وما تخفي صدورهم أكبر


 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله - تعالى -حق التقوى.

عباد الله، يقول الله جل جلاله: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِىُّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـاهُم فِي الأرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَـاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَـاقِبَةُ الأمُورِ [الحج: 40، 41].

 

أمة الإسلام، أمةُ محمد أمةٌ مرحومة، وأمة منصورة، وأمة معصومةٌ أن تجتمع على خطأ وباطل، أمةٌ اختارها الله، فجعلها خير الأمم وأفضلَها، وجعل غيرَها تابعاً لها، فهي أمةٌ متبوعة، لا أمة تابعة لغيرها، {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، أمةٌ منصورة، وحقاً إن النصرَ مضمونٌ لها، ولكنه مشروط بنصرةِ دين الله، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ، والناصر لله هو الناصر لدينه، المقيم لشرعه، المحكِّم له، العالِمُ به، فهذا هو الناصر لدين الله - جل وعلا -.

 

وهذا النصر له علاماتٌ واضحة، وقد بيَّن الله في هذه الآية أسبابَ النصر بقوله: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّـاهُم في الأرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَاتَوُا الزَّكَـاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَـاقِبَةُ الأمُورِ}. فالمنفِّذون لفرائض الإسلام والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر هم الذين ينالهم نصر الله وتأييدُه، والله - تعالى - قادر أن ينصر دينَه بلا قوّة من البشر، ولكنه الابتلاء والامتحان، {وَلَو يَشَاء اللَّهُ لانتَصَرَ مِنهُم وَلَـاكِن لّيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ,} [محمد: 4]، ويقول - جل وعلا - مخبراً عبادَه المؤمنين بأسباب نصره لهم بقوله: يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبّت أَقدَامَكُم [محمد: 7]، فنصرُ الله مشروط بأن ينصرَ المسلمون ربَّهم، بأن ينصروا دينَه، وينصروا شريعتَه، ويقوموا بها علماً وعملاً، فإذا قاموا بذلك تحقَّق وعدُ الله، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّـالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدّلَنَّهُم مّن بَعدِ خَوفِهِم أَمناً يَعبُدُونَنِي لاَ يُشرِكُونَ بي شَيئاً} [النور: 55]، فهؤلاء المستحقّون لوعد الله بفضل الله وكرمه.

 

أمة الإسلام، العالم الإسلامي يمرّ بمنعطفٍ, خطير، عالمُنا الإسلامي اليومَ مستهدفٌ دينُه، مستهدفة أخلاقه وقيمُه، أعداؤه تكالبوا على الإسلام وأهله، في كل بقاع الأرض يحاولون اجتثاثَ هذا الدين من الأرض، ولكن يأبى الله إلا أن يتمَّ نورَه ولو كره الكافرون، {يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفواهِهِم وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَـافِرُونَ} [الصف: 8].

 

هذا الدين دينٌ لا يزال باقياً إلى أن يأذن الله بقيام الساعة، لا يزال هذا الدين باقياً، ولا يزال في الأرض من يقيم حجةَ الله، وفي الحديث: ((ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله))[1].

 

أمةَ الإسلام، ضعفُ الأمة الإسلامية ضعفُ المسلمين ووهنُهم وذلتهم إنما سببها الإعراض عن الله، الإعراض عن دينه، عدمُ القيام بما أوجب الله، عدم الثقة بدين الله، عدم الالتجاء والاضطرار إلى الله.

 

إن الله - جل وعلا - أخبرنا في كتابه بقوله: {إِن يَنصُركُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُم وَإِن يَخذُلكُم فَمَن ذَا الَّذِى يَنصُرُكُم مّن بَعدِهِ} [آل عمران: 160]. إن الأمة حينما تريد النصرَ من غير الله، وتمدٌّ يدها هنا وهناك، وتلتجئ إلى غير الله، إلى أعدائها ليكشفوا ضرَّها، ويرفعوا بلاءها، ذَلِكَ هُوَ الخُسرَانُ المُبِينُ [الزمر: 15]. إن عدوَك لا يمكن أن ينصرَك، ولا أن يقف معك أيَّ موقف شئت، فإنه العدو اللدود لك ولدينك، {وَدٌّوا لَو تَكفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاء} [النساء: 89]، هذه أمنيتُهم أن يكون الناس كفاراً كما كانوا كفاراً، وأن يكونوا على ضلال وباطل كما هم عليه، ويخبرنا - تعالى -أن مودَّتهم لنا مستحيلة، وأنهم يكنٌّون البغضاءَ والعداء لنا: {يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مّن دُونِكُم لاَ يَألُونَكُم خَبَالاً وَدٌّوا مَا عَنِتٌّم قَد بَدَتِ البَغضَاء مِن أَفواهِهِم وَمَا تُخفِى صُدُورُهُم أَكبَرُ} [آل عمران: 118]، صدق الله وبلَّغ رسوله، إن ما تخفي صدورهم أكبر، وحقاً ما يخفونه من بغضنا وعدائنا وكراهيتنا أمر عظيم في غاية العظمة والكثرة.

 

أمة الإسلام، إن أعدائنا من خلال منظماتهم وهيئاتهم إنما يقصدون عداءَ الإسلام وأهله، يتشبّثون دائماً بترّهات يرونها وسيلةً لهم لضرب الأمة الإسلامية والقضاء عليها، يتشبَّثون بالإرهاب عند العالم الإسلامي، وإنهم أهلُ الإرهاب والحاملون للوائه بظلمهم وعدوانهم وتسلّطهم على المسلمين وإمدادهم عدوَّ الأمة بكل ما يملكون من قوة. إنه العداء الصريح للإسلام وأهله، فواجبُ الأمة الرجوعُ إلى الله، والالتجاء إلى الله، مع الأخذ بالأسباب النافعة المنجية، مع الاعتماد على الله والالتجاء إليه، والاضطرار إليه، والله ناصرٌ دينَه ومن ينصر دينَه.

 

إن محمداً أفضلُ الخلق على الإطلاق، إنه أخذ بكل سبب نافع مع التجائه إلى الله، واستعانته بالله، وثقته بالله، واستمداده النصر من رب العالمين، قال - تعالى -: {وَمَا النَّصرُ إِلاَّ مِن عِندِ اللَّهِ العَزِيزِ الحَكِيمِ} [آل عمران: 126]، وقال: {إِذ يُوحِى رَبٌّكَ إِلَى المَلَـئِكَةِ أَنّي مَعَكُم فَثَبّتُوا الَّذِينَ ءامَنُوا سَأُلقِى فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرٌّعبَ فَاضرِبُوا فَوقَ الأعنَـاقِ وَاضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَانٍ,} [الأنفال: 12].

 

فنصر الله لن ينقطع، ونصر الله باقٍ, لمن أتى بأسباب النصر، أما الأعداء فلا نصر عندهم، ولا عون عندهم، كيف ترجو النصر ممن هو عدوُّ لك؟! كيف ترجو المددَ ممن يحاول القضاء عليك؟! كيف ترجو التأييد ممن هو ضدٌّك في كل الأحوال؟! فهو عدوٌّك اللدود الذي يفرح بذلِّك وهوانك، ويحزن إن رأى منك قوةً وعزة، لكن الأمة إذا تمسَّكت بدينها حقَّ التمسك، وربَّت أبناءَها على هذا الدين علماً وعملاً، وقامت بما أوجب الله فالنصر من الله آت، {وَكَانَ حَقّاً عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنينَ} [الروم: 47]، {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا في الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَيَومَ يَقُومُ الأَشهَـادُ} [غافر: 51]. أما الأعداء من خلال هيئاتهم ومنظماتهم فكلٌّها لا قيمة لها، وكلها لا حقيقة لها، هي موجَّهة ضدَّ الإسلام وأهله، إن يكن الأمر لهم جعلوها وسيلة لما يريدون، وإن يكن الأمر ضدَّهم لن يبالوا بها ولا بقراراتها، ولكنهم يصبٌّون سخطَهم وغضبَهم على الإسلام وأهله، تكاتفوا على الإسلام.

 

إن أمة الإسلام تعيش فرقةً واختلافاً وتبايناً في الآراء مما مكَّن الأعداء من مرادهم، فليحذر المسلمون ذلك، وليتقوا الله، وليصحِّحوا أوضاعهم، وليعلموا أنه لا نجاة لهم من عدوهم ومكائد عدوهم إلا برجوعٍ, إلى الله، وتمسك بدين الله، واعتصامٍ, بحبل الله، وتعاون على البر والتقوى، {فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ, مّن عِندِهِ} [المائدة: 52].

إن أمة الإسلام اليوم في بلاء وامتحان، وما ذاك إلا بإعراضهم عن دين الله، {وَمَا رَبٌّكَ بِظَلَّـامٍ, لّلعَبِيدِ} [فصلت: 46]، فالعدو المأفون إذا قوبل بالإيمان الصادق والعزيمة الصادقة والإخلاص لله فإنه أذلّ خلق الله، {ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذّلَّةُ أَينَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبلٍ, مّن اللَّهِ وَحَبلٍ, مّنَ النَّاسِ وَبَاءوا بِغَضَبٍ, مّنَ اللَّهِ وَضُرِبَت عَلَيهِمُ المَسكَنَةُ ذالِكَ بِأَنَّهُم كَانُوا يَكفُرُونَ بِـئَايَـاتِ اللَّهِ وَيَقتُلُونَ الأنبِيَاء بِغَيرِ حَقّ ذالِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعتَدُونَ} [آل عمران: 112].

 

إن الذلةَ مضروبة عليهم، فهم أذلّ خلق الله، لكن إن واجهتهم قوةٌ إيمانية مستعينة بالله، معتمدة على الله، آخذة بكل سبب نافع، مؤمنة بأن النصر بيد الله، ينصر عبادَه وأولياءه إذا عظَّموا الله وقاموا بما أوجب عليهم، فلا بد لنصر الله لهم، {وَكَانَ حَقّاً عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنينَ} [الروم: 47].

فالله ناصرٌ لدينه، وناصر لأوليائه إن صدقوا الله، وقويت عزائمُهم، وصدقت نواياهم، وابتعدوا عن معاصي الله، فإن مخالفةَ شرع الله وارتكابَ محارم الله أعظمُ من نكاية العدو عليهم، فليقابلوا عدوَّهم بالإيمان الصادق، والثقة بالله، والبعد عن محارم الله، والله لا بد أن ينصر دينه، وإن ابتلي العباد أحياناً فالعاقبة للمتقين. جعلني الله وإياكم من المتقين في الأقوال والأعمال.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله - تعالى -حق التقوى.

عباد الله، إن الله يقول عن أعدائه اليهود: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ, مّنهُم إِلاَّ قَلِيلاً مّنهُمُ} [المائدة: 13]. فالخيانة والغدر من أخلاقهم وصفاتهم وأعمالهم، فكيف يرجو الناس منهم خيرًا؟! كيف يؤمِّلون في مواعيدهم واتفاقياتهم؟! إن كلَّ اتفاقياتٍ, معهم وكلَّ أمر معهم فمآله إلى النقض والفشل، فهم أعداء الله، لا يرضيهم إلا القضاءُ على الإسلام وأهله، أعداءُ الله لا يرضيهم إلا القضاء على الإسلام وأهله، أعداء الله لا يرضيهم إلا إذلالُ المسلمين.

 

فليتق المسلمون ربهم، وليعملوا بشرعه، وليعتمدوا عليه، وليثقوا بنصره، بعد قيامهم بما أوجب عليهم خيرَ القيام، فذاك من أسباب نصرهم، وأما تخاذلٌ ووعودٌ وأماني من مواثيق ومؤتمرات ونحوه فهي لا تحقِّق للمسلمين شيئاً، ولا تفيدهم شيئاًº لأن المبرمين لها هم أعداؤنا، فلا يغرٌّونا بوعودهم ولا بكلِّ ما يقولون، فالمسلمون عليهم تقوى الله في كل أمورهم، والتمسكُ بدين الله، فعسى الله أن يمدهم بنصره وتأييده، {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ,} [فاطر: 17].

واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.

وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربكم قال - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً} [الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة الراشدين...

 

----------------------------------------

[1] أخرجه البخاري في المناقب (3641)، ومسلم في الإمارة (1037) من حديث معاوية - رضي الله عنه - بنحوه، وورد عن غيره من الصحابة.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply