دروس من غزوة تبوك


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أما بعد: عباد الله، اعلموا أن حكمة الله اقتضت أن يكون الحق والباطل في صراع دائم وصراع مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليهاº كل ذلك ليميز الله الخبيث من الطيب، فمنذ بزغ هذا الدين وأعداؤه من يهود ونصارى ومشركين ومنافقين يحاولون القضاء عليه بكل ما يستطيعون، \" يُرِيدُونَ لِيُطفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفوَاهِهِم وَاللَّهُ مُتِمٌّ نُورِهِ وَلَو كَرِهَ الكَافِرُونَ \" [الصف: 8]. والتاريخ في ماضيه وحاضره يشهد بذلك، أنى لهم أن يفلحوا ما تمسكنا بكتاب ربنا وسنة نبينا؟!

أيها المسلمون، يوم يقلب المرء صفحات الماضي المجيد ويتدبر القرآن الكريم ثم ينظر لواقعنا ويقارنه بذلك الماضي يتحسر يوم يجد البون شاسعا والفرق كبيرًا، يتحسر يوم يرى تلك الأمة التي كانت قائدة قد أصبحت تابعة حينما ابتعدت عن شرع ربها ونهج نبيها، فعودًا سريعا إلى الماضي المجيد لنستلهم منه الدروس والعبر في هذا الحاضر العاثر، عودًا لسيرة من لم يطرق العالم دعوةٌ كدعوته، ولم يؤرخ التاريخ عن مصلح أعظم منه، ولم تسمع أذن عن داعية أكرم منه، وما أحرانا ونحن في هذه الأيام العصيبة أن تتجاوز المدة الزمنية كي نعيش يوما من أيام محمد لنأخذ العبر والدروس.

نعود بكم إلى شهر رجب سنة تسعٍ, من الهجرة لنعيش وإياكم أحداث غزوة تبوك وجيش العسرة التي تساقط فيها المنافقون وثبت فيها المؤمنون وذل فيها الكافرون وعز فيها الصادقون.

بلغ النبي أن الروم تتجمع لحربه ولتهديد دولته، يريدون مبادرته بالحرب قبل أن يبادرهم، فعند ذلك أعلن النبي لأول مرة عن مقصده وعن تجهيز الجيش، فتجهز أقوام وأبطأ آخرون، تجهز ثلاثون ألف مقاتل، باعوا أنفسهم إلى الله نصرة لله ورسوله، وتساقط المنافقون، فها هو أحدهم يقول له رسول الله كما روى ابن هشام: ((هل لك في جلاد بني الأصفر؟)) أي: الروم، فيقول: يا رسول الله، ائذن لي ولا تَفتنَّي، فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل أشد عُجبًا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه، ولكن الله - جل وعلا - فضحه في قوله - تعالى -: \" وَمِنهُم مَن يَقُولُ ائذَن لِي وَلا تَفتِنِّي أَلاَ فِي الفِتنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالكَافِرِينَ \" [التوبة: 49].

وتحدثت الآيات في القرآن عمن نكص كذلك من هذه المعركة وتحجج بحجج واهية حين آثروا ظل القعود في بيوتهم وحقولهم على حر الصحراء ووعثاء السفر: \" فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقعَدِهِم خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَن يُجَاهِدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الحَرِّ قُل نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدٌّ حَرًّا لَو كَانُوا يَفقَهُونَ \" [التوبة: 81].

وتجلت في الإعداد لهذا الجيش طوايا النفوس ومقدار ما استودعت من قبل من إخلاص ونشاط، فهناك أغنياء أخرجوا ثرواتهم ليجهزوا الجيش من الرواحل والسلاح والخيل، منهم عثمان بن عفان، سبق في بذله سبقا بعيدا حتى إن رسول الله عجب من كثرة ما أنفق، تصدق بمائتي بعير بأقتابها وأحلاسها، ومائتي أوقية، ثم تصدق بمائة بعير بأقتابها وأحلاسها، ثم جاء بألف دينار فنثرها في حجر النبي، فقال النبي: ((ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)) رواه الحاكم بسند صحيح.

وجاء عبد الرحمن بن عوف بمائتي أوقية فضة، وجاء أبو بكر بماله كله ولم يترك لأهله إلا الله ورسوله، وجاء عمر بنصف ما يملك، وجاء العباس بمال كثير، وجاء عاصم بن عدي بتسعين وسقًا من التمر، وتتابع الناس بصدقاتهم قليلها وكثيرها، حتى كان منهم من أنفق مدًا أو مدين لم يكن يستطيع غيرها. وبعثت النساء ما قدرن عليه من خلاخل وخواتم وذهب.

ومنهم الفقراء الذين لم يجدوا زادا ولا راحلة، فأتوا رسول الله يقولون: يا رسول الله، لا زاد ولا راحلة، فيبحث لهم عن زاد وراحلة فلا يجد ما يحملهم عليه، فيرجعون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون، إنهم البكاؤون، لم يبكوا على فقد متاع أو فقد دنيا، بل يبكون على فقد جهاد وقتال في ساعةٍ, عسيرة، قد تذهب أرواحهم فداء لهذا الدين الذي آمنوا به، روي عن علي بن يزيد: أنه قام من الليل يصلي فتهجد ما شاء الله ثم بكى، وقال: (اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يدي رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو حد أو عرض)، وأصبح الرجل على عادته مع الناس فقال رسول الله: ((أين المتصدق هذه الليلة؟))، فلم يقم أحد، ثم قال: ((أين المتصدق هذه الليلة؟ فليقم))، فقام إليه فأخبره، فقال له رسول الله: ((أبشر، فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة)).

ويخرج ويستخلف على المدينة عليا، ويخيم في ثنية الوداع ومعه ثلاثون ألفا، ويأتي المنافقون الذين لا يتركون دسائسهم وإرجافهم على مر الأيام، يلاحقون أهل الخير والاستقامة، يلمزون ويهمزون، ويتندرون ويسخرون، سخر الله منهم، ويستهزئون به، الله يستهزئ بهم، يأتون إلى عليّ ويقولون له: ما خلفك رسول الله إلا استثقالا لك، فتأثر بذلك ولبس درعه وشهر سيفه يريد الجهاد في سبيل الله، ويصل إلى النبي ويقول له زعمهم، فيجيبه ويقول: ((كذبوا يا عليّ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟! إلا أنه لا نبي بعدي))، وعاد إلى المدينة راضيا.

ويتوجه إلى تبوك، فيمر بديار ثمود الذين جابوا الصخر بالواد، ديار غضب الله على أهلها، فتلك بيوتهم خاوية، وآبارهم معطلة، وأشجارهم مقطعة، فاستقى الناس من بئرها، فلما راحوا قال رسول الله: ((لا تشربوا من مائها، ولا تتوضؤوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل، ولا تأكلوا منه شيئًا))، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح - عليه السلام -. وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: لما مر النبي بالحجر قال: ((لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهمº أن يصيبكم ما أصابهم، إلاّ أن تكونوا باكين))، ثم قنع رأسه وأسرع بالسير حتى جاز الوادي.

واستمر في طريقه إلى تبوك، وقد بلغ به الجوع والتعب مبلغا عظيما، ومع السَّحَر ينام من التعب على دابته حتى يكاد يسقط كما في صحيح مسلم، فيقرب منه أبو قتادة فيدعمه بيده حتى يعتدل، ثم يميل أخرى فيدعمه أبو قتادة حتى يعتدل، ثم يميل ميلة أخرى أشد حتى كاد يسقط فيدعمه أبو قتادة بيده، فيرفع رأسه ويقول: ((من هذا؟))، قال: أنا أبو قتادة، فقال له: ((حفظك الله بما حفظت نبي الله يا أبا قتادة)). يقول المؤرخون: \"فما زال أبو قتادة محفوظا بحفظ الله في أهله وذريته، ما أصابهم سوء حتى ماتوا\". درس عظيم لمن حفظ أولياء الله فإن الله يحفظه، وصنائع المعروف تقي مصارع السوء.

عن عبد الله بن عباس أنه قيل لعمر بن الخطاب: حدثنا عن شأن ساعة العسرة، فقال عمر: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى أن الرجل لينحر بعيره، فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله، إن الله عودك في الدعاء خيرا، فادع الله لنا؟ فقال: ((أوَتحب ذلك؟)) قال: نعم، فرفع رسول الله يديه إلى السماء، فلم يرجعهما حتى أذنت السماء بالمطر، فأطلت ثم سكبت فملؤوا ما معهم. قال: ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت المعسكر.

ويتأخر عن الجيش أبو ذر ببعيره الهزيل، فماذا فعل يا ترى؟! لقد ترك بعيره وأخذ متاعه وحمله على ظهره، وينزل في أحد المنازل على الطريق، وينظر أحد المسلمين، ويقول: يا رسول الله، رجل يمشي إلى الطريق وحده متاعه على ظهره، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((كن أبا ذر، كن أبا ذر))، فإذا هو أبو ذر، فأخبروا النبي بذلك فقال: ((رحم الله أبا ذرº يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده)). وتمضي الأيام والأعوام ويُنفى أبو ذر إلى الرّبذة، ويحضره الموت هناك، وليس معه إلاّ امرأته وغلامه، وقبل موته أوصاهما أن يغسلاه ويكفناه ويضعاه على الطريق، وأول ركب يمر بهم يقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله فأعينونا على دفنه، فيفعلان ذلك، ويأتي عبد الله بن مسعود ومعه رهط مسافرون، فما راعهم إلا الجنازة على قارعة الطريق، فأخبرهم غلامه فاندفع عبد الله بن مسعود باكيا، يقول صدق رسول الله: ((تمشي وحدك، وتموت وحدك))، ثم دفنوه - رضي الله عنه - وأرضاه.

 

أيها المسلمون، وينتهي المسير برسول الله إلى تبوك، فعسكر هناك وهو مستعدّ للقاء العدو، فقام فيهم خطيبًا، فخطب خطبة بليغة، أتى بجوامع الكلم، وحضّ على خيري الدنيا والآخرة، فحذّر وأنذر، وبشّر وأبشر، حتى ارتفعت معنويات الصحابة - رضي الله عنهم -، وجبر بها ما كان فيهم من النقص والخلل من قلّة الزاد والمؤونة. فأقام بها بضع عشرة ليلة، فلم يجدوا بها كيدا أو يواجهوا عدوّا، ولكنهم بذلك أرهبوا الروم وحلفاءهم، وفرضوا عليهم الجزية.

وحصلت بعض الأحداث أثناء بقائه - عليه الصلاة والسلام - فيها، منها ما حدث به عبد الله بن مسعود قال: نمنا ليلة متعبين في تبوك، وانتبهت في وسط الليل، فالتفتّ إلى فراش النبي فلم أجده، وإلى فراش أبي بكر وعمر فلم أجدهما، وإذا بنار وسط اللّيل تضيء آخر المعسكر، فذهبت أتبعهما فإذا رسول الله حفَر قبرا، ومعه أبو بكر وعمر، وعنده سراج بيده قد نزل وسط القبر، فقلت: يا رسول الله، من الميّت؟ قال: هذا أخوك عبد لله ذو البجادين، إنه أحد الصحابة الكرام، أسلم وكان تاجرا، فأخذ أهلُه وقومُه مالَه كلّه حتى لباسه، فذهب فما وجد لباسا غير شملةٍ, قطعها إلى بجادين، وفرّ بدينه يريد الله والدار الآخرة، وأخبر بخبره، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((تركتَ مالكَ لله ولرسوله، أبدلك الله ببجاديك إزارًا ورداءً في الجنة، أنت ذو البجادين))، فلقب بذلك. يقول عبد الله بن مسعود: وأنزله إلى القبر، فوالذي لا إله إلا هو ما نسيت قوله وهو في القبر، وقد مدّ ذراعيه لذي البجادين، وهو يقول لأبي بكر وعمر: ((أدنِيا إليَّ أخاكما))، فدلّياه في القبر، وهو يبكي ودموعه تتساقط على الكفن، ثم وقف - عليه الصلاة والسلام - لما وضعه في القبر رافعا يديه مستقبلا القبلة، وهو يقول: ((اللّهمّ إني أمسيت عنه راضيًا فارضَ عنه، اللهم إني أمسيت عنه راضيا فارض عنه))، يقول عبد الله بن مسعود: فوالله، ما تمنيت إلاّ أن أكون صاحب الحفرة لأنال دعاءه.

ورجع النبي عائدا إلى المدينة موفورا منصورا، حتى قدم إلى المدينة، ولاحت له معالمها من بعيد فقال: ((هذه طابة، وهذا أُحدٌ يحبّنا ونحبه))، وتسامع الناس بمقدَمه، وفرح النساء والصبيان، فخرجوا لاستقباله وهم يردّدون:

طلـع البدر علينـا *** من ثنيّـات الوداع

 

وجب الشكر علينا *** مـا دعـا لله داع

 

أيهـا المبعوث فينا *** جئت بالأمر المطاع

 

جئت شرفت المدينة *** مرحبًا يا خير داع

 

وقوبل جيش العسرة بحفاوة بالغة، ولم ينس النبي في ذهابه وإيابه أصحاب القلوب الكبيرة الذين صعب عليهم أن يجاهدوا معه فتخلفوا راغمين والعبرات تملأ عيونهم. روى البخاري عن أنس بن مالك أن رسول الله رجع من غزوة تبوك فدنا من المدينة فقال: ((إن في المدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم))، فقالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟! قال: ((وهم بالمدينةº حبسهم العذر)). بهذه المواساة الرقيقة كرّم النبي الرجال الذين شيّعوه بقلوبهم وهو ينطلق إلى الروم، فأصلح بالهم، وأراح همًّا ثقيلا عن أفئدتهم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، \" يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُم إِذَا قِيلَ لَكُم انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلتُم إِلَى الأَرضِ أَرَضِيتُم بِالحَيَاةِ الدٌّنيَا مِن الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدٌّنيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبكُم عَذَابًا أَلِيمًا وَيَستَبدِل قَومًا غَيرَكُم وَلا تَضُرٌّوهُ شَيئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ \" [التوبة: 38، 39].

بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

الخطبة الثانية:

أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون، ها قد عشتم بعض أحداث غزوة تبوك التي انتهت بنصر المؤمنين، ولئن انتهت أحداثها فما انتهت دروسها وعبرها ومواعظها، ففي كل حديث منها قصة، وفي كل قصة عظة وعبرة، وحذار أن يكون نصيبنا منها تغنّيًا بالماضي وسردَ الحديث الغابر، فإن هذا لا يجدي شيئا وقد آلت الأمة إلى ما آلت إليه وتداعى الأكلة إليها.

وأول هذه الدروس: أن هذه الأمة أمة جهاد ومجاهدة وصبر ومصابرة، ومتى ما تركت الجهاد ضربت عليها الذلة والمسكنة، ولذلك فقد رأينا حياة النبي جهادا في جهاد، فإذا فرغ من جهاد المشركين رجع إلى جهاد ومقاومة المنافقين ثم جهاد الروم.

وثاني هذه الدروس: أن الله كتب العزة والقوة لهذه الأمة متى ما صدَقت وأخلصت، فها هي دولة الإسلام الناشئة تقف في وجه الكفر كله بقواه المادية، فتهزمه وتنتصر عليه، \" وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ \" [الحج: 40].

ومن الدروس: أن العدو ما تسلل إلا من خلال صفوف المنافقين والمرجفين، ولم يكن الضعف والتفرقة في هذه الأمة إلا من قبل أصحاب المسالك الملتوية والقلوب السوداء، \" لَو خَرَجُوا فِيكُم مَا زَادُوكُم إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوضَعُوا خِلالَكُم يَبغُونَكُم الفِتنَةَ وَفِيكُم سَمَّاعُونَ لَهُم \" [التوبة: 47].

ومن الدروس: أن مواجهة الأعداء لا يشترط فيها تكافؤ القوة، بل يكفي المؤمنين أن يعدوا أنفسهم بما استطاعوا من قوة ثم يتقوا الله ويصبروا، وعندها يُنصروا، فها هو عبد الله بن رواحة يقول: (والله، ما نقاتل الناس بعدد ولا عدة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به).

ومن الدروس: أن الحق لا بد له من قوة تحرسه وترهب أعداءه، لا يكفي حق بلا قوة.

دعا المصطفى دهرًا بِمكة لَم يُجَب *** وقد لان منه جانب وخطاب

 

فلما دعا والسيف بالكـف مسلّط *** له أسلموا واستسلموا وأنابوا

 

ومن الدروس العظيمة من هذه الغزوة: أن تمكن العقيدة في قلوب رجال الإسلام أقوى من كل سلاح وعَتاد، وقضى الله أن الأمة متى ما غَفلَت عن عقيدتها وتعلقت بغيرها تقلبت في ثنايا الإهانات والنكبات والنكسات، حتى ترجع إلى كتاب ربها وسنة نبيها. والأمة اليوم بعيدة كل البعد عن العقيدة الصحيحة إلا من رحم الله.

هل تريدون مثالاً حيًا قريبًا على أن فئات كثيرة من الأمة لا تعرف معنى لا إله إلا الله إلى الآن؟! ومن هذه الفئات من هم محسوبون على العلماء وطلبة العلم، أحداث تكسير الأصنام القريبة، مسألة واضحة لا يختلف فيها موحدان، أصنام الشرك والكفر بالله - عز وجل - تُكسّر وتُهدم، ثم يأتي من يأتي من المسلمين ويستنكر هذا الأمر، ويطنطن بعض من هم محسوبون على أهل العلم في الإذاعات والفضائيات، ويكتب من يكتب في الصحف والمجلات بحجة أنها آثار، فأين التوحيد؟ وأين هي العقيدة؟ وأين لا إله إلا الله؟ إذا كانت الأمة إلى الآن تختلف في أصنام الشرك والكفر فماذا بقي من عقيدتها وتوحيدها؟!

فعلى الدعاة والمصلحين والمربين ممن يمثلون منهج أهل السنة والجماعة أن يركزوا في دعوتهم على مسألة التوحيد درسًا وشرحًا وعملاً وتطبيقًا، وأن لا يغتروا بغيرهم ممن يخالفهم في هذه المسألة، فلا صلاح ولا فلاح إلا إذا صحّت عقائد الناس واتضحت لهم معالم وأصول هذه العقيدة.

أيها المسلمون، هذه غزوة تبوك غزوة العسرة، وهذه بعض دروسها، فاعتبروا بها وتدبروها.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply