دروس في سورة يوسف


 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

ذكرت في مقال سابق أن من أسباب اختيار سورة يوسف: الدروس والعبر التي اشتملت عليها، وبخاصة مما تشتد حاجة الناس إليه في هذه الأوقات، ولهذا قال الله - سبحانه وتعالى- في أولها: \"لَقَد كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ\" (يوسف: 7)، ثم ختم في آخرها بقوله: \"لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفتَرَى\" (يوسف: من الآية111)، وأشير فيما يلي إلى بعض تلك الدروس والعبر التي احتوتها السورة، إشارات عابرة، وأسأل الله أن ييسر بسطها في مقالات لاحقة، فمن تلك الدروس ما يلي:

1- هذه السورة المكية ترسم المنهج الحق للداعية في الدعوة إلى الله - تعالى -، كما قال الله - تعالى -: \"قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ, أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ\" (يوسف: 108)، والأمة اليوم قد بعدت عن عهد النبوة، فشاع في بعض جوانبها بعد عن المنهج النبوي في كثير من المجتمعات الإسلامية، ولهذا الخلل المنهجي تأخر الانتصار وضعفت النتائج، وفي هذه السورة بيان واقعي عملي للمنهج النبوي الذي إن أخذنا به لن نضل بعده أبداً، مصداقاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: \"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي\"(1)، ومن هذه الدروس التي تبين هذه الحقيقة أن النجاة والسلامة والسعادة بمقدار الالتزام بالكتاب والسنة، والرجوع إليهما.

 

2- ومن الدروس في هذه السورة التفاؤل العجيب الذي يبعث الجد والأمل في نفوس الأنبياء، يوسف - عليه السلام - في كل مراحل حياته لم يفارقه التفاؤل، وأبوه يعقوب - عليه السلام - في أحلك وأشد ظروفه لم يفارقه التفاؤل، حتى أنك تجده - عليه السلام - يخاطب بنيه في مدة حرجة، وذلك عندما جاؤوا بنبأ حجز أخيهم في مصر، فيقول: \"بَل سَوَّلَت لَكُم أَنفُسُكُم أَمراً فَصَبرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأتِيَنِي بِهِم جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ وَتَوَلَّى عَنهُم وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابيَضَّت عَينَاهُ مِنَ الحُزنِ فَهُوَ كَظِيمٌ\" (يوسف: 83، 84)، ومع أنه في تلك الحالة، ومع حرج الموقف، ومع تلك الظروف، ومع قول بنيه: \"تَاللَّهِ تَفتَأُ تَذكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَو تَكُونَ مِنَ الهَالِكِينَ\" (يوسف: من الآية85). يقول لهم: \"يَابَنِيَّ اذهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيأَسُوا مِن رَوحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيأَسُ مِن رَوحِ اللَّهِ إِلَّا القَومُ الكَافِرُونَ\" (يوسف: 87).

 

أمتنا تعيش هذه الآونة ظروفاً حرجة شديدة، فما أحوجها للتفاؤل، الذي يدفعها للعمل من أجل تحقيق موعود الله لها، فإن المهزوم من هزمته نفسه قبل أن يهزمه عدوه، وإذا دخل اليأس والقنوط على القلوب فشلت وخارت واستسلمت لعدوها.

فلتأخذ من يعقوب درساً، فيعقوب - عليه السلام - لم يفارقه التفاؤل أبداً، وكذلك كان يوسف - عليه السلام - ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم.

3- ومن الدروس في هذه السورة العظيمة نبذ ثلاثة أمور مهلكة، نادت السورة بمجموعها إلى قول: لا في وجهها، هذه اللاءات الثلاثة التي نادت السورة، هي: لا تنازل، لا استعجال، لا يأس.

فيوسف ووالده - عليهما السلام - لم يصاحبهم الاستعجال ولا اليأس ولا التنازل.

وهذه الثلاثة إذا دخلت على الفرد أو الأمة أهلكتها.

فالاستعجال عاقبته وخيمة، ومن المقرر أن من استعجل شيئاً قبل أوانه عوقب بحرمانه.. قضاءً.. وواقعاً.

أما التنازل، فهو الداء الذي وقع فيه كثير من الناس، بل كثير من الجماعات الإسلامية في عصرنا الحاضر مع الظالمين، فكان من الطبيعي ألا يتحقق النجاح المأمول.

 

 

 

وأما اليأس والتشاؤم فإذا دخل على النفوس أحبطها وأتعبها وأثقلها، ومن كانت نفسه مضعضعة مهزوزة فكيف ينتصر على عدوه! إن خذلان النفس لصاحبها من أول أسباب انتصار عدوها، وقد تمنع أقوام في حصون ودساكر \"فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِن حَيثُ لَم يَحتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرٌّعبَ يُخرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيدِيهِم وَأَيدِي المُؤمِنِينَ فَاعتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبصَارِ\" (الحشر: من الآية2).

4- إن من أعظم أسباب عدم استجابة الناس، التذبذب والاضطراب والتغير في حياة الداعية، ومن دروس هذه السورة اطراد منهج يوسف - عليه السلام - وعدم تذبذبه، من أول حياته، وحتى آخر لحظات عمره، فهو مطرد مستمر في منهج معتدل في سرائه وضرائهº في البئر، في السجن، في الملك، وهو يرفع أبويه على العرش ويخروا له سجداً، في كل أحواله التي قصتها الصورة تلحظ اطراداً عجباً، والدعاة وطلاب العلم، بل الأمة كل الأمة تحتاج إلى الاستقامة والاطراد على المنهج الصحيح، وبخاصة في هذه الظروف التي تقلب فيها رياح الفتن أوجه القلوب وتصرفها.

5- نجد أيضاً في هذه السورة أهمية القصة وأثرها على حياة الداعي والمدعو، وقد اشتملت سور القرآن على عدد من القصص كما بين الله في هذه السورة \"لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ\" (يوسف: من الآية111)، وقال: \"نَحنُ نَقُصٌّ عَلَيكَ أَحسَنَ القَصَصِ بِمَا أَوحَينَا إِلَيكَ هَذَا القُرآنَ\" (يوسف: من الآية3)، فالحاجة ماسة باستخدام هذا الأسلوب القرآني من قبل الدعاة وطلاب العلم، وبعضهم يقلل من أهمية هذا الأسلوب من حيث لا يشعر، مع أن القرآن أعطاه أهمية كبرى، فالقرآن مليء بقصص الأولين وأخبار الماضين.

6- أيضاً في هذه السورة دروس سلوكية وأخلاقية وتربوية ونفسية مهمة، وخذ في هذه العجالة على سبيل المثال نموذجاً إلى أن يأتي موضع التفصيلº تأمل في هذه السورة الدعوة إلى عفة اللسان.. تجد يوسف - عليه السلام - قد قام داعية وأستاذاً يلقي المحاضرات العملية في هذه القضية في كل السورة، تأمل على سبيل المثال يوم أن جاء الرسول يأمر بإخراجه من السجن، فأجابه: \"ارجِع إِلَى رَبِّكَ فاسأَلهُ مَا بَالُ النِّسوَةِ اللَّاتِي قَطَّعنَ أَيدِيَهُنَّ\" (يوسف: من الآية50) فلم يشر إلى امرأة العزيز، ولم يقل: التي راودتني، وإنما اكتفى بإشارة اقتضتها الحاجة إلى تبرئة مقامه.

وعندما اتهم بالتهمة الباطلة، في قول إخوته كما حكى الله عنهم: \"إِن يَسرِق فَقَد سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِن قَبلُ\" (يوسف: من الآية77)، لم يتول رداً أو إساءة بل كتم جوابه، وكظم غيظه وقال في نفسه ما حكاها الله بقوله: \"أَنتُم شَرُّ مَكَاناً\" (يوسف: من الآية77).

ومن عفة لسانه أيضاً عندما قالوا له: \"إِنَّ لَهُ أَباً شَيخاً كَبِيراً فَخُذ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المُحسِنِينَ\" (يوسف: من الآية78). قال: \"مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَأخُذَ إِلَّا مَن وَجَدنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ\" (يوسف: من الآية79). فلم يقل لن نأخذ إلا السارقº لأنه يعلم أن أخاه لم يسرق، ولذلك جاء بعبارة دقيقة، فقال: \" إِلَّا مَن وَجَدنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ\" فلم يصفه بما هو منه بريء.

7- كذلك نجد في السورة قواعد وأصول في سياسة الشرعية التي نحن في أمس الحاجة إليها في هذا العصر، نجد قواعد وأصول في الشورى، في التخطيط، في بعد النظر، في العدل... وغيرها.

8- نجد في السورة أيضاً قواعد وأصول في معالجة الأزمات، على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، وأمتنا تمر بأزمات متنوعة، ومن أقوى الأزمات التي ورد ذكرها في السورة السبع الشداد والسبع التي فيها الخصب، وفي أسلوب إدارته - عليه السلام -للأزمة التي مرت بمصر فوائد ينبغي أن نقف معها.

9- نجد أيضاً في السورة منهاجاً في الحكم على الرؤى، وبيان لبعض شأنها فالسورة ذكرت الرؤيا في ثلاث مواضع مبسوطة من جملة ستة في القرآن، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: \"أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة إلاّ الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له\"(2)، غير أنه وقع فيها عند الناس- من الخلل والخطأ ما ينبغي التنبيه عليه، فهناك من أنكر الرؤيا وقلل من شأنها وقال كما قال أصحاب الملك: أضغاث أحلام، وهناك من جعل الرؤيا تشريعاً بكل أسف وآخرون وسط بين ذلك.

10- نجد في السورة كذلك عاقبة المكر، وأنه يرجع على صاحبه، فإخوة يوسف مكروا به \"وَمَا كُنتَ لَدَيهِم إِذ أَجمَعُوا أَمرَهُم وَهُم يَمكُرُونَ\" (يوسف: من الآية102) من أجل إبعاده، فكيف كانت العاقبة؟ امرأة العزيز كادت ومكرت، غلقت الأبواب، وأعتدت للنساء متكأً، وادعت، فلمن كانت العاقبة؟ إن المكر يحاك الآن على مستوى الأمم وعلى مستوى الأفراد، وسورة يوسف تقول لكل ماكر: إياك إياك.. \"وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِينَ\" (الأنفال: من الآية30)، \"وَلا يَحِيقُ المَكرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهلِهِ\" (فاطر: من الآية43).. وفي ذلك طمأنة للأمة وبيان لها بأن مكر أعدائها سيبور ويرتد عليهم.

11- كذلك نجد في سورة يوسف قصص التائبين المستغفرين، وأثر التوبة والاستغفار في الحياة، وقد تتبعت الدعوة إلى التوبة والاستغفار في القرآن فوجدت أنه ما من نبي إلا أمر قومه بهما.

وجدت أن في الاستغفار سهولة على اللسان، مع أنه من أخص الدعاء والدعاء هو العبادة كما في الحديث، وقال الله - تعالى -: \"ادعُونِي أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذِينَ يَستَكبِرُونَ عَن عِبَادَتِي سَيَدخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ\" (غافر: من الآية60)، فالتوبة والاستغفار من السمات الظاهرة في سورة يوسف - عليه السلام -.

12- نجد في هذه السورة استثمار الفرص، وخاصة من قبل يوسف - عليه السلام - في السجن، قبل السجن، بعد السجن، وهو عزيز مصر، والأمة بحاجة إلى أن تستثمر الفرص استثماراً حقيقياً في موضعه.

13- نجد أيضاً الصبر وعاقبته، وبياناً لبعض أنواعه \"فَصَبرٌ جَمِيلٌ\" (يوسف: من الآية18)، كما صبر يعقوب - عليه السلام -، وكما صبر يوسف. \"إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَصبِر فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ\" (يوسف: من الآية90).

14- وأخيراً نجد الإحسان في سورة يوسف، والإحسان أشمل مما يفهمه كثير من الناس، بل كثير من الناس يفسر الإحسان بمعنى قاصر، وهو إعطاء المحتاج، أو التصدق على المحتاج. غير أن الإحسان في سورة يوسف، ورد في قرابة خمسة مواضع، في كل مراحل حياته، فكان سبباً من أسباب السؤدد والقوة والتمكين.

هذه بعض الدروس التي اشتملت عليها السورة، ولعله يأتي بسطها تباعاً، فإن فيها بيان سبيل نجاة للأمة، فحتى تخرج أمتنا من البلاء الذي هي فيه، ومن أجل أن يرتفع مستواها لكي تحقق النصر على أعدائها، لابد أن تأخذ بالأصول والمنطلقات التي أخذ بها يوسف - عليه السلام - فحقق هذا النصر العظيم، وأقول ختاماً: ما من فرد أو مجموعة أو أمة أخذت بأسباب الانتصار التي أخذ بها يوسف - عليه السلام - إلا كانت عاقبتها حميدة، وتحقق له الانتصار العظيم في حياته الدنيا، وفي والآخرة، والناس يتساءلون متى وكيف نحقق النصر؟ فأقول: اقرؤوا هذه السورة وتأملوا هذه السورة، فإن فيها جواباً يأتي بسطه إن شاء الله أسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يرزقنا منه العبرة والعظة، وأن يتحول ما نعلمه إلى واقع عملي في حياة الأمة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply