رأس الحسين مولد وصاحبه غايب


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

تمر الأيام، وتتابع الشهور، ويأتينا مولد الحسين - رضي الله عنه -، فيتوافد الآلآف لحضور الليلة الخاتمة، ويرتحل الأحباب والمريدون إلى أهم مولد في مصر، فتقام الحضرات، وتعقد الندوات، وتروج الأسواق، وتمتلئ صناديق النذور، وقد بدأ هذا التقليد في مصر حين زعم الفاطميون في منتصف القرن السادس الهجري وصول رأس الحسين إلى مصر، ومن المعروف أن الحسين - رضي الله عنه - قتل في كربلاء وقطع الفجرة رأسه الشريف، سنة 61 هجرية، فلابد أن وراء تأخر وصول الرأس خمس مائة عام، وارتحالها من كربلاء إلى القاهرة، مأساة إنسانية وقصصا وأساطير تلعب فيها الأهواء الدينية، والأغراض والمكاسب السياسية والمادية دورا بارزا، ويلزمنا أن نكشف الستار من خلال مجموعة مشاهد ولذلك سنرجع إلى الوراء:

 

المشهد الأول:

الزمان: 10 محرم سنة 61 هجرية، المكان كربلاء، موضع يعرف بالطف تعس وشقي أحد هؤلاء: سنان بن أبي سنان أنس النخعي، أو شمر بن ذي الجوشن، أو رجل من مذجح، بقتل الحسين بن علي -رضوان الله عليهما-، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، وأحد ريحانتي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقطع رأسه خولي بن يزيد الأصبحي من حمير، وهم أفراد من جيش بعث به عبيد الله بن زياد وأمر عليه عمر بن سعد بن أبي وقاص. وبعثوا بالرأس إلى الشقي عبيد الله بن زياد في الكوفة.

 

المشهد الثاني: الرأس في الكوفة:

وصل الرأس الشريف من كربلاء إلى الكوفة، وشاهد العيان هو الصحابي الجليل أَنَسُ بنُ مَالِكٍ,، الذي يقول: " أتَى عُبَيدُ اللَّهِ بنُ زِيَادٍ, بِرَأسِ الحُسَينِ بنِ عَلِيٍّ, - عليه السلام -، فَجُعِلَ فِي طَستٍ,، فَجَعَلَ يَنكُتُ عَلَيهِ، وَقَالَ فِي حُسنِهِ شَيئًا" - كأنه يقبح وجه الحسين. قَالَ أَنَسٌ: " كَانَ أَشبَهَهُم بِرَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَكَانَ مَخضُوبًا بِالوَسمَةِ " هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. ثم أرسل عبيد الله بن زياد بالرأس ومن بقي من أهل بيت الحسين، ومنهم علي بن الحسين، وعمته زينب أخت الحسين -رضوان الله عليهما- إلى يزيد بن معاوية في دمشق. وهناك رأي يقول: إن عبيد الله بن زياد بعث بالرأس إلى المدينة مباشرة، والتاريخ والمنطق يرفضانه، فعبيد الله بن زياد ليس بصاحب قرار، إنما الأمر ليزيد بن معاوية في دمشق، ولو كان لعبيد الله أن يسير الرأس إلى المدينة لما بعث بمن بقي من آل الحسين إلى الشام، فلنستكمل مسيرتنا مع الرأس الشريف إلىدمشق.

 

المشهد الثالث: الرأس في دمشق:

وهناك روايتان حول استقبال يزيد بن معاوية، لمن بقي من آل البيت، إحداهما تتناقلها الشيعة، وهي مليئة بالشماتة بقتل الحسين والكذب على يزيد، حتى إنهم نقلوا فعل عبيد الله بن زياد إلى يزيد، والرواية الثانية هي الثابتة عند أهل السنة، أنهم لما قدموا على يزيد أدخلهم على عياله، وأحسن استقبالهم، وظهر منه الندم على فعل عبيد الله وهذا يؤكده الطبري قائلا: "ولما حان وقت الرحيل إلى المدينة دعا يزيد بن معاوية علي بن الحسين، ثم قال له: لعن اللَّـه ابن مرجانة [عبيد اللَّـه بن زياد]، أما واللَّـه لو أني صاحبهما ما سألني (أي الحسين) خصلة أبدا إلا أعطيتها إياه، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت، ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن اللَّـه قضى ما رأيت، كاتبني وأَنهِ كل حاجة تكون لك، قال: وكساهم، وأرسل معهم رسولاً وأوصى بهم ذلك الرسول"(1). ويقول ابن الجوزي: إن يزيد بن معاوية قال لعلي بن الحسين: "إن أحببت وصلتك ورددتك إلى بلدك، قال: بل تردني إلى المدينة، فوصله ورده"(2)، ويستطرد قائلا: "ثم بعث يزيد بهم إلى المدينة، وبعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وهو عامله على المدينة، فكفنه ودفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة، هكذا قال ابن سعد"(3). ويقول الذهبي في سير أعلام النبلاء: "يقول ابن سعد، عن الواقدي، والمدائني، عن رجالهما، أن محفز بن ثعلبة العائذي قدم برأس الحسين على يزيد، فقال: أتيتك يا أمير المؤمنين برأس أحمق الناس وألأمهم، فقال يزيد: ما ولدت أم محفز أحمق وألأم، لكن الرجل لم يتدبر كلام اللَّـه: قُلِ اللَّـهُمَّ مَالِكَ الـمُلكِ تُؤتِي الـمُلكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الـمُلكَ مِمَّن تَشَاءُ [آلعمران-26]، ثم بعث يزيد برأس الحسين إلى متولي المدينة، فدفن بالبقيع عند أمه"(4). يقول ابن الأثير في الكامل: "ثم أرسل ابن زياد رأس الحسين، ورءوس أصحابه مع زحر بن قيس إلى الشام إلى يزيد بن معاوية، ومعه جماعة"،..كما يؤكد حزن يزيد عند سماعه مقتل الحسين بقوله: "فدمعت عينا يزيد، وقال: كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين، لعن اللَّـه ابن سمية، أما واللَّـه، لو أني صاحبه لعفوت عنه، فرحم اللَّـه الحسين، ولم يصله بشيء" (أي لم يكافئ القاتل على فعلته)(5).ويقول ابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب [متوفى سنة 981 هـ] والصحيح أن الرأس المكرم دفن بالبقيع إلى جنب أمه فاطمة، وذلك أن يزيد بن معاوية بعث به إلى عامله بالمدينة عمرو بن سعيد الأشدق، فكفنه ودفنه. وتنقسم الآراء حول رأس الحسين، يقول الرأي الأول: إن الرأس دفن في دمشق، ومن القائلين بذلك ابن أبي الدنيا حيث يقول: "إن الرأس لم يزل في خزانة يزيد بن معاوية حتى توفي، فأخذ من خزانته، فكفن ودفن داخل باب الفراديس من مدينة دمشق"(6). ويؤيده ابن كثير: "ويُعرف مكانه بمسجد الرأس اليوم داخل باب الفراديس الثاني"(7). والرأي الثاني يقول: إن السيدة زينب - رضي الله عنها -، لا يمكن أن تترك رأس أخيها عند يزيد، وترضى أن تسافر إلى المدينة بدونه، خاصة وقد تلقت زينب بنت الزهراء وعلي بن أبي طالب، رضوان الله عليم أجمعين ومن معها من آل البيت وعدا من يزيد بن معاوية بإجابة كل ما يطلبونه، ألا يطلب علي زين العابدين رأس أبيه، ألا تطلب الرباب بنت امرئ القيس رأس زوجها؟ أليس المطلب لجميع آل البيت أن يحملوا معهم رأس الحسين إلى المدينة ليدفنوه إلى جوار أمه أينسى آل البيت رأس عميد المنزل النبوي هكذا ويسافرون إلى المدينة؟! إن الفطرة السليمة تقتضي ألا ترتحل قافلة آل البيت إلى المدينة إلا والرأس معهم، إن أحدا لم يلتفت إلى هذه النقطة رغم أنها دليل وحدها، وحجة بذاتها، ويعضدها أن من عادات العرب أن تبعث برأس القتيل إلى قومه، كما أن هناك مصلحة ليزيد نفسه في رد الرأس إلى المدينة، ففي ذلك رسالة لكل من تسول له نفسه بالخروج عليه، وأيضا رسالة لعبد اللَّـه بن الزبير الذي يسير في نفس الخط الذي سار فيه الحسين، كل هذه القرائن والشواهد تؤكد مع الأخبار الصحيحة المنقولة عن انتقال الرأس إلى المدينة ودفنه بالبقيع إلى جوار أمه سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء رضوان اللَّـه عليها.

 

المشهد الرابع: الرأس في المدينة:

يصف الحافظ أبو العلاء الهمداني مشهد وصول الرأس إلى المدينة بقوله: إن يزيد حين قدم عليه رأس الحسين بعث به إلى المدينة، فأقدم إليه عدة من موالي بني هاشم، وضم إليهم عدة من موالي أبي سفيان، ثم بعث بثَقَل(8) الحسين ومن بقي من أهله معهم، وجهزهم بكل شيء، ولم يدع لهم حاجة بالمدينة إلا أمر بها، وبعث برأس الحسين (إلى عمرو بن سعيد بن العاص، وهو إذ ذاك عامله على المدينة، فقال عمرو: وددت أنه لم يبعث به إليّ، ثم أمر عمرو بن سعيد بالرأس فكفن، ودفن بالبقيع عند قبر أمه فاطمة - عليها السلام -، وهذا أصح ما قيل في ذلك، وروى محمد بن سعد، أن يزيد بعث برأس الحسين إلى عمرو بن سعيد نائب المدينة، فدفنه عند أمه بالبقيع"(9). وينقل الزبير بن بكار وهو الحافظ النسابة(10) عن محمد بن حسن المخزومي النسابة مع علمه أنه شديد الضعف في الحديث، إلا أنه نقل عنه خبر حمل الرأس إلى المدينة، والزبير أعلم أهل النسب وأفضل العلماء لهذا السبب. نكتفي بهذا القد.

 وصلى الله على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

----------------

(1) تاريخ الأمم والملوك، لابن جرير الطبري: 232، 23.

(2) المنتظم في تاريخ الأمم، لابن الجوزي 345: 5.

(3) طبقات ابن سعد، والمنتظم في تاريخ الأمم، لابن الجوزي 344: 5.

(4) سير أعلام النبلاء، للذهبي 3: 317.

(5) الكامل في التاريخ، لابن الأثير 3: 298.

(6) ابن أبي الدنيا من طريق عثمان بن عبد الرحمن عن محمد بن عمر بن صالح، وهما ضعيفان.

(7) البداية والنهاية، لابن كثير 713: 5. (8) الثَّقَل: متاع المسافر وحشمه.

(9) البداية والنهاية، لابن كثير 712: 5.

(10) الزبير بن بكار ولد سنة 172 هجرية، وتوفي سنة 256 هـ، ويترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء 12: 313 بقوله: العلامة الحافظ النسابة قاضي مكة وعالمها، وهو مصنف كتاب نسب قريش وهو كتاب كبير نفيس، وفي تهذيب التهذيب: قال الخطيب: كان ثقة ثبتا عالما بالنسب عارفا بأخبار المتقدمين، ومآثر الماضين، ووثقه الدارقطني".

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply