النصيحة ليست تشهيرا ولا سبا ولا تحزبا ولا شماتة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

متابعة: خالد بن عبد الله الراشد:

في محاضرة قيمة لفضيلة الشيخ الدكتور سعد بن عبد الله البريك تحت عنوان (النصيحة ضوابط ومحاذير) تحدث فضيلته عن آداب النصيحة وفقه النصيحة، واستشهد بشواهد حية من تاريخ السلف إلى هذا المضمار..المحاضرة ألقيت في جامع صلاح الدين بالرياض وفيما يلي نصها:

أحبتي في الله وموضوع هذه المحاضرة اليوم النصيحة في الضوابط وما ينبغي من الأمور الشرعية التي يجب مراعاتها على من أراد أن يسلك سبيل المؤمنين في القيام في هذا الواجب، والحقيقة أن من المؤمنين من يضيق مفهوم النصيحة في ذهنه ليظن أن النصيحة إنما هي قاصرة على نصح أخ لأخيه أو جار لجاره أو قريب لقريبه أو صديق لصديقه، ولا يظن أن النصيحة أوسع من ذلك لتعم الكبير والوزير والأمير والصغير والحاكم والمحكوم، والكل محتاج إلى هذا، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال كلاما من جوامع الكلم وكلامه وحي يوحى فلا ينطق عن الهوى، قال الدين النصيحة وأعادها ثلاثا قال الصحابة رضوان الله عليهم لمن يا رسول الله، فقال - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي- لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، قال العلماء هذا الحديث عليه مدار الإسلام إذا تبين هذا علمنا أن النصيحة ليست مقصورة على العامة دون الحاكم أو يقصد بها الحاكم دون العامة أو أن النصيحة في باب العقائد دون العبادات أو أنها في العبادات دون الأخلاق والنظم، والحق أننا جميعا بشر والبشر خطاء وكل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابون، مادام الواحد بشرا سواء كان من عامة الناس أو من طلبة العلم أو من أهل الحسبة أو من أهل الدعوة أو من أهل الولاية أو من أهل السلطة، فلا شك أن تصرفاته لا تخلو من نقص ولا تخلو من خلل ولا يعصم إلا من عصمه الله - عز وجل - من أنبيائه ورسله، وما دمنا بشرا فإن تصرفاتنا مظنة للخطأ ومن ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط، أرسل الله - عز وجل - الرسل والأنبياء لنصح أقوامهم فقال عن نوح - عليه السلام -: {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 62] فيجب على الناصح أن يكون عالما بما ينصح به وقال - تعالى -عن هود: {وأنا لكم ناصح أمين} [الأعراف: 68] وقال - تعالى -عن صالح - عليه السلام -: {ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين} [الأعراف: 79] فلا تجزع أيها الناصح إن وجدت أقواما أبغضوك لنصيحتك أو لا يحبون قولك من النصيحة فقد استهزئ برسل من قبلك، والنصيحة هي الإخلاص وتخليص الشيء من الشوائب مع إفلاح العمل، والنصيحة في الشرع كلمة جامعة تتضمن قيام الناصح للمنصوح له بوجوه الخير إرادة وعملا هذا تعريف ابن الصلاح - رحمه الله - في أمر النصيحة والناصح محسن كما قال الله - تعالى -: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم}[التوبة: 91] إذا فالناصح محسن والمحسنون أجرهم عند الله عظيم، ذكر صاحب كنز العمال أن أبا سفيان ابن حرب - رضي الله عنه - طرق الباب في ليلة مظلمة على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وذلك عشية تولي أبو بكر الخلافة - رضي الله عنه - وكان أبو سفيان حديث عهد بجاهلية فلما طرق الباب على علي بن أبي طالب فتح له فقال أبو سفيان يا علي كيف يتولى أبو بكر الصديق الخلافة وهو تيمي وأنت من بني هاشم، إن شئت يا علي ملأت لك الدنيا خيلا جردا وشبابا مردا فقال علي - رضي الله عنه - وأخذ بتلابيب أبي سفيان يا أبا سفيان يا أبا سفيان المؤمنون نصحة والمنافقون غششة والنصح من أعظم الخير وأجمل المعروف، ولذا أوجبه الشارع الحكيم، بل إنه سر السبق وسر القبول وسر الفضيلة وسر العطاء وسر الرضا وسر النفع وسر البركة، إذا امتلأ قلب الإنسان نصحا لإخوانه المسلمين سواء كانوا من أقاربه أم من الأباعد، سواء كانوا ممن يختلفون معه أو يتفقون معه، إذا امتلأ قلبك نصحا لإخوانك وللقريب والبعيد والحاكم والمحكوم والصغير والكبير والموافق والمخالف فإنك تجد بإذن الله بركة في قيلك وقولك وسعيك وعملك وجهدك وما سعيت فيه بأذن الله - تعالى -، قال الفضيل أبن عياض - رحمه الله -: (ما أدرك عندنا من أدرك بكثرة الصيام والصلاة وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة)، وقال أبو بكر الموزني: (ما فاق أبو بكر - رضي الله عنه - أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - بصوم ولا صلاة ولكن بشيء كان في قلبه)، قال ابن علية: (الذي كان في قلب أبي بكر - رضي الله عنه - الحب والنصيحة لخلق الله)، وقال الحسن قال بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - (والذي نفسي بيده إن شئتم لأقسمن لكم بالله إن أحب عباد الله إلى الله هم الذين يحببون الناس إلى الله ويسعون في الأرض بالنصيحة).

 

مقام النصيحة

ولعظم مقام النصح وشرف منزلته وسمو مرتبته كان - صلى الله عليه وسلم - يجعل النصح شرطا في البيعة إذا قدم عليه قوم يبايعونه على الإسلام، وقد أخرج البخاري - رحمه الله - في صحيحه عن زياد ابن علاقة أنه قال سمعت جرير بن عبد الله لما مات المغيرة ابن شعبة، وكان المغيرة آن ذاك أميرا عليهم فقام جرير وحمد الله وأثنى عليه، وقال: عليكم بتقوى الله وحده لا شريك له وعليكم بالوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير لأنه كان يخطبهم وقت مات أميرهم، ثم قال لأميركم يعني أسألوا له العافية من الله فإنه كان يحب العفو، ثم قال أما بعد يقول جرير بن عبد الله البجلي فإني أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أبايعه على الإسلام، فشرط علي مع ما قلت والنصح لكل مسلم فبايعته على هذا ورب هذا المسجد إني لناصح لكم ثم أستغفر الله ونزل، قال ابن رجب - رحمه الله - ومن أنواع النصيحة للمسلمين دفع الأذى والمكروه عنهم وإيثار فقيرهم وتعليم جاهليهم ورد من زاغ منهم عن الحق في القول أو العمل بالتلطف والرفق بهم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومحبة إزالة فسادهم ولو بحصول ضرر للناصح في دنياه، كما قال بعض السلف: وددت أن الخلق أطاعوا الله وأن جسمي قرض بالمقارير، يعني الناصح مولع شغوف حريص في إصلاح الناس ولو دفع الثمن من عرضه بما يسيء الناس به من الظن أو من ماله بما يبذله في نصيحتهم أو ربما بلغه من الأذى، وليس لأحد أن يكون ناصحا بشرط السلامة من أذى الناس.

 

النصيحة في زمن الفتنة

والنصيحة أداة فعالة في الإصلاح الذي يريد الإصلاح على طريقة المؤمنين، والذي يريد أن يكون ناصحا ينفع الله به، يجمع الناس بزمن الشتات ويؤلفهم في وقت الفرقة ويجمعهم في زمن الفتنة، ويسعى أن يحيطهم بالمحبة والأخوة والرعاية وحسن الظن والتآلف، لابد أن يعلم أن النصيحة بكل معناها الشامل هي الأداة الرئيسة في ذلك فمن أراد إصلاح الناس فليس التشهير وسيلة وليس السب وسيلة وليس الشتم وسيلة وليست الشماتة وسيلة وليس التحزب للأحزاب والجماعات والفرق وسيلة وليس كل أمر من الأمور التي خرجت عن هدي الكتاب والسنة ونهج السلف وسيلة، إنما الحق في ما جاء من كتاب الله وسنة رسوله في اعتماد هذه النصيحة التي بينها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجمع الدين فيها فقال الدين النصيحة الدين كل الدين في النصيحة، لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، النصيحة لله - تعالى -توحيده في ربوبيته واعتقاد بأنه المدبر المتصرف في الكون، وما من أمر من أفعال الربوبية إلا والله متفرد بالتصرف والتدبير فيه وحده لا شريك، والنصيحة لله في عبوديته أن كل عبادة دقت أو جلت صغرت أو كبرت قلت أو كثرت كلها لله - عز وجل - لا يستثنى من ذلك شيء، والنصيحة لله في أسمائه وصفاته أن يوحد الله بأسمائه، وأن يسمى بما سمى به نفسه وأن يوصف بما وصف به نفسه وأن يسمى بما سماه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وأن يوصف بما وصفه به رسوله - صلى الله عليه وسلم -: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون} [الأعراف: 180]، إذا النصيحة لله في أسمائه وصفاته أن يسمى الله وأن يوصف بما رضيه لنفسه ورضيه رسوله -صلى الله عليه وسلم- وسماه به، وما سوى ذلك فلا يجوز {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسـئـولا} [الإسراء: 36] وأما النصيحة لكتاب الله - عز وجل - فهي الإيمان بأنه كلام الله منزل غير مخلوق، وتلاوته وتدبره وفهم معانيه والعمل بأحكامه والتحاكم إليه والذب عن هذا الكتاب من تأويل الغالين وتحريف المبطلين وتزييف الملحدين، والإيمان بأن ما تضمنه من الأحكام هو مالا يستقيم أمر البشرية إلا به {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير (14)} [الملك: 14] والإيمان بأن البشرية ميتة وميتة لا حياة لها إلا بالقرآن {أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها} [الأنعام: 122]، والاعتقاد بأن الناس في ظلمات ولا سبيل إلى النور إلا بالقرآن {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان} [الشورى: 52]، وأما النصيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد قال الإمام أحمد ابن حنبل إن من فرائض القلوب اعتقاد النصيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تكون بالإيمان بنبوته وبرسالته، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، وأنه يبلغ عن الله حقا وصدقا ما افترى عن الله حرفا وما كتم عن الله علما، وهو الصادق المصدوق الرءوف الرحيم بالأمة {لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم} [التوبة: 128]، ومن النصيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تجريد المتابعة والتأسي والاقتداء والانقياد لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن المخالفة لهدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، هي باب الشقاق وباب الهلاك وباب البوار والدمار، {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم (63)} [النور: 63]، يجوز لأحد أن يرى أنه قصر النبي - صلى الله عليه وسلم - في تبليغه والذين يصرون على الابتداع إما أنهم يقولون إن النبي نسي فذكرنا أو قصر فأكملنا أو زاد فاعتدلنا أو قلل فأكثرنا، ومن تعدى أو زايد أو استدرك على النبوة فلا شك أنه قد جاء بشرع من عنده (ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، كذلك الأسوة التامة والأسوة الحسنة في الاقتداء بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم - {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} [الأحزاب: 21].

 

الذب عن السنة

 ومن النصيحة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإخلاص في محبته والذب عن سنته والسعي في نصر هذه السنة ومؤازرتها فإن أقام يستوي عندهم الأمران أن يكون سن سنة أو بدعا، أن يكون موافقة أو مخالفة، أن يكون زيادة أو نقصا، أن يكون اتفاقا أو اختلافا، والواجب على المسلم إذا كان ناصحا لنبيه أن يجتهد في الطاعة والاقتداء والموافقة في الزمان والمكان والقدر والنوع والكم لا أن يتزيد بشيء على النبي - صلى الله عليه وسلم -، هذا فيما تعلق بالعبادة وفيما أخبر به النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا الأمة إلى الأخذ عنه باعتباره من أمور الدين ومناسك الملة، والنصيحة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما أخبر الإمام الأجري نصيحة له في حياته ونصيحة له- صلى الله عليه وسلم - بعد مماته، وأما النصح للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته فهو ما وجب على أصحابه من نصرته - صلى الله عليه وسلم - والذب والذود عنه بالأنفس والمهج والأرواح، والنصح للنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد مماته كما يقول الأجري التزام إجلاله وتوقيره - صلى الله عليه وسلم - مع شديد المحبة الكاملة والمثابرة على تعلم سنته والتفقه في شريعته ومحبة أهل بيته وأصحابه - رضي الله عنهم - أجمعين ومجانبة من رغب عن سنته وانحرف عنها، والمصيبة كما قال الأول ولو أني رميت بهاشمي خؤولته بنو عبد الميداني لهان علي ما ألقى ولكن رماني فانظروا بمن ابتلاني المصيبة أن أقواما يسبوننا ويسبون أهل السنة ومن كانوا على طريقة السلف، ويقولون إنهم جفاة في مقام النبوة وأنهم لا يتأدبون مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن أحدهم يفضل عصاه على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وألفوا في ذلك الكتب ونشروا في ذلك الأكاذيب ورددوا في ذلك الافتراءات زورا وبهتانا على أهل السنة والحق، أن أهل السنة هم أكثر الناس محبة وأكثر الناس تعلقا وأكثر الناس ذبا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن سنته، وأكثر التزاما بهديه وطريقته، إننا لا نريد أن نحدث شيئا من أنفسنا ما سبقنا إليه من لا يزايد أحدا على محبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر وعمر، يأتي أقوام يتوسلون بالقبور ويستغيثون بالأضرحة ويصيحون عند مقامات الأولياء الفرج والغوث والمدد ويطلبون منهم أشياء لا ترجى إلا من الله - عز وجل -، كما قال الصنعاني في داليته المشهورة:

 

وقد هتفوا عند الشدائد باسمه * * *  كما يهتف المضطر بالصمد بالفرد

ونقول لأولئك الذين يلوموننا إننا ما استغثنا بقبر نبينا، ونقول لأولئك الذين يلوموننا إننا لا نرى التوسل بقبر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ويلوموننا أننا لا نرى أن نحدث في شأن النبوة والدين والملة والعقيدة أمرا لم يرضه ولم يقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نقول لهم هل تعلمون على وجه الأرض قبرا أعظم من قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، نفسي الفداء لمن قد كان يسكنه، فيه العفاف وفيه الطهر والحرم، لا يوجد على وجه الأرض قبر أعظم فيما ضمه من مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يوجد على وجه الأرض أعظم من أبي بكر - رضي الله عنه - وعمر وعثمان وعلي، أولما ارتدت العرب ومنعت الزكاة هل سمعتم أو قرأتم أو نقل لكم أن أبا بكر، وقد كان شديد المحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - جاء عند القبر وأخذ يصيح وينوح ويقول يا رسول الله أدركنا فإن العرب قد منعت الزكاة وارتدت، من الذي جاء بهذا الفقه الذي جهله أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، هل سمعتم أن عمر بن الخطاب عام الرمادة والمجاعة جاء إلى القبر وأخذ يتمسح أو يستغيث أو يصيح أو ينوح ويقول يا رسول الله أدركنا فإن أمتك في جوع ومثغبة، هل علمتم أن عثمان بن عفان وقد حاصره أهل الفتنة جاء أو أرسل أحدا يستغيث عند قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقول يا رسول الله أدركني فإن الأمم تألبت من الأنصار علي يريدون أن ينزعوني قميصا ألبسني إياه الله - عز وجل -، هل سمعتم أن علي بن أبي طالب أو عائشة - رضي الله عنها - أو أحد، من الصدر الأول ناحوا وصاحوا وبكوا وذبحوا ونحروا وطافوا واستعانوا وتعلقوا بالقبر وقالوا: يا رسول الله! فرج عنا الكربات وأغث اللهفات وأجب الدعوات؟! لا والله إذا من أين جاؤونا في آخر الزمان بأنواع هذه البلايا، ولما خالفنا من خلفنا وقلنا ما كان هذا من رسول الله ولا يرضاه وما كان ذلك في دين الله {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة: 186]، ولم يوجهنا ربنا بالاستغاثة ببشر أبدا قالوا إنهم لا يحبون النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا إنهم لا يعظمون مقام النبوة، وقالوا إنهم جفاة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - لا والله إنما هو التزام واقتداء واقتفاء واستدعاء لا نبرح فيه قيد أنمله عما رضيه - صلى الله عليه وسلم -، لأمته في شأن اتباعه وفي شأن عبودية الأمة لربها - عز وجل -، أما النصيحة لعلماء الإسلام فهم كراس النبوة علم وعبادة ودعوة وأخلاق، والعلماء من أولي الأمر لأنهم يبشرون العامة ويتصلون بعامة الناس في قضاء حوائجهم في الفتية في القضاء في التعليم في الإرشاد في التوجيه في النصح في إصلاح ذات البين، فحق للعلماء أن يكونوا من ولاة الأمر، إذ هم الذين يبينون دين الله - عز وجل - والصنف الثاني من ولاة الأمر، والنصيحة لله ورسوله وكتابه وأئمة المسلمين وعامتهم، الأئمة صنفان أو شقان شق هم العلماء وشق هم الولاة والأمراء القائمون على تنفيذ الشريعة والحراسة على إقامتها بين العباد، إذ إن أمر الشرع لا يقام إلا بالحاكم، من الذي يقطع رقبة الجاني قصاصا إذا اعتدى عمدا وعدوانا على من أزهق روحه، من الذي يقطع يد السارق حدا، من الذي يجلد الزاني بكرا أو يرجمه محصنا أو يجلده على الشرب حدا، من الذي يقيم الحدود لا شك أنهم الولاة... من طريف ما أحفظه وحضرته وكنا مع سماحة الإمام العلامة الشيخ عبد العزيز بن باز في الحج في إحدى السنوات وجاءه جمع من المسلمين الذين أسلموا إبان حرب الخليج الأولى قبل الأخيرة، هذه قبل حوالي ثلاث عشرة سنة تقريبا أو اثنتي عشرة سنة، فقالوا يا سماحة الشيخ والمترجم يترجم أسئلتهم، قالوا إن معنا أناسا ممن أسلموا هنا فلما ذهبوا إلى الولايات المتحدة ارتدوا فهل نقيم عليهم حد الردة، يريدون أن ينفذوا الأحكام على أقوام من إخوانهم ومن جماعتهم ومن زملائهم، فقال سماحته وأذني تسمع وعيني ترى لا لا الأحكام لا يقيمها إلا الإمام، ناصحوهم علموهم ادعوهم بالرفق باللين قربوهم تألفوهم أما يتعلق بالأحكام فلا بد أن يقيمها الإمام، إذ الولاة والأئمة هم حراس على تنفيذ أحكام الشريعة، لولا الأئمة لم تؤمن لنا سبل وكان أضعفنا نهبا لأقوانا، يجب أن نعلم أن المسؤولية متكاملة والذي يريد صلاح الناس بدون إصلاح ولاتهم كالذي يخط في البحر، والذي يريد إصلاح الولاة من دون إصلاح عامتهم كالذي يخط في البحر والرمل أيضا، الذي يريد أن يبني بنيانا على أسس متينة فليعتني بالإصلاح بكل جوانبه وفي كل ميادينه وفي كل مجالاته، يقول الشيخ ابن عثيمين في النصيحة للعلماء والنصح للعلماء يكون بمحبتهم ومعونتهم ومساعدتهم في بيان الحق والذب عن أعراضهم، فلا يقر أحد على غيبتهم أو الطعن فيهم أو الوقوع في أعراضهم وإذا نسب إلى أحد من العلماء شيء يستنكر فالواجب ما يلي:

أولا: التثبت من نسبة ما قيل إلى العالم فكم من أشياء نسبت إلى العلماء وهي كذب افتراء لا حقيقة لها ولا أصل

الثاني: أن تتأمل هل ما قاله الناس عن هذا العالم محل انتقاد أم لا لأنه قد يبدو للإنسان في أول وهلة أن القول منتقد، وعند التأمل يرى أنه حق فلا بد أن يتأمل حتى ينظر هل هذا الكلام الذي انتقده من انتقده، هل هو منتقد فعلا أم أنه منتقد عند فهم العوام، وأما أذا بلغ الأمر استنباط العلماء فإنه وجه من وجوه الشرع وباب من أبواب الخلاف وقول من أقوال في الاجتهاد ولا يثرب على العلماء في مسائل الاجتهاد.

 المرحلة الثالثة: إذا تبين أن ما قاله العالم ليس بمنتقد فالواجب الذب عن هذا العالم، ونشر هذا الذب بين الناس وأن يبين ما قاله العالم حق وصواب ولو خالف ما عليه الناس، ليس شأن العالم أن يكون فنانا يغني للجماهير حتى يطربها ويعزف لها حتى تتراقص على معزوفته، العالم يحمل الناس على الشريعة وعلى الملة، سواء رضوا بذلك أم أبوا، أما الذي يسعى إلى كسب رضا الجماهير فذلك هو الفنان أو الممثل الذي يريد أن يتراقص الناس طربا لأقواله أو عزفه أو وتره أو غناه، أما العالم فليس بالضرورة أن يكون كلامه مرضيا للناس، وكم من عالم وداعية إلى الله قد قال قولا نفر منه كثير من الذين لا يعلمون، وتكلموا في المجالس وأشاعوا عنه الأقاويل ثم استفاقوا، منهم من كبر بعد صغر ومنهم من تعلم بعد جهل ومنهم من أفاق بعد سكرة ومنهم من عاد إلى الورع بعد إسراف في أعراض العلماء والدعاة، فرجع نادما عما كان يقوله وينشر أو من كان يفتري وينتقل، والحق أن العالم يقول ما يعتقده مؤيد بالدليل من كلام الله ورسوله رضي العامة أم أبوا والله إني لا أنسى مواقف كثيرة قد سئل فيها الشيخ بن باز فقال فيها أقوالا قد لا ترضي كثيرا من الناس طولا وعرضا وشرقا وغربا ثم عادوا إلى ما قاله - رحمه الله - وأسكنه فسيح جناته.

 

خطأ العالم

 المرحلة الرابعة: في ما يقوله الشيخ ابن عثيمين إذا تبين لك أن ما نسب إلى العالم وصحة نسبته إليه تبين لك أن كلامه ليس بصواب فالواجب حينئذ ألا يقر العالم على خطئه وإنما يتصل به بأدب ووقار ويقال سمعنا كذا وكذا ونحب أن يبين أو تبين لنا وجه قولك في هذا، فإذا بين لك هذا فلك حق المناقشة بأدب واحترام والتعظيم بحسب مكانته وما يليق به، الآن يكفي أن تقول أو أن يقول عن عالم أو داعية إلى الله، يكفي أن يقول قولا ولو كان له وجه يؤيده الدليل والاجتهاد والشرع، إذا كان لا يوافق هوى بعض العامة فتراهم يشرقون ويغربون في سبه ونقده وشتمه وكأن رضا الناس هو الحكم الفيصل والقاطع والفرقان على الضلال والحق والصواب والباطل والأخطاء وضده لا، ليس الناس في أكثريتهم بجهلهم أو بطيشهم أو بحماسهم عبرة فيما يحكمون به، إنما العبرة بالحق ومن أراد أن يرضي الجماهير سيتعب لأن الناس ولا سيما في هذه الآونة انقسمت، فإن أرضيت هذه الطائفة أسخطت الأخرى، وإن أرضيت هؤلاء أسخطت هؤلاء، وإن أرضيت من كان في هذا الطرف أسخطت من كان في الطرف الآخرº لذا فعليك أن تتجرد للدليل ومن لم يرضه الدليل فلا - رضي الله عنه -، ومن لم يرض بالدليل فلا أرضاه الله ومن لم يكتف أو يكفيه الدليل فلا كفاه الله، وإذا تعلقت بأمر الدليل المعصوم فعلا وتركا وإقداما وإحجاما وبذلا ومنعا ما ضرك بأذن الله أحد، وإن شانئك كان على حق سيعود راضيا مستغفرا مستبيحا لك ما شاء، إذا كنت عبدا لله منقادا للدليل هل تستوي مع من كان عبدا لفلان وفلان وفلان يتعبدهم في طلب واستجداء رضاهم والحرص على القبول أو أخذ ما يرضيهم عنه والحرص على موافقتهم، هذا فيه شركاء متشاكسون سيسخط هذا ويرضي هذا ويقبل هذا ويدبر هذا، فإذا أردت السلامة فكن عبدا لله وكن على نهج الدليل رضي من رضي وأبى من أبى، يقول الشيخ ابن عثيمين أما ما يفعله بعض الجهلة الذين يأتون إلى العالم الذي رأى خلاف ما رأوه، يأتون إليه بعنف وشدة وربما نفضوا أيديهم في وجه العالم وقالوا له ما هذا القول الذي أحدثته، ما هذا القول المنكر وربما رموه بالبدعة ونبذوه بالألقاب الشنيعة، وبعد هذا التأمل ترى وتجد أن هذا العالم موافق للحديث والصواب، وأن هؤلاء الذين نفضوا أيديهم في وجه وعنفوا عليه هم المخالفون، يقول ابن عثيمين - رحمه الله - وغالب ما يؤتى هؤلاء من إعجابهم بأنفسهم وظنهم أنهم أهل السنة، وأنهم على طريقة السلف، أنا أذكر أن اجتماعا ضمني قبل أكثر من ثلاث عسرة سنة تقريبا وكان هناك حديث وحماس واجتماعات ولقاءات فاجتمعنا في مقام أو مكان فيه حضور وتكلم رجل كلاما يأخذ بالألباب وأراد أن يستنفذ الناس من حيث لا يشعرون إلى أن يأخذ بقلوبهم ميلا إلى القول بعدم اعتقاد الإمامة للإمام أو الحاكم، فاستوقفته مستأذنا وقلت أيا أبا فلان كلامك جميل ولكن نريد أن نؤسس الكلام والحوار على مسألة، نحن ليس ضد ما تقول في وجوب النصيحة، لسنا ضد ما تقول برفع المظالم، نحن ليس ضد ما تقول في أهمية المناصحة والإلحاح في النصيحة والحرص على الإصلاح، ولكن كلامك هذا ينبعث من اعتقادك أن الإمام مسلم منعقدة له البيعة واجبة له السمع والطاعة، قال أرجوك لا تدخلنا في أشياء خارج الموضوع قلت يا حبيبي إن الماء الذي نشربه ونسقي به الزروع والثمار يمكن أن يسقي الغرسة حتى يثمر، ويمكن أن نسلطه حتى يقتلع الثمار والأشجار فيجب إذا كنت ناصحا أن يكون حديثك في النصية لولي الأمر متفرعا عن اعتقاد إسلامه واعتقاد إمامته واعتقاد البيعة والسمع والطاعة له، ثم بعد ذلك يكون حديثك في مقامه، ولسنا بهذا أبدا ندعو أن يفتن الناس واحدا واحدا أو أن يتهم الناس أو أن يشكك في الناس فيقال تعال يا فلان أنت تعتقد أن الحاكم مسلم أم لا، تعتقد أن الإمام له بيعة أم لا، تعتقد واجب السمع والطاعة أم لا، هذا من فتنت الناس فلا ينبغي ولا يجوز، بل هذا شبيه بالفتنة، وإن كانت على المقلوب في عهد الإمام أحمد لما فتنة الناس زمن المأمون وفتنهم ابن أبي دعاة بقول في خلق القرآن، ليس من منهج السلف أن يفتن الناس وأن يسألوا هل ترون السمع والطاعة أولا أو اعتقاد البيعة أو لا أو اعتقاد إسلام الحاكم أو لا، أبدا لا مزايدة ولا مجال في هذا، ولكن الذي يريد أن ينصح لحاكم فيجب أن تكون نصيحته له فرعا لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال لكتابه ورسوله وأئمة المسلمين فكيف يكون أمام وكافر لا بد أن يكون مسلما إذا قلنا بأنه إمام تجب نصيحته وتجب مناصحته، روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله يرضى لكم ثلاثا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم)، وروى الإمام أحمد عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثا لا يغل عليهن قلب امرئ مسلم إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين، والنصيحة تكون باعتقاد إمامتهم وإمرتهم، النصيحة لولاة الأمر هكذا تكون النظرة المتوازنة في مناصحة المسلمين وعلمائهم وولاة أمرهم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply