كيف يمكننا أن نتخلَّص من داء العُجب بالنفس؟


 

بسم الله الرحمن الرحيم


موضوع العُجب موضوعٌ مهمَ، لأنَّه يتداخل مع مكنونات النفس البشريَّة، كما أنَّه من أخطر الأمراض فتكاً بالمسلم، ولذلك حذَّرنا منه ديننا تحذيراً شديدا.
وكي نعرف كيف نتخلَّص من العُجب، علينا أن نفهم ما هو العُجب أوَّلا، ثمَّ ما علاماته، ثمَّ وسائل علاجه.
والكلمات التالية هي نقولاتٌ أتينا بها من كتب علمائنا وأساتذتنا حول هذا الموضوع.

- ما العُجب؟
* قال الإمام الغزاليٌّ في \"إحياء علوم الدين\":
\"العُجب هو استعظام النعمة والركون إليها، مع نسيان إضافتها إلى المنعم\".

* وهو درجتان يوضِّحهما الإمام ابن قدامة المقدسيٌّ في \"مختصر منهاج القاصدين: \"العُجب إنَّما يكون بوصف كمالٍ, من علمٍ, أو عمل، فإن انضاف إلى ذلك أن يرى حقًّا له عند الله كان إدلالا، فالعُجب يحصل باستعظام ما عُجِب به، والإدلال يوجب توقٌّع الجزاء، مثل أن يتوقَّع إجابة دعائه وينكر ردَّه\".

*ويوضِّح هذا المعنى الشيخ حسن أيَّوب في \"السلوك الاجتماعيِّ في الإسلام\": \"لا يكون العُجب إلا بسبب وصفٍ, فيه كمالٌ للإنسان مع علم الإنسان بهذا الوصف في نفسه، فمن علم بكمال نفسه في وصفٍ, من الأوصاف -مثل المال، أو الجمال، أو العلم، أو الشجاعة، ونحو ذلك- له أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون خائفًا من زوال النعمة والوصف الذي هو كمالٌ فيه، وهذا ليس بمعجَب، لأنَّ خوف زوال النعمة لا يجعله يركن إليها.
الحالة الثانية: ألا يخاف زوال النعمة، ولكنَّه يفرح بها باعتبارها نعمةً من الله تعالى، وهذا أيضاً ليس بمعجَب، لأنَّه لم ينسَ إضافتها إلى ربِّه ومولاه سبحانه.
الحالة الثالثة: ألا يخاف زوالها، ولا ينظر إلى كونها نعمةً من الله سبحانه بل ينظر إلى كونها كمالاً له يفرح به ويطمئنٌّ إليه، كأنَّه يرى أنَّه شيءٌ يستحقٌّه ولا فضل لله عليه، وأنَّه كمالٌ لا يزول عنه، وهذا هو العُجب.
فإن زاد المعجب على ذلك بأن رأى أنَّه يستحقٌّ من الله تعالى مطلق التكريم، ولا يتوقَّع مكروهاً يحدث له فهو حينئذٍ, مُدلُّ على الله، والإدلال على الله أشدٌّ من العُجب، وإن رأى بما يعطيه للناس ممَّا أنعم الله عليه أنَّ له حقًّا على الناس الذين يعطيهم كأن يقوموا له، أو يقضوا حوائجه، فإنَّه يعتبر مدلاًّ على الناس، وهذا الإدلال هو المنٌّ المذكور في قوله تعالى: \"ولا تمنن تستكثر\"\".

- ما علامات العُجب؟
* يقول الإمام ابن قدامة: \"واعلم أنَّ العُجب يدعو إلى الكبر، لأنَّه أحد أسبابه، فيتولَّد من العُجب الكِبر، ومن الكبر الآفات الكثيرة، وهذا مع الخلق.
فأمَّا مع الخالق، فإنَّ العُجب بالطاعات نتيجة استعظامها، فكأنَّه يمنٌّ على الله تعالى بفعلها، وينسى نعمته عليه بتوفيقه لها، ويعمى عن آفاتها المفسدة لها\".

* ويفصِّل علاماته الشيخ حسن أيٌّوب: \"والعُجب يدعو إلى نسيان الذنوب وإهمالها، أو استصغارها واحتقارها، وفي ذلك هلاك الإنسان وضياعه.
كما أنَّه يؤدِّي إلى استعظام العبادات والأعمال الصالحة، والتبجٌّح بها عند نفسه وعند الناس.
والمعجَب يغترٌّ بنفسه وبرأيه، ويأمن مكر الله وعذابه، ولا يستفيد من غيره باستشارةٍ, أو نصيحة، ولا يتأثَّر بوعظ غيره، ولا بإرشاده وتوجيهه، وبذلك يُغلِق على نفسه نوافذ الحكمة، ويعيش مع نفسه في عزلةٍ, بغيضة -نسأل الله العفو والعافية لنا ولجميع إخواننا-، والعجب بداية الكبر، وأنَّ التكبٌّر أثر الكبر الكامن في النفس، وأنَّ الخُيَلاء من الآثار القاتلة للمتكبرين\".

- علاج العُجب:
* يقول الإمام ابن قدامة: \"اعلم أنَّ الله سبحانه هو المنعم عليك بإيجادك، وإيجاد عملك، فلا معنى لعُجب عاملٍ, بعمله، ولا عالِمٍ, بعلمه، ولا جميلٍ, بجماله، ولا غنيٍّ, بغناه، إذ كلٌّ ذلك من فضل الله تعالى، وإنَّما الآدميٌّ محلُّ لفيض النعَم عليه، وكونه محلاًّ له نعمة أخرى.
فإن قلت: إنَّ العمل حصل بقدرتك، فمن أين قدرتك؟ ولا يُتصوَّر العمل إلا بوجودك ووجود عملك وقدرتك، وكلٌّ ذلك من الله تعالى لا منك، فإن كان العمل بالقدرة، فالقدرة مفتاحه، وهذا المفتاح بيد الله تعالى، وما لم تُعطَ المفتاح لا يمكنك العمل، كما لو قعدتَّ عند خزانةٍ, مغلقةٍ, لم تقدر على ما فيها إلا أن تُعطَى مفتاحها.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: \"لن يُدخِل أحداً منكم عملُه الجنَّة\"، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟، قال: \"ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمةٍ, منه وفضل\".

* ويقول الشيخ حسن أيٌّوب: \"والعُجب هو نفسه المرحلة الأولى من مراحل الكبر، فيجب على الإنسان أن يجاهد نفسه في سبيل القضاء عليه، وذلك بردِّ النِّعَم كلِّها إلى الله سبحانه وتعالى مع الخوف من زوالها بسبب معصيةٍ, أو تقصيرٍ, أو امتحانٍ, وابتلاءٍ, من الله سبحانه وتعالى\".
ثمَّ يقول:
\"طرق التخلٌّص من الكبر والبرء منه:
الكبر أنواع:
كبرٌ على الله تعالى: وحكمه الكفر.
وكبرٌ على رسله: وحكمه الكفر أيضا.
وكبرٌ على الناس كلِّهم أو بعضهم: وحكمه الكفر أو الفسق دون الكفر.
والعلاج من الكبر على الله وعلى رسله يكون بالإيمان بالله ورسله، والإيمان بما جاء به الرسل، مع حبِّ الرسول وطاعته، والتواضع لله والخضوع لكلِّ ما جاء عنه تعالى، والتواضع للرسول، والخضوع لكلِّ ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم.
فإن آمن بالله ولم يخضع ولم يستسلم ولم يذعن لكتابه تعالى ودينه وأمره ونهيه وإرشاده فهو كافرٌ كاذب الإيمان.

وأمَّا العلاج من الكبر على الناس، فإن كان تكبٌّراً على دعوة الله ودينه، فعلاجه الإيمان بالله وبرسوله وبدينه إيمان إذعانٍ, واستسلامٍ, وخضوع.
وإن كان تكبٌّراً على الناس بسبب الثقافة، أو المناصب، أو الغنى، أو الحسب، أو غير ذلك فإليك طرق العلاج للتخلص منه:
1- عليه أن يقرأ الآيات والأحاديث التي نفَّرت من الكبر وبيَّنت جزاء المتكبِّرين في الدنيا والآخرة، ويحاول أن يتمعَّن فيها حتى يدرك ما ترمي إليه، ويتأكَّد من خسارة المتكبِّرين بدون أن ينالوا بكبريائهم شيئاً إلا بغض الناس لهم، ونفرتهم منهم، وسخط قلوبهم عليهم.
ومن أدرك أنَّ كبر ساعةٍ, أعقبه حسرة الأبد -كحال من جرَّ إزاره خُيَلاء- وأدرك أنَّ المتكبِّرين يحشرون يوم القيامة كأمثال الذرّ، وأنَّ الجنَّة لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرَّةٍ, من كبر، وأنَّ أهل الكبر هم أهل النار يوم القيامة، وأنَّ المتكبِّرين محطٌّ سخط الله وغضبه.. من أدرك ذلك تطامن وتواضع، وخشع لله وخضع، وعاد إلى صوابه وارتدع.

2- على المتكبِّر أن يدرك حقيقة نفسه من مبدأ تكوينه إلى نهايته، ومن بدء حياته إلى يوم موته، فلو فكَّر في ذلك تفكيراً مستنيراً ما وجد سبباً لكبريائه وخُيَلائه، وعُجبه وفخره، فقد كان عدماً محضاً لا وجود له: \"هل أتى على الإنسان حينٌ من الدهر لم يكن شيئاً مذكورا\".
ثمَّ أنشأ الله أصله من ترابٍ, يوطأ بالأقدام: \"ومن آياته أن خلَقكم من تراب\".
وفي تسلسله تمَّ خلقه من نطفةٍ, تُستَقذَر: \"ألم يك نطفةً من منيٍّ, يُمنَى\".
ثمَّ حوَّله الله تعالى وطوَّره كذلك: \"ثمَّ خلقنا النطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً ثمَّ أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين\". \"ثمَّ إنَّكم بعد ذلك لميِّتون، ثمَّ إنَّكم يوم القيامة تُبعَثون\".
ثمَّ ماذا بعد ذلك؟
ثمَّ هو في أثناء تقلٌّبه في بلاد الله، وتكبٌّره على عباد الله لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرًّا إلا ما شاء الله، فهو يجوع ويعطش، ويسقم ويمرض، ويسخن ويبرد، ويجهل وينسى، ويغفل ويسهو ويحزن ويجزع، ويقلق ويضطَّرب، يستلذٌّ أطعمةً فيها هلاكه، ويكره أدويةً فيها شفاؤه، يدور بهمومه على الناس يشكو إليهم ويبكي لعلَّهم يسعفونه أو يرحمونه، فهو مرّةٌ حزينٌ يبحث عمَّن يسلِّيه ويعزِّيه، وأخرى مريضٌ يبحث عمَّن يعالجه ويشفيه، وثالثةٌ فقيرٌ محرومٌ يطلب من يطعمه ويسقيه.
لكلِّ عضوٍ, من أعضائه طبيبٌ يتردَّد عليه، ولكلِّ مفصلٍ, من مفاصله دواءٌ يحتاج إليه، ولكلِّ طورٍ, من أطوار حياته همومٌ ومشكلات، ولكلِّ ولدٍ, من أولاده مطالب وحاجات، ومن كانت هذه حياته، وتلك همومه وأحواله، فجديرٌ به أن يخضع ويخضع ويخضع... لله يخضع... ولرسوله يخضع... ولعباد الله يخضع...

3- على الإنسان أن يدرك أنَّ مصيره بيد الله وحده، وأنَّه دائم الحاجة إليه تعالى، وإلى رضاه ورحمته، وعفوه ومغفرته، وأنَّ يوم موته هو بدء رحلته إلى ربِّه، وكلَّ أمره خاضعٌ لعمله من أوَّل لحظةٍ, ينادَى فيها ليلقى الله، ويجازَى على ما قدَّمت يداه، ولا يدري عند موته، أتنزل عليه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ وهل يجيب الملَكين في قبره، أم يضلَّ عن الجواب؟!، وهل يكون قبره روضةً من رياض الجنَّة أم حفرةً من حفر النار؟ وهل يُحشَر يوم القيامة مع الصالحين، أم يُدفَع به في صفوف الفجَّار؟ وهل يسمع من الله كلمة رضا، أم يسمع سخط الملِك الجبَّار؟ وهل يُحشَر مع المتَّقين إلى الجنَّة، أم يساق مع المجرمين إلى عذاب النار؟ وهل يرى أهله وأولاده في بحبوحة النعيم، أم يُحال بينه وبينهم في يوم المذلَّة والعار؟
أمع ذلك كلِّه يجد المتكبِّر في نفسه سبباً للكبرياء؟
حقّا: \"فإنَّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور\"، \"ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور\".

4- ثمَّ على المتكبِّر أن ينظر إلى ما يتكبَّر به،
فإن كان علِماً فيعلم أنَّه مهما أوتي من العلم فإنَّ فيه جهلاً يساوي أضعاف علمه بملايين الملايين، أي بما لا يُحصَى: \"وما أوتيتم من العلم إلا قليلا\"، لقد كان موسى رسولاً علم عن الله تعالى علماً لا يقاربه فيه أحدٌ من قومه، ومع ذلك أمره الله تعالى أن يتتلمذ على يد الخضر عليهما السلام حتى يدرك أنَّه ليس لأحدٍ, أن يقول أنا أعلم الناس، وكان سليمان عليه السلام رسول علِم عن الله تعالى علماً لا يقاربه فيه أحدٌ من قومه، ومع ذلك قال له الهدهد (الطائر): \"أحطتٌّ بما لم تُحِط به وجئتك من سبأٍ, بنبأٍ, يقين\".
وعلى الإنسان أن يدرك أنَّ الطيور في حياتها، والحشرات في حركاتها، والحيوانات في أعمالها تدرك بالغريزة ما لا حصر له ممَّا يقف الإنسان أمامه مشدوهاً حائراً يعلن جهله، ويخفض رأسه، ثمَّ هو لا يدري أيكون علمه حجَّةً له يوم القيامة أم يكون حجَّةً عليه؟ وتلك وحدها قاصمة الظهور!!

5- وإن كان متكبِّراً بسبب أصله، ونسبه فأصله في الحقيقة طينٌ وماء، ثمَّ نطفة، ثمَّ مضغة... إلخ، أمَّا آباؤه وأجداده فما شرفوا إلا بصفاتهم وأخلاقهم وحسن أعمالهم، فإن فعل مثلهم فقد شرف بعمله لا بهم، وإن انحطَّ في صفاته وأخلاقه فما ينفعه كرم آبائه، وشرف أجداده، بل يصدق فيه قول الشاعر:
لئن فخرتَ بآباءٍ, ذوي شرفٍ,....... لقد صدقتَ، ولكن بئمسا وَلَدوا

6- وإن كان متكبِّرًا بجماله، فليعلم أنَّ التكبٌّر بالجمال من دأب النساء الحمقاوات، وأنَّه لو نظر إلى نفسه نظرة العقلاء المتدبِّرين لغيَّر رأيه في نفسه، ولنزل من كبريائه وتعاليه ليحفر لنفسه قبراً يعيش فيه.
فالإنسان العاقل ينظر إلى ما فيه من أسباب التواضع قبل أن ينظر إلى ما فيه من أسباب الكبرياء، وإلا فهو طاووسٌ يتبختر، وليس إنساناً يتفكَّر.
إنَّه يمشي -\"كما يقول الإمام الغزاليٌّ في الإحياء\"-: والرجيع في أمعائه، والبول في مثانته، والمخاط في أنفسه، والوسخ في أذنيه، والصنان تحت إبطه، وقد خُلِق من أقذار، وسكنت في بطنه أقذار، ويصير بعد موته جيفةً هي أقذر الأقذار، فبأيِّ شأنه يتكبر؟!!\" أ.هـ بتصرٌّف.
ثمَّ هو إن مرض مرض جماله، وإن شاخ زال حسنه وبهاؤه، وإن ساء خلقه ذلَّ بسوء الخلق كبرياؤه.

7- وإن كان التكبٌّر بسبب الغنى وكثرة المال، فليعلم أنَّ الإنسان التافه هو الذي يتعالى على الناس بما في يده، لأنَّ ما في يده من المال إن سُرق ذلَّ، وإن أُحرق أو أُغرق جزع وضلّ، وإن خُزِّن في الخزائن شقي طول عمره بسبب أنَّه يحرسه لغيره ولا ينفق منه ليومه، وغده -يوم لقاء ربِّه-.
وليس شكر الله الذي أنعم، أن يتكبَّر الإنسان على من حُرم، وليس عدلاً في ميزان العقل أن يتعالى من بيده مالٌ على من يُنَمِّي له ماله ويزيده له ويحرسه ويرعاه.. وكلٌّ ذلك يفعله المجتمع الذي يتكبَّر الغنيٌّ عليه.. فالمتكبِّر ما شكر الله الذي أعطى، وما شكر الناس الذين ثمَّروا ماله وحرسوه وحافظوا عليه، ولو تدبَّر الأغنياء ما فعله الله بأمثالهم من المتكبِّرين لتواضعوا لعباد الله، وقدَّموا لهم آيات الشكر والثناء.

8- وإن كان الكبر بسبب السلطان والمنصب والرياسة فهو في حاجةٍ, إلى من يقول له: إنَّ ما في جيبك من مالٍ, هو من عَرَق من تتكبَّر عليه، وإنَّ الكرسي الذي يحملك، والسيارة التي توصلك، والثياب التي تجمِّلك... كلٌّ ذلك من عصارة دم الشعب الذي تعاليت عليه وتكبَّرت، ونأيت عن احترامه وأعرضت، وإنَّك تحوَّلت حين تكبَّرت إلى خُرَّاجٍ, في جسم الأمَّة، ووباءٍ, في بطن الشعب...
إنَّك أيٌّها المتكبِّر بسبب منصبك أجيرٌ عند من تتكبَّر عليه، وأمينٌ على حرمات هذا الشعب وكرامته، فإذا لم تدرك أنَّك بتكبٌّرك تعتبر خائناً لأمَّتك، مجرماً في حقِّ شعبك، فاترك منصبك لغيرك، وارحم الناس من غشمك وظلمك وتجبٌّرك وتكبٌّرك.. وانظر بعد ذلك هل تجد أحداً يحترمك أو يخضع لك؟!!
إنَّ منصبك في الناس صورة عظمة، فكن فيه جوهر رحمة..
وإنَّ منصبك اليوم ورقةٌ فيها قرار رفعة، فاحذر أن يكون في غدك ورقةً فيها قرار ضعَة وذلَّة.
إنَّك اليوم منتفخٌ بمنفاخ مكتبٍ, وضعوك عليه، فاحذر أن تُطرَد غداً بمكنسة فراشٍ, أمروه بطردك.
إنَّك بتكبرك على أمَّتك تفتح على نفسك أبواب اللعنات من كلِّ جانب، وتجلب لأبنائك الازدراء والاحتقار من كل ناظر.. حتى يقول الناس: هذا ولدٌ نصَّبوا أباه مديرا، فكأنهم جلبوا لأنفسهم داء خطيرا.

9- وإن كان كبره لتعبٌّده أكثر من غيره فيلعلم أنَّ الخاتمة بيد الله تعالى، وأنَّ أحداً لا يعلم مصيره عند موته، ولا يعلم أحد: هل يثبِّته الله على العبادة الخالصة إلى يوم موته، أم يخذله الله تعالى، فيتحوَّل إلى فاجرٍ, شقيٍّ, مجرمٍ, في حقِّ الله وحقِّ عباده؟
إنَّ الذي يعمل ويتعبَّد لله ثمَّ يتعالى على من لا يعمل مثله يجب أن يعلم أنَّه يشعل النار في جميع ما غرس بسبب تكبٌّره وتعاليه، وأنَّه بالتكبٌّر صار من الفاسقين.
وإنَّ الذي يرسل لحيته ثمَّ يزدري ويحتقر من لا لحية له، تعتبر جريمته عند الله كبيرةٌ لا ينفع في تكفيرها مئات اللحى بغير توبةٍ, وانكسارٍ, لمن تكبَّر عليهم.
وإنَّ الداعي إلى الله وإلى شرعه لو ازدرى من يدعوهم، لكانت جريمته في حقِّهم في حاجةٍ, إلى أن يقول لكلٍّ, منهم: أرجو عفوك ومغفرتك، فأنا مجرمٌ في حقِّك، فارحمني لوجه الله حتى يغفر الله لي وإلا هلكت..
كم من عابدٍ, جمحت به نفسه، فحُجِب بالكبر واحتقار الخلق عن رحمة الله.
وكم من عاصٍ, شعر بالذل لربه، ففُتِحت له أبواب الهداية والتوفيق وعفو الله..

10- أمَّا إن كان الكبر سببه صحبة الأشرار ورفقاء السوء، وعِشرة المتملِّقين المداهنين ذوي النفوس الوضيعة، أولئك الذين ينافقون رغَباً ورهَبا، ويسكبون كلَّ ما في أكوابهم الدنسة من خبث، وما في طواياهم من لؤم، في آذان الرؤساء والأغنياء والمرموقين والمشهورين في صورة ثناءٍ, مقيت، ومدحٍ, بغيض، وتزيينٍ, لكلِّ فسادٍ, يفعلونه، ولكلِّ باطلٍ, يقيمونه، ولكلِّ ضلالٍ, يهيمون فيه، هؤلاء المُغرِضون لا يزالون يلتفٌّون حول غيرهم من هؤلاء المذكورين حتى يخنقوهم، ويقضوا عليهم، ثمَّ يتركوهم ركاماً لا أمل فيه ولا غناء!
فإن كان الكبر بسبب نفخ هذه الفئة الدنيئة المستغلَّة، فليعلم المتكبِّرون أنَّ أضرارها لا تُحصَى، وأنَّ الخير في أن تُستَبعَد وتُقصَى، حتى تُفتَح النوافذ لكلمة الحقِّ من المخلصين، والنصيحة الأمينة من الذين يخشون الله، ويبتغون في كلِّ عملٍ, وجهه ورضاه.

إذن: لم يبق للكبر من سببٍ, أصيلٍ, إلا وفنَّدناه، وأدركنا ما فيه من خطر، وما يلاحقه من ضررٍ, يحيق بالفرد وبالمجتمع.
فعلى كلِّ مسلمٍ, أن يتواضع لله، ولرسوله، ولدينه، ولكلِّ فردٍ, من عباد الله، ولا يرى نفسه خيراً من أحدٍ, من البشر، ما دام لم يعرف مصيره، ولم يعلم مِن قَدَر الله عليه صغيرةً ولا كبيرةً..\".

ثمَّ قال أكرمه الله تعالى: \"ومن أراد علاج الكبر فقد سبق ذكره، ومن أراد علاج الخُيَلاء فليعالج الكبر في داخل نفسه، ومن أراد علاج العُجب فبعلاج الكبر يُعالَج العُجب، والعُجب في الناس كثيرٌ وكثير، والناجي منه أقلٌّ من القليل، وهو أقلٌّ خطراً من الكبر في نفس ذويه، وعلاجه أهون وأسهل من علاج الكبر وآثاره، والعُجب فيما يبدو من صغار الذنوب لا من كبارها، أمَّا الكبر فحسب تقسيمه السابق، منه ما هو أكبر الكبائر، وهو الكبر على الله، وعلى رسله، وعلى دينه، ومنه ما هو من الكبائر بسبب ما ترتَّب عليه من إضرارٍ, بالناس، ومنه ما هو من الصغائر والله أعلم.
وما أحسن قول الشاعر في التواضع:
تواضع تكن كالنجم لاح لناظرٍ,....... على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولا تك كالدخـان يعلو بنفسـه....... إلى طبقـات الجوِّ وهـو وضيعُ
وقول الآخر:
إذا شئتَ أن تزداد قدراً ورفعةً....... فَلِن، تواضَع، واترك الكِبر والعُجبا\"

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply