دعوة إلى قراءة جديدة للسيرة النبوية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لم يكن بناء الجماعة الإسلامية الأولى بناء عفوياً في أي مرحلة من مراحله، فقد كانت الأهداف واضحة والخطوات مدروسة بكل دقَّـة وكل حركة وكل قرار. ولعل من أهم جوانب الإعجاز في قيادة النبي - عليه الصلاة والسلام - لهذه الجماعة، هو وضوح الرؤية منذ اليوم الأول لمبادئ الدعوة وأهدافها، ووسائلها وأدوات تبليغها والتمكين لها. كان يعرف - صلى الله عليه وسلم - أين يقف وإلى أين يريد أن يصل. وكانت الإجابة على الأسئلة المنهجية الأربعة واضحة في ذهنه وعقله ووجدانه كل الوضوح: من نحن؟ وماذا نريد؟ وكيف نصل؟ وبماذا نطالب؟ يمارسها في حركته ويغرسها في قلوب أتباعه وعقولهم وسلوكهم.

 

وكانت المواد الدراسية التي يتلقاها الرعيل الأول في الأكاديمية التربوية الأولى في دار الأرقم بن أبي الأرقم تركز على تعليم مبادئ العقيدة ومعها بالمستوى نفسه أصول التنظيم وعناصر التخطيط السليم للدعوة.

 

وكان القائد الأول - صلى الله عليه وسلم - يتحرك في كل ما يقوم به ضمن تصور واضح يلائم بين الأهداف والوسائل، فهو يتصرف عند كل خطوة بناء لرؤيته الواضحة لما يليها مما هو واقع في ضمير الغيبº يراه الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببصيرته وإن خفي على كثير من الناس، ويجيب من يدعوه إلى المهادنة أو يخوِّفه العاقبة \"والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه\" ويحدد معالم المرحلة وسماتها في أحلك الظروف وأصعبها حيث يعذَّب أصحابه حتى الموت في رمضاء مكة فلا يزيد على أن يقول: \"صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة\" بل يرى في طلب الدعاء برفع البلاء في مرحلة من مراحل الدعوة اختصاراً للمراحل وتجاوزاً للأولويات والسنن ويجيب غاضباً مؤنِّباً من طلب منه ذلك: \"إن نصر الله آت ولكنكم قوم تستعجلون، كان من كان قبلكم يمشط أحدهم بالمماشط لا يصده ذلك عن دين الله\".

 

كان يدرك - عليه الصلاة والسلام - أنها دعوة تتجاوز حدود الزمان والمكان، فلا بدَّ لها من خطة واضحةº وخطوات مدروسة مرسومةº وصبر على البلاء شديد، وهذا يستدعي بالضرورة وضوحاً في الرؤية وترتيباً للأهداف وتحديداً دقيقاً للوسائل والأدوات، للوصول إلى المستقبل المرسوم بأقل كلفة وأقصر طريق.

 

وأنها دعوة تتجاوز تغييراً في واقع أو ترقيعاً لنظام، إذ الهدف هو تعبيد الناس ومعهم الكون كله لله رب العالمين، ولا يتحقق ذلك إلا بتغيير شامل للمبادئ والمعتقدات، والعادات والتقاليد، والرؤى والتصورات، فهي دعوة تدخل إلى ضمير فتصنعهº وعقل تصوغهº وحياة تعيد تركيب مفاهيمها وتصورات الناس فيها، بما يشبه انقلاباً كونياً في كل مناحي الحياة.

 

ويدرك أنها دعوة لجميع الفئات العمرية وجميع الشرائح الاجتماعية، فهي تحتاج إلى أن تضم في صفوفها روَّاداً من أعمار مختلفة ومستويات اجتماعية متباينة، في مستوى قيادتها كما في صفوف قاعدتها. وأن يتقاسم هؤلاء الأدوار ويتوزعوا الأعمال ليؤدي كل واحد ما عليه تجاه دعوة تستوعبهم جميعاً ولا تستغني عن أي واحد منهم. وليس عجيباً أن نرى بعد هذا الوضوح الناصع في الرؤية أن أول من أسلم فتيان ورجل وامرأة، وإن شئت قلت: تاجر وامرأة غنيَّان وعبد وفتى فقيران، إضافة إلى من جاء بعدهم من طبقات المجتمع وشرائحه المتعددة.

 

إننا ونحن نقرأ في تاريخ النبوة وحركة الدعوة الأولى هذه السمات الربانية نرى ضرورة أن يقرأ القادة والدعاة اليوم سيرة نبيهم قراءة جديدة، قراءة تستخلص العبر وتستنتج المفاصل وتحدد على الطريق المعالم، لأنها دعوة الله فيها هو الهدف والغاية، وشرع الله فيها هو الأداة والوسيلة، وقد أمرنا بالاتباع في الوسيلة والهدف جميعاً: \"لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً\" فلنقرأ السيرة ولنرسم الطريق ولنرتق إلى مستوى دعوة الله صفاء وطهراً واتباعاً، لنستحق شرف حمل الأمانة بجدارة وتبليغ الرسالة بمسؤولية وقوة،\"ولينصرنَّ الله من ينصرُه، إن الله لقوي عزيز\"

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply