عذاب القبر


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

 أحبتي في الله: في رحاب الدار الآخرة:

سلسلة علمية كريمة، تجمع بين المنهجية والرقائق، وبين التأصيل العلمي والأسلوب الوعظي، الهدف منها تذكير الناس بالآخرة في عصر طغت فيه الماديات والشهوات، وانصرف فيه كثير من الناس عن طاعة رب الأرض والسماوات.

لعل الغافل أن ينتبه، ولعل النائم أن يستيقظ، قبل أن تأتيهم الساعة بغتة وهم يخصمون، فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.

لقــد انتهينا في اللقاء الماضي مع الجنازة، وهي في طريقها إلى القبر تتكلم!!، كما في صحيح البخاري من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي قال: ( إذا وضعت الجنازة، واحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدموني، وإن كانت غير ذلك قالت: يا ويلها أين يذهبون بها؟ يسمع صوتها كل شيء إلا الثقلين - أو قال: إلا الإنسان -، ولو سمع الإنسان لصعق)([1]).

وها نحن قد وصلنا بالجنازة إلى القبر فقف معي الآن عند القبر وأهواله، وفتنة القبر وأحواله، أسأل اللـه - جل وعلا - أن يحفظنا وإياكم من فتنته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

وكعادتنا فسوف ينتظم حديثنا اليوم مع حضراتكم في هذه العناصر التالية:

أولاً: الأدلة على عذاب القبر ونعيمه.

ثانياً: أسباب عذاب القبر.

ثالثاً: ما السبيل للنجاة من عذاب القبر؟

فأعرني قلبك وسمعك أيها الحبيب الكريم، واللـه أسال أن يجعلني وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه ولي ذلك والقادر عليه!!.

 

أولاً: الأدلة على عذاب القبر ونعيمه:

نحن اليوم في أمس الحاجة لهذا الموضوع الذي نحن بصدده، فهو من الأهمية بمكان لا سيما بعد ما قرأنا على صفحاتٍ, سوداء في مقال أسود بعنوان \" عذاب القبر خرافات وخزعبلات \"!!

هكذا يعنون لمقاله فضيلة الأستاذ الدكتور، ثم يتطاول هذا الأستاذ الدكتور الجريء فيقول: \"إن جميع الأحاديث التي وردت في مسألة عذاب القبر مجرد خرافات\"!، ثم أظهر جهله الفادح فقال: \"إن عذاب القبر غيب، والقرآن بَيَّن لنا أن النبي لا يعلم الغيب\"!! جهل مركب!

معنى ذلك يا فضيلة الدكتور أنه ينبغي أن ننكر ونكذب كل أمر غيب أخبرنا به المصطفى، كالإيمان باللـه، وكالإيمان بالملائكة، وكالإيمان باليوم الآخر، وكالإيمان بالقدر خيره وشره .. إلى سائر الغيبيات التي أخبر عنها رسول اللـه.

نسي هذا المسكين قول رب العالمين في سيد المرسلين: \"وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِن هُوَ إِلا وَحيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى\"[النجم: 3 - 5].

أما تقرأ يا مسكين في سورة البقرة قوله - تعالى-: \"ألم ذَلِكَ الكِتَابُ لا رَيبَ فِيهِ هُدًى لِلمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤمِنُونَ بِالغَيبِ..\"[ البقرة:1- 2].

وتمنيت يا فضيلة الدكتور لو قرأت من جديد هذه الآيات، إن أول صفة من صفات المؤمنين الإيمان بالغيب.

وخرج علينا أستاذ آخر فكتب كتاباً ضخماً يزيد عن الثلاثمائة صفحة، ينفي فيه من أول صفحة إلى آخر صفحة عذاب القبر ونعيمه، يلوي أعناق النصوص لياً عجيباً، وها أنا الآن أرد على هؤلاء المتطاولين المكذبين المنكرين، الذين قال عنهم الإمام القرطبي والإمام الحافظ ابن حجر: \"لم ينكر عذاب القبر إلا الملاحدة، والزنادقة، والخوارج، وبعض المعتزلة، ومن تمذهب بمذهب الفلاسفة، وخالفهم جميع أهل السنة \"، وقال الإمام أحمد - رحمه اللـه -: \"عذاب القبر حق، ومن أنكره فهو ضال مضل\".

أيها الحبيب: سأقدمُ إليك سيلاً من الأدلة الصحيحـة على عذاب القبر من كلام الصادق المصدوق، الذي لا ينطق عن الهوى، ولن أطيل الوقفة مع القرآن! لماذا؟! لأن القرآن حمَّال ذو أوجه كما قال على بن أبي طالب لابن عباس وهو في طريقه لمناظرة الخوارج.

قال على: يا ابن عباس جادلهم بالسنة ولا تجادلهم بالقرآن، فإن القران حمَّال ذو أوجه.

اسـتهل الحديث بين يدي هذا العنصر الهام بمقدمة اقتبسها من كلام أئمتنـا الأعلام، وأبدأ هذه المقدمة بكلام دقيق نفيس للإمام ابن أبي العز الحنفي شـارح العقيـدة الطحـاوية على شارحها ومصنفها الرحمة من اللـه - جل وعلا -.

قال: اعلم أن عذابَ القبر هو عذاب البرزخ، وكل إنسان مات وعليه نصيب من العذاب فله نصيبه من العذاب، قُبِرَ أو لم يُقبر، سواء أكلته السباع أو احترق فصار رماداً في الهواء أو نسف أو غرق في البحر.

تأملوا يا من تحكمون العقول في هذا الدليل الذي رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -أن النبي قال: (قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله: إذا مات فحرقوه، ثم ذرّوه، نصفه في البر، ونصفه في البحر، فواللـه لئن قدر اللـه عليه ليعذبنه عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين، فلما مات الرجل فعلوا ما أمرهم، فأمر اللـه البر فجمع ما فيه، وأمر اللـه البحر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك وأنت أعلم، فغفر اللـه له)([2]).

الشاهد من الحديث أن اللـه أحياه بعدما حُرِق وذُرِىَ رماده في البحر والبر، فقال له الملك: كن، فكان على الفور.

قال - تعالى -: \"إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللـه كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ, ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ\"[ آل عمران: 59 ].

وقال - تعالى -: \"أَو كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَريَةٍ, وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحيِي هَذِهِ اللـه بَعدَ مَوتِهَا فَأَمَاتَهُ اللـه مِئَةَ عَامٍ, ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَم لَبِثتَ قَالَ لَبِثتُ يَوماً أَو بَعضَ يَومٍ, قَالَ بَل لَبِثتَ مِائَةَ عَامٍ, فَانظُر إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَم يَتَسَنَّه وَانظُر إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانظُر إِلَى العِظَامِ كَيفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكسُوهَا لَحماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعلَمُ أَنَّ اللـه عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ\"[ البقرة: 259 ]، وقال - تعالى-: \"وَإِذ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيفَ تُحيِي المَوتَى قَالَ أَوَلَم تُؤمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِيَطمَئِنَّ قَلبِي قَالَ فَخُذ أَربَعَةً مِنَ الطَّيرِ فَصُرهُنَّ إِلَيكَ ثُمَّ اجعَل عَلَى كُلِّ جَبَلٍ, مِنهُنَّ جُزءاً ثُمَّ ادعُهُنَّ يَأتِينَكَ سَعياً وَاعلَم أَنَّ اللـه عَزِيزٌ حَكِيمٌ\"[ البقرة: 260 ].

إن قدرة اللـه لا تحدها حدود، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنهي هذه المقدمة بكلام نفيس للإمام ابن القيم - رحمه الله تعالى -، حيث قال:

\"إن اللـه - تعالى- قد جعل الدور ثلاثة، وهى: دار الدنيا، ودار البرزخ، ودار القرار\"، ثم قال:\"وجعل اللـه لكل دار أحكاماً تختص بها، فجعل اللـه الأحكام في دار الدنيا تسير على الأبدان، والأرواح تبع لها، وجعل الأحكام في دار البرزخ تسرى على الأرواح، والأبدان تبع لها، وجعل الأحكام في دار القرار تسرى على الأرواح والأبدان معاً\" ثم قال ابن القيم: \"واعلم أن سعة القبر وضيقه، ونوره وناره ليس من جنس المعهود للناس في عالم الدنيا\"، ثم ضرب للناس مثلاً عقلياً دقيقاً رائعاً فقال:

\"انظر إلى الرجلين النائمين في فراش واحد أحدهما يرى في نومه أنه في نعيم، بل وقد يستيقظ وأثر النعيم على وجهه، ويقص عليك ما كان فيه من النعيم، قد يقول لك: الحمد لله لقد رأيتني الليلة وأنا مع رسول اللـه ورأيت النبي، وكلمت النبي، ورد علىّ النبي، وقال لي النبي..الخ.

من رأى النبي في المنام فقد رآه حقاً، وأخوه إلى جواره في فراش واحد قد يكون في عذاب، ويستيقظ وعليه أثر العذاب، ويقص عليك ويقول: كابوس كاد أن يخنق أنفاسي!!\"

هل تدبرت أخي في اللـه في هذا الكلام؟!! الرجلان في فراش واحد هذه روحه كانت في النعيم، وهذا روحه كانت في العذاب مع أن أحدهما لا يعلم عن الآخر شيئاً.

هذا في أمر الدنيا فما بالك بأمر البرزخ الذي لا يعلمه إلا اللـه؟!! مقدمة دقيقة ولو تدبرتها لوقفت على الحقيقة، وأنا أقول: متى كان العقل حاكماً على الشرع والدين؟!!

لله در عَليّ يوم أن قال: \"لو كان أمر الدين بالعقل لكان المسح على باطن الخف أولى من المسح على أعلاه\"([3]).

إليك الأدلة الصحيحة الصريحة على عذاب القبر أستهلها بهذه الترجمة الفقهية البليغة لإمام الدنيا في الحديث - الإمام البخاري -، فقد ترجم في كتاب الجنائز باباً بعنوان: (باب ما جاء في عذاب القبر)، وتكفي هذه الترجمة، ولقد فقهَ البخاري في تراجمه - كما قال علماء الحديث وعلماء الجرح -، وساق البخاري في هذا الباب الآيات الكريمة عن اللـه - جل وعلا - وروى فيه الأحاديث الصحيحة عن رسول اللـه، وسأكتفي بآية واحدة استدل بها جميع أهل السنة بلا خلاف على ثبوت عذاب القبر:

قال اللـه - تعالى-: : (( وَحَاقَ بِآلِ فِرعَونَ سُوءُ العَذَابِ النَّارُ يُعرَضُونَ عَلَيهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَومَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدخِلُوا آلَ فِرعَونَ أَشَدَّ العَذَابِ ))[غافر:45-46].

قال جميع علماء أهل السنة: ذكر اللـه في هذه الآية عذاب دار البرزخ وعذاب دار القرار ذكراً صريحاً، وحاق بآل فرعون سوء العذاب، النار يعرضون عليها غدواً وعشياً أي: صباحاً ومساءاً هذا في دار البرزخ، ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب: أي يوم القيامة.

فذكر اللـه عذابين في الآية: عذاباً في الدنيا، وعذاباً في الآخرة، عذاب دار البرزخ، وعذاب دار القرار.

وقبل أن أزف إليك الأدلة الصحيحة التي تلقم المنكرين الأحجارº أود أن أنوه إلى أن اللـه قد أنزل على النبي وحيين، وأوجب اللـه على عباده الإيمان بهما ألا وهما القرآنُ والسنة الصحيحة.

انطلق هؤلاء المنكرون وقالوا: كفانا القرآن، وظنوا أنهم بهذه الدعوى - التي يغنى بطلانها عن إبطالها، ويغنى فسادها عن إفسادها - أنهم قد خدعونا، واللـه ما خدعوا إلا أنفسهم.

من كَذَّبَ بالسنة الصحيحة فقد كفر بالقرآن، ومن رد السنة فقد رد القرآن.

تدبر معي آيات اللـه - عز وجل -: (( وَمَـا ءَاتَـاكُـمُ الرَّسُـولُ فَخُـذُوهُ وَمَـا نَهَـاكُـم عَنـهُ فَانتَهُـوا وَاتَّقُوا اللـه إِنَّ اللـه شَدِيدُ العِقَابِ ))[الحشر:7]، وقال - تعالى-: (( من يطع الرسول فقد أطاع اللـه ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً ))[النساء:80]، وقال - تعالى-: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَينَهُم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِم حَرَجاً مِمَّا قَضَيتَ وَيُسَلِّمُوا تَسلِيماً ))[ النساء: 65 ]، وقال - تعالى -: (( وَمَا كَانَ لِمُؤمِنٍ, وَلا مُؤمِنَةٍ, إِذَا قَضَى اللـه وَرَسُولُهُ أَمراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللـه وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً ))[الأحزاب: 36 ]، وقال - تعالى-: (( يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَينَ يَدَيِ اللـه وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللـه إِنَّ اللـه سَمِيعٌ عَلِيمٌ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَرفَعُوا أَصوَاتَكُم فَوقَ صَوتِ النَّبِيِّ وَلا تَجهَرُوا لَهُ بِالقَولِ كَجَهرِ بَعضِكُم لِبَعضٍ, أَن تَحبَطَ أَعمَالُكُم وَأَنتُم لا تَشعُرُونَ ))[ الحجرات:1-2].

فالسنة حكمها مع القرآن على ثلاثة أوجه: قال ابن القيم في إعلام الموقعين: السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: أن تأتي السنة مؤكدة لما جاء به القرآن، وهذا من باب تضافر الأدلة.

الوجه الثاني: أن تأتي السنة مبينة وموضحة لما أجمله القرآن قال - تعالى-: (( وأقيموا الصلاة )) لكن لم يذكر عدد الصلوات، ولا أركان الصلاة، ولا كيفية الصلاة، ولا مواقيت الصلاة، فجاء الحبيب المصطفى لكي يبين لنا عددها، وأركانها، وكيفيتها، ومواقيتها وهكذا.

الوجه الثالث: أن تأتي السنة موجبة أو محرمة لما سكت عنه القرآن، قال المصطفى: ( ألا يوشك رجل شبعان متكيء على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه)، قال المصطفى: ( ألا إن ما حرم اللـه كما حرم رسول اللـه)([4]).

وإليكم الأحاديث الصحيحة التي تثبت أن عذاب القبر حقيقة لا ريب:

ففي الحديث الذي رواه أحمد والحاكم وغيره وحسنه الشيخ الألباني ( كان عثمان إذا وقف على القبر بكى، وإذا ذكر الجنة والنار لا يبكي، فقيل له: يا عثمان تذكر الجنة والنار فلا تبكي، فإذا وقفت على القبر تبكي، قال عثمان: لقد سمعت رسول اللـه يقول: (القبر أول منازل الآخرة فإن نجى منه صاحبه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينجُ منه صاحبه فما بعده أشد منه).

وانظر إلى هذا الحديث الصحيح قال المصطفى حينما مر على قبرين فقال: ( أما إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير)، ثم قال: (أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الأخر فكان لا يستتر من بوله - أو لا يتنزه من بوله -)([5]).

وَقِف مع هذا الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي كان يدعو اللـه ويقول: ( اللـهم إني أعوذ بك من عذاب القبر)([6]).

وفي الحديث الذي رواه مسلم وأحمد وابن حبان والبزار وغيرهم من حديث زيد بن ثابت - رضي اللـه عنه -: (بينما النبي في حائط لبنى النجار على بغلة له ونحن معه إذ جاءت به (أي البغلة) فكادت تلقيه، وإذا أقبر ستة، أو خمسة، فقال: (من يعرف أصحاب هذه الأَقبُر؟) قال رجل: أنا، قال: (فمتى ماتوا؟) قال: في الشرك، فقال: (إن هذه الأمة تُبتَلَى في قبورها فلولا أن لا تدافنوا لدعوت اللـه أن يُسمِعَكُم مـن عذاب القبر الذي أسمع منه)، ثم أقبل علينـا بوجهـه فقال: (تعوذوا باللـه من عذاب القبر) قلنا: نعوذ باللـه من عذاب القبر)([7]).

وفى الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: (دَخَلَت علىّ امرأة من يهود المدينة فذكرت عذاب القبر، فقالت المرأة لعائشة: أعاذك اللـه من عذاب القبر!! فلما خرجت اليهودية سألت عائشة النبي عن عذاب القبر فقال: (نَعَم عذاب القبر) وفى رواية: (عذاب القبر حق) فقالت عائشة: (فما رأيت النبي يصلى بعدها إلا ويستعيذ من عذاب القبر)([8]).

واسمع إلى هذا الحديث العمدة في المسألة، وهو أصل من أصول هذا الباب رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه والبيهقي في سننه والنسائي في سننه وأبو داود في سننه ورواه الحاكم في المستدرك وصححه على شرط الشيخين وأقره الإمام الذهبي وصحح الحديث الإمام ابن القيم في كتاب تهذيب السنن وإعلام الموقعين، وأطال النفس للرد على من أَعَلَّ هذا الحديث، وصحح هذا الحديث الشيخ الألباني وغيره من حديث البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: خرجنا مع النبي في جنازة رجل من الأنصار، فلما انتهينا إلى القبر جلس النبي على شفير القبر (حافة القبر) وجلسنا حوله وكأن على رؤوسنا الطير (لا يتكلمون)، وفى يد النبي عود ينكـت بـه الأرض، ثم رفـع النبـي رأسـه فنظـر وقـال لأصحـابـه: (استعيذوا باللـه من عذاب القبر، استعيذوا باللـه من عذاب القبر، استعيذوا باللـه من عذاب القبر) قالها النبي مرتين أو ثلاثـة، ثـم التفـت إليهــم النبي وقال: (إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرةº نزل إليه من السماء ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: يا أيتها النفس الطيبة اُخرجي إلى مغفرة من اللـه ورضوان، فتخرج فتسيل كما تسيل القطرة من في السِّقَاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها، فيجعلوها في ذلك الكفن وفى ذلك الحنوط، فيخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي إلى السماء السابعة، فيقول اللـه - عز وجل -: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، فتعاد روحه، فيأتيه ملكان، فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربى اللـه، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول اللـه، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب اللـه فأمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي، وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من اللـه وغضب، فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلاَّ قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟! فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ: (( لا تفتح لهم أبواب السماء ))، فيقول اللـه - عز وجل -: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً فتعاد روحه في جسده، ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه.. هاه.. لا أدرى، فيقولان: له ما دينك؟ فيقول: هاه.. هاه.. لا أدرى، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بُعِثَ فيكم؟ فيقول: هاه.. هاه.. لا أدرى، فينادي منادٍ, من السماء: أن كذب عبدي، فأفرشوه من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجئ بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث، فيقول: رب لا تقم الساعة!!)([9]).

معذرة أيها الحبيب لقد أطلت عليك الجولة مع الأدلة على عذاب القبر ونعيمه، وسأعرج سريعاً على العنصرين الآخرين وهي أسباب عذاب القبر، ما السبيل للنجاة؟ وذلك بعد جلسة الاستراحة.

أقول قولي هذا، واستغفر اللـه لي ولكم..

 

الخطبة الثانية:

 إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ باللـه من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده اللـه فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وأشهد أن لا إله إلا اللـه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

ثانياً: أسباب عذاب القبر:

والحديث عنها له وجهان مجمل ومفصل، أما المجمل فإن معصية اللـه - عز وجل - أصل لكل بلاء، وعلى رأس هذه المعاصي الشرك، فإن أعظم زاد تلقى اللـه به هو التوحيد، وإن أبشع وأعظم ذنب تلقى اللـه به هو الشرك، قال اللـه: (( إنَّ الشِّركَ لَظُلمُُ عَظيِمُُ ))[ لقمان:13].

أما التفصيل فقد ذكر النبي كما ذكرت آنفاً أن النميمة من أسباب عذاب القبر، وهناك الآن أناس متخصصون في النميمة.

فالنميمة سبب من أسباب عذاب القبر، وأيضاً عدم الاستتار من البول، وعدم التنزه منه وهذا ما ذكره النبي في حديثه الذي كنا بصدده من قبل.

أيضاً من أسباب عذاب القبر الكذب والربا وهجر القرآن، كما في حديث سمرة بن جندب الطويل الذي رواه البخاري - الذي لا يتسع المقام لذكره الآن -، لقد ذكر فيه النبي من أسباب عذاب القبر الكذب والرياء وهجر القرآن والزنا والغلول (كل شيء يأخذ من الغنيمة قبل أن تقسم )، ويدخل تحت الغلول السحت والحرام.

فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرجنا مع رسول اللـه إلى خيبر ففتح اللـه علينا، فلم نغنم ذهباً، ولا وَرِقاً، غنمنا المتاع والطعام والثياب، ثم انطلقنا إلى الوادي يعنى وادي القرى ومع رسول اللـه عبد له، وهبه له رجل من جذام يدعى رفاعة بن يزيد من بني الضٌّبيب، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول اللـه يَحُلٌّ رحله، فرمي بسهم، فكان فيه حتفه فقلنا: هنيئاً له الشهادة يا رسول الله، فقال رسول اللـه: (كلا والذى نفسى محمد بيده، إن الشَّملَة (إزار يتشح به) لتلتهب عليه ناراً، أخذها من الغنائم يوم خيبر، لم يصبها المقاسم)، قال: ففزع الناس فجاء رجل بشراك أو شراكين (الشراك: سير من سيور النعل) فقال: أصبته يوم خيبر، فقال رسول اللـه: (شراك من نار، أو شراكان من نار)([10]).

أيها الأحباب: والسؤال الآن فما السبيل للنجاة من عذاب القبر؟!

 

ثالثاً: السبيل للنجاة من عذاب القبر:

أقول لك بإيجاز شديد: أعظم سبيل للنجاة من عذاب القبر أن تستقيم على طاعة اللـه - جل وعلا -، وأن تتبع هدى النبي - صلى الله عليه وسلم -.

قال اللـه عز وجل: (( إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبٌّنَا اللـه ثُمَّ استَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَبشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنتُم تُوعَدُونَ نَحنُ أَولِيَاؤُكُم فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُم فِيهَا مَا تَشتَهِي أَنفُسُكُم وَلَكُم فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً مِن غَفُورٍ, رَحِيمٍ, ))[فصلت:30-32].

ومن أنفع الأسباب كذلك للنجاة من عذاب القبر ما ذكره الإمام ابن القيم في كتابه القيم (الروح) قال: ومن أنفعها أن يتفكر الإنسان قبل نومه ساعة ليذكر نفسه بعمله، فإن كان مقصراً زاد في عمله، وإن كان عاصياً تاب إلى اللـه، وليجدد توبة قبل نومه بينه وبين الله، فإن مات من ليلته على هذه التوبة فهو من أهل الجنة، نجاه اللـه من عذاب القبر، ومن عذاب النار.

ومن أعظم الأسباب التي تنجي من عذاب القبر:

أن تداوم على العمل الصالح كالتوحيد، والصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، وحضور مجالس العلم والعلماء التي ضيعها أناس كثيرون، وانشغلوا عنها بلهو قتل الوقت.

أيضاً من أعظم الأسباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، كل عمل يرضي الرب فهو عمل صالح ينجي صاحبه من عذاب القبر والنار.

وأبشركم أن من أعظم الأعمال التي تنجي صاحبها من عذاب القبر الشهادة في سبيل اللـه، ورد في الحديث الذي رواه الحاكم وحسن إسناده الشيخ الألباني أن النبي قال: ( للشهيد عند اللـه ست خصال، الأولى: يغفر له مع أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، الثانية: ينجيه اللـه - عز وجل - من عذاب القبر، الثالثة: يأمنه اللـه يوم الفزع الأكبر، الرابعة: يلبسه اللـه تاج الوقار، الياقوتة فيه خير من الدنيا وما فيها، الخامسة: يزوجه اللـه بثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، السادسة: يشفعه اللـه في سبعين من أهله).

ولن أترك مكاني هذا إلا بعد أن أزف إليكم حديثاً يملأ القلب أملاً ورضىً، والحـديث رواه الـحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي وصحح إسـناده الشـيخ الألباني في مشكاة المصابيح عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (سورة الملك، تبارك الذي بيده الملك، هي المانعة، وهى المنجية تنجيه من عذاب القبر)([11]).

________________________________

([1]) رواه البخاري رقم (1314)، في الجنائز، باب حمل الرجال الجنازة دون النساء، والنسائي في (4/41)، في الجنائز، باب السرعة بالجنازة.

([2]) رواه البخاري رقم (7506)، في التوحيد، باب قول اللـه - تعالى -: يريدون أن يبدلوا كلام اللـه ، ومسلم رقم (2756)، في التوبة، باب في سعة رحمة اللـه - تعالى - وأنها سبقت غضبه، والموطأ (1/240)، في الجنائز، باب جامع الجنائز، النسائي (4/113) في الجنائز،باب أرواح المؤمنين.

([3]) رواه أبو داود رقم (162،163،164) في الطهارة، باب كيف المسح، وصححه الشيخ الألباني، والأرناؤوط في تخريج جامع الأصول.

([4]) رواه أحمد رقم ( 17128) وأبو داود رقم (4604) في السنة باب في لزوم السنة والحاكم، وهو في صحيح الجامع رقم (8186).

([5]) رواه البخاري رقم (216)، في الوضوء، باب من الكبائر أن لا يستتر من بوله، ومسلم رقم (292)، في الطهارة، باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه، والترمذي رقم (70)، في الطهارة، باب ما جاء في التشديد في البول، وأبو داود رقم (20،21) في الطهارة، باب الاستبراء من البول، والنسائي في الطهارة، باب التنزه عن البول.

([6]) رواه البخاري رقم (1377) في الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر، ومسلم رقم (588)، في المساجد، باب ما يستعاذ منه في الصلاة، والترمذي رقم (3599) في الدعوات، باب الاستعاذة من جهنم، والنسائي (4/275،276)، في الاستعاذة، باب الاستعاذة من عذاب جهنم.

([7]) رواه مسلم (2867)، في صفة الجنة ،باب عرض مقعد الميت من الجنة والنار عليه.

([8]) رواه البخاري رقم (1372) في الجنائز، باب عذاب القبر، ومسلم رقم (584)، في المساجد، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر، والنسائي (4/104)، في الجنائز، باب التعوذ من عذاب القبر.

([9]) رواه أبو داود رقم (3212) في الجنائز، باب الجلوس عند القبر، ورواه ابن خزيمة والحاكم، والبيهقي في شعب الإيمان، وقد جمع الألباني روايات هذا الحديث من جميع مصادره وصححه في صحيح الجامع رقم (1676).

([10]) أخرجه البخاري رقم (4234)، في المغازي، باب غزوة خيبر، ومسلم رقم (115)، في الإيمان، باب غلظ تحريم الغلول، الموطأ (2/459) في الجهاد، باب ما جاء في الغلول، وأبو داود رقم (2711) في الجهاد، باب في تعظيم الغلول، النسائي (4/24) في الإيمان والنذور.

([11]) رواه الترمذي رقم (2892) في ثواب القرآن وصحح إسناده شيخنا الألباني. 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply