الإمام محمد بن عبد الوهاب : إِمام في العقيدة والفقه والحديث


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ أمَّا بَعدُ:

فَقَدِ اشتُهِرَ عِندَ أَهلِ السٌّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ عِنَايَةُ شَيخِ الإسلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوَهَّابِ بِالعَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ، وَجِهَادُهُ فِي نَشرِهَا وَالدَّعوَةِ إِلَيهَا.

وَظَنَّ بَعضُ أَهلِ السٌّنَّةِ أَنَّهُ - رحمه الله - لَم يَكُن ذَا عِنَايَةٍ, بِالحَدِيثِ، وَمَعرِفَةِ صَحِيحِهِ مِن سَقِيمِهِ، وَهَذَا لَيسَ صَحِيحاً، بَل هُوَ إِمَامٌ فِي الحَدِيثِ، إِمَامٌ فِي الفِقهِ، إِمَامٌ فِي التَّفسِيرِ.

وَفِي هَذَا البَحثِ المُختَصَرِ أقتَصِرُ عَلَى مَا ذَكَرتُهُ فِي مُقَدِّمَةِ تَحقِيقِي لِتَيسِيرِ العَزِيزِ الحَمِيدِ، أَسأَلُ اللهَ التَّوفِيقَ وَالسَّدَادَ وَالهُدَى وَالرَّشَادَ.

وَقَد قَسَّمتُهُ إِلَى مَبحَثَينِ:

المَبحَثُ الأَوَّلُ:

تَرجَمَةُ شَيخِ الإسلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوَهَّابِ.

المَبحَثُ الثَّانِي:

بَرَاعَتُهُ فِي عِلمِ الحَدِيثِ، مَعَ دِرَاسَةٍ, مُوجَزَةٍ, لِكِتَابِ التَّوحِيدِ.

 

المَبحَثُ الأَوَّلُ:

تَرجَمَةُ شَيخِ الإسلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوَهَّابِ (1)

اسمُهُ وَنَسَبُهُ وَمَولِدُهُ:

هُوَ شَيخُ الإسلامِ، وَالعَلاَّمَةُ الهُمَامُ، وَالمُجَدِّدُ لِمَا اندَرَسَ مِن مَعَالِمِ دِينِ الإِسلامِ، الإمَامُ أبُو الحُسَينِ، مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الوَهَّابِ بنِ سُلَيمَانَ بنِ عَلِيِّ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أحمَدَ بنِ رَاشِدٍ, الوُهَيبِيٌّ، التَّمِيمِيٌّ.

وَنَسَبُهُ مَعرُوفٌ إلَى قَبِيلَةِ تَمِيمٍ, الشَّهِيرَةِ، وَقَد رَوَى البخاريٌّ ومُسلِمٌ عَن أَبِي هُرَيرَةَ-رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّهُ قَالَ: «لا أَزَالُ أُحِبٌّ بَنِى تَمِيمٍ, مِن ثَلاثٍ, سَمِعتُهُنَّ مِن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -º سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: ((هُم أَشَدٌّ أُمَّتِي عَلَى الدَّجَّالِ)) قَالَ: وَجَاءَت صَدَقَاتُهُم فَقَالَ النَّبِيٌّ- صلى الله عليه وسلم -: ((هَذِهِ صَدَقَاتُ قَومِنَا)) قَالَ: وَكَانَت سَبِيَّةٌ مِنهُم عِندَ عَائِشَةَ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ: ((أَعتِقِيهَا فَإِنَّهَا مِن وَلَدِ إِسمَاعِيلَ))(2).

وُلِدَ- رحمه الله - سَنَةَ خَمسَ عَشرَةَ وَمِائَةٍ, بَعدَ الأَلفِ 1115هـ فِي العُيَينَةَ وَهِيَ بَلدَةٌ قَرِيبَةٌ مِن مَدِينَةِ الرِّيَاضِ.

 

نَشأَتُهُ وَطَلَبُهُ لِلعِلمِ وذِكرُ شُيُوخِهِ:

نَشَأَ فِي حِجرِ وَالِدِهِ الشَّيخِ عَبدِ الوَهَّابِ، وَكَانَ فَقِيهاً، قَاضِياً، فَتَعَلَّمَ مِن وَالِدِهِ بَعضَ العُلُومِ الشَّرعِيَّةِ.

حَفِظَ القُرآنَ الكَرِيمَ وَلَمَّا يَبلُغِ العَاشِرَةَ مِن عُمُرِهِ، وَقَدَّمَهُ أَبُوهُ للصَّلاةِ بِالنَّاسِ جَمَاعَةً وَهُوَ فِي الثَّانِيَةِ عَشرَةَ مِن عُمُرِهِ، وَتَزَوَّجَ فِي تِلكَ السَّنَةِ، وَكَانَ مثابراً عَلَى طَلَبِ العِلمِ، فَدَرَسَ عَلَى وَالِدِهِ فِي الفِقهِ الحَنبَلِيِّ وَفِي التَّفسِيرِ وَالحَدِيثِ وَالعَقِيدَةِ.

وَكَانَ الشَّيخُ مُحَمَّدُ بنُ عَبدِ الوَهَّابِ- رحمه الله - شَغُوفاً بِكُتُبِ شَيخِ الإسلامِ ابنِ تَيمِيَّةَ, والإمَامِ ابنِ القَيِّمِ - رحمهما الله - ثُمَّ حَمَلَهُ الشَّوقُ إلَى حَجِّ بَيتِ اللهِ الحَرَامِ لأَدَاءِ فَرِيضَةِ الحجِّ، والنَّهلِ مِن عُلُومِ عُلَمَاءِ الحَرَمَينِ الشَّرِيفَينِ، فَذَهَبَ فِي بِدَايَةِ رِحلَتِهِ إلَى مَكَّةَ وَحَجَّ بَيتَ اللهِ الحَرَامَ, وَالتَقَى بِعُلَمَاءِ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ فَكَانَ مِمَّن لَقِيَهُم الشَّيخُ عَبدُ اللهِ بنُ إِبرَاهِيم آلُ سَيفٍ,، وَالشَّيخُ المُحَدِّثُ مُحَمَّدُ حَيَاة السِّندِيٌّ، وَالتَقَى بِغَيرِهِمَا فِي الحَرَمَينِ, ثُمَّ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ ثُمَّ شَدَّ الرِّحَالَ لِطَلَبِ العِلمِ فَرَحَلَ إلَى العِرَاقِ، وَكَانَ غَالِبُ استِفَادَتِهِ فِي البَصرَةِ حَيثُ نَزَلَ عِندَ الشَّيخِ مُحَمَّدٍ, المَجمُوعِيِّ، وَذَكَرَ حَفِيدُهُ الشَّيخُ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ حَسَنٍ, أَنَّ جَدَّهُ ألَّفَ كِتَابَ التَّوحِيدِ فِي البَصرَةِº جَمَعَهُ مِن كُتُبِ الحَدِيثِ الَّتِي فِي مَدَارِسِ البَصرَةِ(3).

ثُمَّ بَعدَ ذَلِكَ أَرَادَ التَّوَجٌّهَ إلَى الشَّامِ فَلَم يَستَطِع إِكمَالَ رِحلَتِهِ، فَرَجَعَ إلَى نَجدٍ,، وَفِي طِرِيقِ عَودَتِهِ إلَى نَجدٍ, مَرَّ بِالأَحسَاءِ فَنَهَلَ مِن عُلُومِ عُلَمَائِهَا، ثُمَّ رَجَعَ إلَى نَجدٍ,.

 

دَعوَتُهُ وَجِهَادُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ:

لَمَّا رَجَعَ مِن رِحلَتِهِ فِي طلب العِلمِ، وَانتَقَلَ وَالِدُهُ وَأُسرَتُهُ إلَى حُرَيمِلاءَ وَهِيَ بَلدَةٌ قَرِيبَةٌ مِن مَدِينَةِ الرِّيَاضِ دُونَ المِائَةِ كِيلٍ,º أَخَذَ يَنشُرُ عِلمَهُ وَيُعَلِّمُ النَّاسَ مَا وَفَّقَهُ اللهُ إِلَيهِ مِن عُلُومٍ, أَخَذَهَا فِي الحَرَمَينِ وَالعِرَاقِ وَالأَحسَاءِ.

وَكَانَ - رحمه الله - ذَكِيًّا، فَطِناً، مُثَابِراً فِي طَلَبِ العِلمِ، والدَّعوَةِ إلَى اللهِ، جَرِيئاً وَشُجَاعاً فِي قَولِ الحَقِّ وَرَدِّ البَاطِلِ، وَقَد استَفَادَ مِن بَعضِ العُلَمَاءِ الَّذِينَ تَعَلَّمَ مِنهُم مَحَبَّةَ العَقِيدَةِ وَعِظَمَ شَأنِهَا، وَكَانَ الحَاصِلَ عَلَى قَصَبِ السَّبقِ فِي ذَلِكَ مِن شُيُوخِهِ: الشَّيخُ مُحَمَّد حياة السِّندِيٌّ وَالشَّيخُ عَبدُ اللهِ بنُ إِبرَاهِيمَ آلُ سَيفٍ, حَيثُ التَقَى بِهِمَا فِي المَدِينَةِ، وَوَجَّهَاهُ نَحوَ العَقِيدَةِ السَّلَفِيَّةِ.

فَكَانَ- رحمه الله - يُنكِرُ البِدَعَ بِشِدَّةٍ,، وَقَد ظَهَرَت جُرأَتُهُ فِي إِنكَارِ البِدَعِ لَمَّا دَخَلَ البَصرَةَ لِطَلَبِ العِلمِ، فَأَنكَرَ مَظَاهِرَ الشِّركِ بِالقُبُورِ وَبِالمَوتَى، وَعِبَادَةَ الأَشجَارِ وَالأَحجَارِ لأَنَّ البَصرَةَ يَغلُبُ عَلَيهَا الرَّافِضَةُ فِي زَمَنِ الشَّيخِ إلَى زَمَنِنَا هَذَا، فَأُوذِيَ مِنَ الرَّافِضَةِ وأَشبَاهِهِم مِن عَبَدَةِ القُبُور، فَخَرَجَ مِنهَا حَتَّى كَادَ يَهلَكُ لَولا أَنَّ اللهَ - عز وجل - يَسَّرَ لَهُ رَجُلاً مِن أَهلِ الزٌّبَيرِ فَحَمَلَهُ وَسَقَاهُ وَأَطعَمَهُ، ثُمَّ رَحَّلَهُ إلَى حَيثُ يُرِيدُ.

فَالشَّيخُ - رحمه الله - كَانَ نَاصِحاً للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ المُسلِمِينَ وَعَامَّتِهِم، هَذِهِ البِدَايَةُ مِن شَيخِ الإسلامِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوَهَّابِ فِي شَبَابِهِ لَقِيَت قَبُولاً مِن كَثِيرٍ, مِنَ النَّاسِ فِي بَادِئِ الأَمرِ، وَمُعَارَضَةً مِنَ الأَكثَرِينَ حَتَّى تَسَبَّبَت لَهُ هَذِهِ الجُرأَةُ وَهَذِهِ الشّجَاعَةُ وَهَذَا الحِرصُ عَلَى أَهلِ بَلَدِهِ وَالّتِي انتَقَلَ إليها وَهِيَ حُرَيمِلاءُ، فَأُوذِيَ، فَأَمَرَهُ أَبُوهُ أن يُخَفِّفَ مِن نشَاطِهِ.  

فلَمَّا تُوُفِّيَ وَالِدُهُ - رحمه الله - وَاصَلَ الدَّعوَةَ وَبَدَأَ يُنَاصِحُ النَّاسَ وَيُعَلِّمُهُم، وَيُنكِرُ عَلَى المُفسِدِينَ فِي الأَرضِ مِنَ الفُسَّاقِ وَأَهلِ البِدَعِ حَتَّى اجتَمَعَ بَعضُ المُفسِدِينَ فِي حُرَيمِلاءَ عَلَى قَتلِهِ وَتَسَوَّرُوا بَيتَهُ، فَفَطِنَ لَهُ بَعضُ النَّاسِ، وَنَهَرُوا هَذَا المُتَسَلِّقَ الَّذِي أَرَادَ الفَتكَ بِالشَّيخِ، وَنُصِحَ الشَّيخُ بِالخُرُوجِ مِن حُرَيمِلاءَ، فَخَرَجَ مِنهَا إلَى العُيَينَةِ، وَهَذَا كَانَ سَنَةَ خَمسٍ, وَخَمسِينَ وَمِائَةٍ, بَعدَ الأَلفِ 1155هـ تَقرِيباً.

فَالتَقَى بِأَمِيرِ العُيَينَةِ عُثمَانَ بنِ مُعَمَّرٍ, فَدَعَاهُ لِتَطبِيقِ الشَّرِيعَةِ، وَالدَّعوَةِ إلَى التَّوحِيدِ، وَوَعَدَهُ بِالنَّصرِ وَالتَّمكِينِ، كَمَا ذَكَرَ اللهُ- عز وجل - ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ، فَقَبِلَ ابنُ مُعَمَّرٍ, نُصرَةَ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِ الوَهَّابِ، فَبَدَأَ الشَّيخُ بِمُؤَازَرَةٍ, مِنِ ابنِ مُعَمَّرٍ, بِهَدمِ الأَشجَارِ المُعَظَّمَةِ عِندَهُم وَهَدمِ القِبَابِ وَالقُبُورِ وَإِنكَارِ المُنكَرَاتِ وَإِقَامَةِ الحُدُودِ.

وَمِن ذَلِكَ أَنَّ امرَأَةً زَنَت فَجَاءَت وَاعتَرَفَت عِندَ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بنِ عبد الوهاب الَّذِي كَانَ بِمَثَابَةِ المُشِيرِ وَالوَزِيرِ وَالمُعَلِّمِ وَالمُفتِي لابنِ مُعَمِّرٍ, فَأقَامَ عَلَيهَا الحَدَّ كَمَا فَعَلَ النَّبِيٌّ- صلى الله عليه وسلم - بِالغَامِدِيَّةِ، فَلَمَّا انتَشَرَ هَذَا الخَبَرُ بَينَ أَهلِ نَجدٍ, وَوَصَلَ هَذَا الأَمرُ إلَى حَاكِمِ الأَحسَاءِ سُلَيمَانَ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عُرَيعِرٍ, وَهُوَ مِن بَنِي خَالِدٍ, فَكَتَبَ إلَى ابنِ مُعَمَّرٍ, أَميرِ العُيَينَةِ يَأمُرُهُ بِقَتلِ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بنِ عبد الوهاب، فَبلَّغَ أَمِيرُ العُيَينَةَ الشَّيخَ مُحَمَّدَ بنَ عَبدِالوَهَّابِ، وَخَافَ مِن حَاكِمِ الأَحسَاءِ لأَنَّهُ كَانَ يُعطِيهِ عَطِيَّةً سَنَوِيَّةً فَخَشِيَ إِن عَصَى حَاكِمَ الأَحسَاءِ أَن يَنقَطِعَ عَنهُ المَالُ، وَخَشِيَ أَن يَغزُوَهُ، وَخَذَلَ الشَّيخَ، فَطَلَبَ مِنهُ أَن يَرحَلَ وَأَوعَزَ إِلَى فَارِسِيٍّ, يَمشِي خَلفَ الشَّيخِ مُحَمَّدِ بنِ عَبدِالوَهَّابِ أَن يَقتُلَهُ إِذَا خَرَجَ.

فلَمّا خَرَجَ حَمَى اللهُ الشَّيخَ مُحَمَّدَ بنَ عَبدِالوَهَّابِ، وَلَم يَستَطِع هَذَا الفَارِسِيٌّ أَن يَقتُلَهُ، فَوَصَلَ شَيخُ الإسلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبدِالوَهَّابِ إلَى الدِّرعِيَّةِ وَكَانَ الإمَامُ مُحَمَّدُ بنُ سُعُودٍ, أَمِيرَ الدِّرعِيَّةِ، فَنَزَلَ شَيخُ الإسلامِ مُحَمَّدُ بنُ عَبدِالوَهَّابِ عِندَ أَحَدِ طُلاَّبِهِ وَهُوَ عَلِيٌّ بنُ عبد الرحمن بنِ سُوَيلِمٍ, فَنَزَلَ عِندَهُ فَأَكرَمَهُ وَصَارَ النَّاسُ يَتَوَافَدُونَ عَلَى الشَّيخِ فِي مَنزِلِ ابنِ سُوَيلِمٍ,.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply