داية الصراع المسلح في دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد.

الصراع بين الحق والباطل من سنن الله الكونية كما قال - تعالى - [ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا] [الحج:40].

ومع بداية العصر الحديث ظهر الشيخ محمد بن عبد الوهاب في قلب الجزيرة العربية واستطاع بفضل الله أن يؤسس دولة إسلامية استمرت حتى وقتنا الحاضر. ومن طبيعة كل دعوة أن تتعرض إلى صراعات متتابعة مع خصومها ثم يحقق الله لها التمكين في الأرض.

ولكن كيف بدء الصراع؟ ومن هو البادئ بالظلم؟ هذا ما نستعرضه في هذه السطور.

 

بداية الدعوة بالحسنى:

من المعروف أن الشيخ بدأ الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ولم يبادر أحداً بالتكفير والقتال بل كاتب الأمراء والعلماء وحثهم على التوحيد الخالص ونبذ الشرك حتى بلغ الأمر أن تؤدد إليهم وأشفق عليهم كما قال عن ألد خصومه (وكاتبناهم ونقلنا لهم العبارات وخاطبناهم بالتي هي أحسن وما زادهم ذلك إلا نفوراً) (1).

ويقول الشيخ أيضاً عن أحد خصومه (استدعيته أولاً بالملاطفة، وصبرت منه على أشياء عظيمة) (2).

ويقول الشيخ في رسالته إلى الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الإحسائي (إني أحبك، وقد دعوت لك في صلاتي وأتمنى من قبل هذا المكاتيب أن يهديك الله لدينه القيم) (3).

وفي رسالته إلى الشريف أحمد والي مكة قال الشيخ (إن الكتاب لما وصل إلى الخادم وتأمل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده الشريعة المحمدية) (4).

 

متى يقع التكفير؟

وقد حدد الشيخ متى يقع التكفير حيث قال (نكفر من أقر بدين الله ورسوله ثم عاداه وصد الناس عنه، وكذلك من عبد الأوثان بعد ما عرف أنها دين المشركين وزينه للناس، فهذا الذي أكفره)(5).

وقال الشيخ أيضاً (وأما التكفير فأنا أكفر من عرف دين الرسول ثم بعد ما عرفه سبه ونهى الناس عنه وعادى من فعله فهذا هو الذي أكفره وأكثر الأمة ولله الحمد ليسوا كذلك) (6).

وقال أيضاً (نكفر من أشرك بالله في إلهيته بعد ما نبين له الحجة على بطلان الشرك، وكذلك نكفر من حسنه للناس، أو أقام الشبه الباطلة على إباحته، وكذلك من قام بسيفه دون هذه المشاهد التي يشرك بالله عندها، وقاتل من أنكرها)(7).

 

بداية القتال:

ذكر الدكتور عبد الله العثيمين عن كيفية (8) بدء القتال هل بدأ من الشيخ أو الخصوم. حيث ذكر أن هناك ثلاثة مؤرخون وهم عثمان بن بشر ومؤلف مجهول وبوركهارت يؤيدون أن الشيخ محمد هو الذي بدأ القتال. وذكر أيضاً أن الخصوم هم الذين بدأوا القتال كما ذكر تلميذ الشيخ محمد وهو المؤرخ الشيخ حسين بن غنام، وكذلك ما أشار إليه الشيخ محمد في إحدى رسائل من أن الخصوم هم الذي بدأوا القتال. ولم يرجح الدكتور العثيمين أي الطرفين بدأ القتال.

والصواب والله أعلم أن خصوم الدعوة هم الذين بدأوا القتال كما أكد الشيخ في رسائله، وكما أكدته الوقائع التاريخية في تاريخي ابن غنام وابن بشر. ولكن قبل توضيح ذلك، يمكن نقد رأي ابن بشر الذي يرى أن الشيخ محمد هو الذي بدأ القتال حيث جاءت العبارة (ثم أمر الشيخ بالجهاد وحضهم عليه..):

1. ذكر ابن بشر العبارة السابقة في أحداث عام (1157هـ) وهو العام الذي انتقل فيه الشيخ من العيينة إلى الدرعية. ومن المستبعد أن يبدأ الشيخ بالجهاد فور وصوله إلى الدرعية.

2. عبارة ابن بشر (ثم بدأ الشيخ بالجهاد..) جاءت بعد ذكر موقف الخصوم (منهم من اتخذه سخرياً، ومنهم من نسبه إلى السحر.. ولكن يريدون أن يصدوا الناس عنه) والمفهوم من العبارة أن أمر الشيخ بالجهاد جاء كرد فعل لموقف الخصوم الذي صدوا الناس عنه. ومما يرجح ذلك ما فعله دهام بن دواس الذي بدأ بالهجوم على بلدة منفوحة التي استجابت لدعوة التوحيد.

3. ومما يرجح هذا أيضاً ما قام به الخصوم من التحريض عندما بلغهم خبر رجم الزانية في بلدة العيينة.

 

أما ما أكده الشيخ في رسائله من أن الخصوم هم الذين بدأوا القتال فقد جاءت كما يلي:

يقول الشيخ في أحدى رسائله بعد أن بين مظاهر الشرك (فهذا هو الذي أوجب الاختلاف بيننا وبين الناس حتى آل بهم الأمر إلى أن كفرونا وقاتلونا واستحلوا دماءنا وأموالنا)(9).

ويقول أيضاً (وأما القتال فلم نقاتل أحداً إلا دون النفس والحرمة وهم الذين أتونا في ديارنا ولا أبقوا ممكنا)(10).

ومنهم من اتهم الشيخ أنه يكفر عامة الناس كما في إحدى رسائله (ما ذكر عني أني أكفر بالعموم فهذا من بهتان الأعداء،) (11).

وقال أيضاً (وأما ما ذكر الأعداء عني أني أكفر بالظن وبالموالاة أو أكفر الجاهل الذي لم تقم عليه الحجة فهذا بهتان عظيم يريدون به تنفير الناس عن دين الله ورسوله) (12).

 

ومن الخصوم من أيد الدعوة في بادئ الأمر ثم صار من ألد خصومها مثل قاضي الرياض الشيخ سليمان بن سحيم حيث قال الشيخ محمد في رسالته (إني أرسلت لك رسالة الشيخ تقي الدين التي يذكر فيها أن من دعا نبيا أو صحابيا أو وليا مثل: أن يقول يا سيدي فلان أنصرني وأغثني أنه كافر بالإجماع فلما أتتك استحسنتها وشهدت أنها حق وأنت تشهد به الآن فما الموجب لهذه العداوة)(13). ولم يكتف الشيخ سليمان بن سحيم بذلك بل كتب رسالة طويلة وبعث بها إلى العلماء في نجد والإحساء والبصرة ومما جاء فيها (أنه قد خرج في قطرنا رجل مبتدع جاهل مضل ضال.. وأنه عمد إلى شهداء أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكائنين في الجبيلة: زيد بن الخطاب وأصحابه وهدم قبورهم وبعثرها.. ومنها أنه يقطع بتكفير ابن الفارض وابن عربي.. ومنها أنه يقطع بكفر الذي يذبح الذبيحة ويسمى عليها ويجعلها لله - تعالى -، ويدخل مع ذلك دفع شر الجن)(14).

 

وكذلك قاضي المجمعة الشيخ عبد الله بن سحيم كان من المؤيدين في بادئ الأمر ثم أصبح في صف الأعداء كما قال الشيخ محمد معاتباً له (و اعتبر لنفسك حيث قلت لي فيما مضى ان هذا هو الحق الذي لا شك فيه لكن لا نقدر على تغييره)(15). ثم قال عنه الشيخ بعد أن تغير موقفه (فإن كان مرادك إتباع الهوى أعاذنا الله منه، وأنك مع ولد المويس (16) كيف كان، فاترك الجواب، فان بعض الناس يذكرون عنك أنك صاير معه لأجل شيء من أمور الدنيا، وان كنت مع الحق فلا أعذرك من تأمل كلامي هذا وكلامي الأول وتعرضها على كلام أهل العلم وتحررها تحريرا جيدا ثم تتكلم بالحق)(17).

 

ومن العلماء من عادى الدعوة منذ البداية مثل الشيخ أحمد بن يحيى في بلدة رغبه كما ذكر الشيخ (وكذلك أحمد بن يحيى راعي رغبه عداوته لتوحيد الألوهية والاستهزاء بأهل العارض لما عرفوا)(18).

وكذلك فقد قام بعض العلماء من أهل سدير والوشم والمحمل بتحريض الأعداء من القبوريين على دعوة التوحيد، ومن ذلك ما ذكره الشيخ في بعض رسائله قائلاً (كون المويس وخواص أصحابه ركبوا وتركوا أهليهم وأموالهم إلى أهل قبة الكواز وقبة رجب سنة يقولون أنه قد خرج من ينكر قببكم وما أنتم عليه)(19). (وكذلك ابن إسماعيل وابن ربيعة والمويس أيضا بعدهم بسنة رحلوا إلى أهل قبة أبي طالب وأغروهم بمن صدق النبي صلى الله عليه وسلم وأحلوا دماءنا وأموالنا)25.

أما الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف الأحسائي فقد قال عنه الشيخ (وأما ابن عبد اللطيف وابن عفالق وابن مطلق فحشوا بالزبيل أعني سبابة التوحيد واستحلال دم من صدق به أو أنكر الشرك)(20).

 

أما الوقائع التاريخية فقد جاءت في تاريخي ابن غنام وابن بشر تؤكد أن الخصوم هم الذي بدأوا القتال كما يلي:

في عام (1159) هـ هجم دهام بن دواس أمير الرياض على بلدة منفوحة التي أعلنت الاستجابة لدعوة التوحيد. ومقتضى الاستجابة للدعوة أن يقوم ولاة الأمر في الدرعية بالدفاع عن البلدان التي استجابت للدعوة إذا تعرضت إلى هجوم من أعداء الدعوة. وفي المقابل يقوم أهل تلك بالبلدان بالسمع والطاعة في حالة الأمر بالجهاد للدفاع عن الدعوة. وكان دهام بن دواس قد اتضح له أن هذا هو الدين الصحيح ثم أظهر العداوة.

في عام (1160هـ) فارق أمير ثرمداء منهج الحق وبادر بالحرب وابتدأ.

في عام (1163هـ) اجتمع أهل ثرمداء مع أهل وثيثا ومرات وحاربوا الموحدين.

في عام (1164هـ) نقض العهد أمير ضرماء وقتل بعض دعاة التوحيد في بلده.

في عام (1165هـ) خيانة جمع من أهل بلدة رغبه لأهلها الموحدين. وكذلك تحزب أهل الضلال من الوشم وسدير والخرج والحريق والدلم وآل ظفير وجلوية ضرماء وهجموا على بلدة ضرماء. وفيها نفس العام نقض العهد أهل بلدة حريملاء ومعهم الشيخ سليمان بن عبد الوهاب وحاربوا الموحدين. وكان الشيخ محمد قد أرسله كتاباً إلى أخيه يحذره من الفتنة وبث الشبهات ولكن أخاه الشيخ سليمان أجابه بأنه لا يزال على العهد حتى جرى منه نقض العهد.

في عام (1166هـ) نقض العهد أهل بلدة منفوحة وحاربوا الموحدين.

في عام (1167هـ) ضجر دهام بن دواس من الحرب بينه وبين الموحدين وطلب من الشيخ محمد أن يرسل له معلماً يحقق لهم التوحيد ويقيم شرائع الإسلام فأرسل إليهم الشيخ عيسى بن قاسم. واستمر دهام مدة عام ثم نقض العهد وحارب الموحدين مرة أخرى.

 

مما تقدم يتضح أن الأعداء هم الذين بدأوا القتال ثم ألبوا الخصوم في البلدان الأخرى مثل الأحساء والحجاز والعراق ومصر فجاؤا محاربين كما يلي:

في عام (1172هـ) سار أمير الإحساء بجموع كثيرة لحرب الموحدين فحاصر بلدة الجبيلة وأمطر عليها وابل من القذائف ولم يحصل على طائل.

في عام (1205هـ) أرسل شريف مكة العساكر الكثيفة التي بلغ عددها أكثر من عشرة آلاف لحرب التوحيد فحاصروا قصر البسام في السر وعادوا مهزومين.

في عام (1211هـ) سار رئيس المنتفق بدعم من والي العراق وقصد الأحساء ولكنه قُتل وألقى الله الرعب في قلوب المحاربين فارتحلوا منهزمين.

في عام (1213هـ) سار علي الكيخيا وزير والي العراق بجموع كثيرة زادت عن ثمانية عشر ألف وحاصروا الموحدين ثم انهزموا وتركوا أمتعتهم وأسلحتهم.

في عام (1226هـ) أرسل محمد علي باشا والي مصر عساكر الترك البالغ عددهم أربعة عشر ألف أو يزيدون وعلى رأسهم طوسون وهاجموا بلدة ينبع التي استجاب أهلها لدعوة التوحيد.

 

كانت هذه نماذج تؤكد أن الخصوم هم الذين بدأوا القتال ضد الموحدين. أما الإعداد للجهاد من تربية النشء وتعليم الناس أمور دينهم والبحث عن مكان تأمن فيه الدعوة فهذا من أمر الله الشرعي الذي يجب القيام به كما قام بذلك الشيخ.

 

وقبل الختام لا بد من التنويه إلى أن مفهوم التوحيد لم يكن معروف لدى معظم العلماء المعاصرين للشيخ محمد بن عبد الوهاب كما أكد ذلك أحدهم وهو القاضي الشيخ عبد الله بن عيسى حيث قال (فالله الله عباد الله لا تغتروا بمن لا يعرف شهادة أن لا إله إلا الله وتلطخ بالشرك وهو لا يشعر، فقد مضى أكثر حياتي ولم أعرف من أنواعه ما أعرفه اليوم، فلله الحمد على ما علمنا من دينه).

 

ــــــــــــــــــــــــــــ

[1] الرسائل الشخصية، أسبوع الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ص 300.

[2] الرسائل الشخصية، ص 141

[3] الرسائل الشخصية، ص 257.

[4] الرسائل الشخصية، ص 312.

[5] الرسائل الشخصية، ص 58.

[6] الرسائل الشخصية، ص 38.

[7] الرسائل الشخصية، ص 60.

[8] تاريخ المملكة العربية السعودية، ج 1، ص 90.

[9] الرسائل الشخصية، ص 114.

[10] الرسائل الشخصية، ص 38.

[11] الرسائل الشخصية، ص 58.

[12] الرسائل الشخصية، ص 25.

[13] الرسائل الشخصية، ص 229.

[14] روضة الأفكار، ج 1، ص 89. تحقيق د. ناصر الدين الأسد.

[15] الرسائل الشخصية، ص 66.

[16] أحد العلماء المناوئين لدعوة التوحيد.

[17] الرسائل الشخصية، ص 75.

[18] الرسائل الشخصية، ص 20.

[19] الرسائل الشخصية، ص 27.

[20] الرسائل الشخصية، ص 206.

[21] الرسائل الشخصية، ص 193.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply