نظرة في منهج تاريخ الأدب


  

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الناظر في كتب تاريخ الأدب الحديثة ليعجب مما يجده فيها من أحكام يصدرها مؤلفوها على المجتمعات الإسلامية الأولى، وما تشير إليه من شيوع مظاهر اللهو والعبث والمجون، علاوة على ما تضمنته من مبالغات في حديثها عن الجوانب السلبية في حياة الأفراد، مما يدفع المرء إلى التساؤل بإلحاح عن مدى صحة تلك الأحكام.

ولا سيما أننا نرى أولئك الدارسين يشيرون إلى أنهم اعتمدوا في ذلك على مصادر مشهورة من كتب التراث، قاصدين إضفاء الصفة العلمية عليها، وإحاطتها بهالة من التوثيق.

وبذلك أصبحت كتب التراث بما تتضمنه من ثروة خبرية وهائلة مصدراً - لكثير من الدراسات التي شوهت معالم التاريخ الإسلامي في جوانبه السياسية والاجتماعية والثقافية بسبب البعد عن المنهج العلمي في التعامل مع النصوص.

 لقد تعرض تاريخنا منذ العصور الأولى ولا زال يتعرض لحملة تشويه كبرى، تمثلت قديماً في وضع طائفة كبيرة من الأخبار والحكايات التي تخدم أهل الأهواء على اختلاف اتجاهاتهم، وتمثلت في العصر الحاضر في الدراسات التي استندت إلى تلك الأخبار، ولم يعد من العسير على الذين يتبنون آراء شاذة، أو يريدون تشويه معالم الصورة المشرقة لتاريخنا أن يجدوا من الأخبار ما يسندون به وجهات نظرهم.

كما أن كثيراً من الباحثين الذين لم ينطووا على نوايا سيئة وقعوا في التخليط، ووصلوا إلى نتائج غير سليمة، بسبب تأثرهم بدراسات الآخرين من جهة، وبسبب عدم اتباعهم منهجاً علمياً يمكنهم من الاستفادة من التراث من جهة أخرى.

ويكاد يكون من المتفق عليه أن كتب التاريخ والأدب التراثية تحتوي على عدد كبير من الأخبار والحكايات الباطلة، وأن الذين صنفوا في هذين الموضوعين حشدوا في كتبهم ما وصل إليهم منها دون تمحيص إلا في القليل النادر.

وممن أشار إلى ذلك أبو بكر بن العربي الذي حذر من روايات المؤرخين وأهل الآداب لما يتضمنه كثير منها من الاستخفاف بالسلف [1]، ويقول ابن تيمية بعدما أثنى على أهل الحديث [2]: (بخلاف الأخباريين فإن كثيراً مما يسندونه عن كذاب أو مجهول، وأما ما يرسلونه فظلمات بعضها فوق بعض).

 وأخذ النووي على ابن عبد البر حكايته عن الأخباريين، لأن الغالب عليهم الإكثار والتخليط [3].

 ولم يقتصر التحذير من روايات الأخباريين على العلماء، فقد نص على هذا كثير من الأدباء.

يقول الجاحظ مصوراً سهولة الكذب على الرواة وسهولة نشره [4]: 0 وما هو إلا أن ولد أبو مخنف حديثاً، أو الشرقي بن القطامي، أو الكلبي، أو ابن دأب، أو أبو الحسن المدائني، ثم صوره في كتاب وألقاه في الوراقين إلا رواه من لا يحصل ولا يتثبت ولا يتوقف، وهؤلاء كلهم يتشيعون (..ويقول أحمد أمين [5]: ) وجاء حماد وخلف الأحمر - كما سبق - وأمثالهما فعدوا من الظرافة أن يتزيدوا، وتسابقوا في الوضع، واستغلوا إعجاب الناس بالجديد الذي لم يسمع من قبل...

فكان من ذلك ما أدركه المفضل الضبي من أن تمييز الصحيح من غير الصحيح أصبح بعد هؤلاء الكذبة المهرة عسيراً ومحالاً.

وتحدث زكي مبارك عن كتاب الأغاني مشيراً إلى خلق الأصفهاني الذي كان مسرفاً في اللذات والشهوات مما دفعه إلى الاهتمام بأخبار الخلاعة والمجون، وإهمال الأخبار التي تصور الجوانب الجادة في حياة الأفراد والمجتمعات.

ثم ذكر أن هذا الأمر أفسد كثيراً من آراء المؤلفين الذين اعتمدوا، عليه [6]، والأصفهاني نفسه الذي يعد كتابه أضخم مجموعة أخبارية في تاريخ الأدب يصرح بأن منهجه يقوم على جمع كل ما رواه الناس وتداولوه، ولو كان كذباً، لئلا يشذ عن الكتاب شيء مما تناقله الرواة.

 وإذا كان الأمر على ما ذكرنا من كثرة الأخبار الباطلة، وما يحمله كثير منها في طياته من تشويه لمعالم التاريخ الإسلامي في مختلف جوانبه، أو لحياة بعض الأشخاص فإنه لا بد من الاحتراز وتحكيم العقل والمنطق في قبول الأخبار أو رفضها إذا كان إسنادها غير مقبول.

وهذا أمر لا مفر للباحث منه إذا كان هدفه الوصول إلى الحقيقة، وإلا فإنه سوف يسهم في ترسيخ الأخطاء وتشويه المعالم الصحيحة، وسيكون خطؤه أعظم من خطأ السابقين الذين كانوا يروون الأخبار عالمين بأن فيها الغث والسمين متبرئين من عهدتها، لأنه عندما يقبل ما رووه دون تحقيق سيكون بمثابة من يرى صحة ما احتوته تلك المصنفات، وسيجد نفسه أمام كثير من الغرائب والمتناقضات فإن قبلها جميعاً وقع في التناقض.

وإن قبل بعضها ورد بعضها دون تحقيق صار صاحب هوى، وبذلك يكون قد ابتعد عن المنهج العلمي، وفقد جانباً من أهم ما يتميز به المحققون.

ولا بد للباحث من الاستعانة بالأخبار ذات الإسناد المقبول لرسم الخطوط العامة، والمعالم الرئيسية لموضوع البحث، لكي تكون مقياساً يستعين به على قبول غيرها من الروايات أو رفضه، ولا يمكن للباحث الاستغناء عن كل خبر لا يصح سنده لأننا في هذه الحال سنجد حلقات كثيرة مظلمة في تاريخ الأفراد أو التاريخ العام، ولن نجد من الأخبار ذات الإسناد المقبول ما يكفي لإضاءتها.

وسبب ذلك أن العلماء والرواة السابقين لم يكونوا يولون الإسناد أهمية إلا في الحديث النبوي وما يتصل به.

أما ما عدا ذلك فلم يكونوا يرون بأساً في نقله وتداوله بدون إسناد، أو بإسناد فيه بعض المتهمين.

ومما يدل على ذلك ما ذكر عن إبراهيم بن الجنيد أنه سأل يحيى بن معين عن إبراهيم بن مناذر الشاعر، فقال: لم يكن ثقة ولا مأموناً.

قال له إبراهيم: إنما نكتب شعره وحكايات عن الخليل بن أحمد، فقال: هذا نعم، وأما الحديث فلست أراه له موضعاً [7].

وكون الخبر من ذلك النوع لا يعني القطع بعدم صحة مضمونه وليس أمامنا لكي نقرر قبوله أو رفضه إلا دراسة متنه وتحليله وتحكيم العقل فيه ومقارنته بالأخبار المقبولة.

 وللنصوص الأدبية الإبداعية من شعر ونثر أهمية كبيرة في إضاءة بعض الجوانب من حياة الأفراد أو المجتمعات، إذا ما تمت دراستها بمعزل عما حيك حولها من حكايات.

ومن أمثلة ذلك أنه قد اشتهر بين كثير من المعاصرين أن الاختلاط والسفور كانا شائعين في مجتمع الحجاز في العصر الأموي، وأن النساء كن يبرزن للرجال، ويتعرضن للشعراء ليتغزلوا بهن ويجلسن معهم مجالس السمر المختلطة حتى في غيبة أوليائهن.

ويستدل هؤلاء على ذلك بالقصص والحكايات الباطلة.

ويزعمون أن الشعر الحجازي، ولا سيما شعر عمر بن أبي ربيعة يدل على صحة آرائهم.

بيد أن المتأمل في شعر عمر وغيره من شعراء الحجاز المعاصرين له يدل على خلاف ما توهمه أولئك الدارسون، ومن ذلك ما نجده في شعر عمر من الحديث عن مغامراته الليلية، وتسلله تحت ستار الظلام للقاء من يحب حيث يبدو من يسعى إلى ذلك اللقاء بصورة الذي يريد أن يقدم على أمر شديد الخطر، فهو لا بد أن يكون منتبهاً شديد الحذر، وأن يأخذ بجميع أسباب الحيطة لأن انكشاف ذلك الأمر سوف يسبب له المتاعب، ويعرضه لخطر عظيم، وهو لا يستطيع الوصول إلى ما يريد في النهار، ولكنه يتسلل إليه في الظلام بعد أن ينام الحي، ويغفل الرقباء ويهجع الحراس.

والأمثلة التي تبين لنا ذلك من شعره كثيرة جداً لا يتسع المقام هنا لأكثر من واحد منها، وهو قوله في رائيته المشهورة:

فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت *** مصابيح شبت بالعشاء وأنور

وغاب قمير كنت أرجو غيوبه *** وروح رعيان ونوم سُمَّر

وخفض عني الصوت أقبلت مشية ال *** حباب[8] وشخصي خشية الحي أزور[9]

إن في تصوير الشعراء لمغامراتهم الليلية ما يكشف لنا عن إحساسهم العميق بالرقابة التي يفرضها المجتمع على الذين يريدون الخروج على أنظمته وقيمه وتقاليده، وهذا يدل على مدى التحفظ الذي كان يسود المجتمع، ويوحي بما كان يهيمن على العلاقات بين الرجال والنساء من الجد والالتزام بالحدود الشرعية.

ولعل في هذا ما يدل بوضوح على أن النصوص الأدبية يمكن أن تساعد على الوصول إلى الحقيقة التي ينشدها الباحث في تاريخ الأدب.

وهناك خطأ آخر وقع فيه كثير من المعاصرين، وأدى إلى إصدارهم أحكاماً، خاطئة في حق المجتمعات الإسلامية الأولى، وهو نقص الاستقراء، والتعميم الخاطئ حيث يعتمد الباحث على عدد قليل من المصادر ويهمل غيرها، وإذا وجد بضعة أخبار حول أديب حكم من خلالها على حياته، دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتنقيب عن غيرها، وقد يحكم على مجتمع أو عصر بكامله من خلال ما يقرؤه عن عدد قليل من الناس فيقع في التعميم الخاطئ.

وهذا الأمر قد يكون بسبب ضعف همة الباحث ورغبته في الوصول إلى نتائج سريعة، ولكنه ربما حدث بسبب سوء نيته وحبه للترويج لمظاهر أو أفكار منحرفة عن طريق ادعاء أنها كانت شائعة عند أسلافنا، ولا مبرر لرفضها وإنكارها في العصر الحاضر.

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الاهتمام بتحقيق الأخبار والاستقصاء والاستفادة من النصوص الأدبية لا يتنافى مع محاولات التنظير التي يهتم بها بعض الدارسين، ولا مع ما يقومون به من دراسة وتفسير وتحليل لبعض الظواهر الأدبية، إذ أن ذلك جزء مهم من الدراسات الأدبية الحديثة.

ولكن تلك الدراسات لن تكون ذات قيمة علمية ما لم يكن الأساس النصوصي الذي بنيت عليه سليماً مقبولاً.

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) العواصم من القواصم / 260.

(2) مجموع الفتاوى 27/479.

(3) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي / 116.

(4) كتاب البغال المطبوع ضمن رسائل الجاحظ 2/225-226.

(5) ضحى الإسلام 2/315 - 316.

(6) أبو الفرج الأصفهاني وكتابه الأغاني لمحمد عبد الجواد الأصمعي / 179 - 187.

(7) انظر الأغاني 18 /208.

(8) الحباب:الحية.

(9) الأزور: المائل أو الناظر بمؤخر عينه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply