوه مع أنهم بحثوا كل ما هو محيط بهم في شؤون حياتهم العامَّةº فتناوله العلاَّمة محمد أمين بن عابدين (1252هـ) في كتابه رد المحتار(1) على الدر المختار وسماه: سوكرة(2).

 

وقد تزايد التعامل به بعد ذلك حتى دخل كثيراً من المجالات الاقتصادية وغيرها(3).

 

ويرى بعض الباحثين أن التأمين التجاري يتجه إلى الانكماش فالزوالº وذلك أن دول العالم الغربي تتجه إلى الأخذ بالتأمين التعاوني، وأن أكبر المنظمات التأمينية في سويسرا هي منظمات تعاونية. كما أن إحصائيات التأمين في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1972م تذكر أن التأمين التعاوني أصبح يغطي أكثر من 70% من نشاط التأمين فيها(4).

 

تعريف عقد التأمين التجاري:

تنوعت تعريفات هذا العقد في القوانين المدنية ولدى الباحثين المهتمين، ويمكن منها أن يستخلص تعريف له بأنه: عقد معاوضة يلتزم أحد طرفيه وهو المؤمِّن أن يؤدي إلى الطرف الآخر وهو المؤمَّن له أو من يعينه عوضاً مالياً يتفق عليه يدفع عند وقوع الخطر أو تحقق الخسارة المبينة في العقد، وذلك نظير رسم يسمى (قسط التأمين) يدفعه المؤمَّن له بالقدر والأجل والكيفيَّة التي ينص عليها العقد المبرم بينهما(5).

 

ومن خلال هذا التعريف وما ذكره القانونيون نجد أن من أبرز خصائص(6) عقد التأمين:

1 - أنه عقد ملزم لطرفيه، فيلتزم المؤمَّن له بدفع الأقساط حسب الاتفاق، ويلتزم المؤمِّن بدفع التأمين عند حصول حادث محتمل.

 

2 - كما أنه عقد معاوضةº لأن كلا المتعاقدين يأخذ مقابلاً لما أعطى، فالمؤمِّن يعطي قسط التأمين، والمؤمَّن له يعطي مبلغ التأمين عند تحقق ما يوجبه. وليست المعاوضة مقابل أمان محض يحصل عليه المؤمن.

 

3 - كما أنه عقد احتماليº لأن كل طرف لا يعرف كم سيدفع وكم سيعطى على وجه التحديدº لأن ذلك يتوقف على وقوع الخطر أو عدم وقوعه.

 

4 - أنه عقد تجاري يهدف المؤمِّن منه إلى الربح والفائدة من خلال الأقساط المتجمعة لديه.

 

* ثانياً: حكم عقد التأمين التجاري:

لم يكن هذا العقد معروفاً عند السلف، فلم يرد فيه نص شرعي، ولم يوجد من الصحابة والأئمة المجتهدين من تعرَّض لحكمه. ولمَّا انتشر في هذا العصر درسه الباحثون، واختلفوا في حكمه على ثلاثة أقوال:

 

القول الأول: أن التأمين التجاري عقد غير جائز:

قال به ابن عابدين الحنفي(7)، ومحمد بخيت المطيعي(8)، (1354هـ) مفتي الديار المصريَّة، والشيخ محمد رشيد رضا(9)، ومحمد أبو زهرة(10)، وعبد الله القلقيلي مفتي الأردن(11)، ومحمد أبو اليسر عابدين مفتي سوريا(12)، والدكتور صديق الضرير(1)، وشيخ الأزهر الشيخ جاد الحق(2)، والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ(3)، وجماعة كثيرون. كما أنه الرأي الذي أفتت به عدة هيئات كهيئة كبار العلماء في المملكة العربيَّة السعودية(4)، والمجمع الفقهي الإسلامي(5) التابع لرابطة العالم الإسلامي، ومجمع الفقه الدولي بجدة(6) التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والمؤتمر العالمي للاقتصاد الإسلامي(7)، وهيئة رقابة بنك فيصل الإسلامي(8)، إلى غيرها من الجهات العلميَّة.

 

القول الثاني: أن التأمين التج

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply