الورع حصن الصالحين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في التوقف عند الشبهات وهجر المحرمات حفظ لدين المرء وبراءته من العطب، وهل قل الحلال أو ندر حتى يخوض الناس في شبهة أو حرام؟ فلم يضق مجال البدائل عما يؤدي الغرض، ويقوم باللازم.. وتبقى القاعدة الثابتة التي قالها الرسول - صلى الله عليه وسلم - ملجأ لمن أراد سلامة دينه، ونجاة عرضه، حين قال: \"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك\" [صحيح سنن الترمذي، رقم الحديث: 2405]، فمن شك في عمل شك في النتيجة، ومن أوغل في شبهة سحبته إلى أخرى، والشيطان متحفز يترقب، بل ويرسل الأعوان والأتباع ليوقع المسكين.. ولا خلاص من هذا إلا بورع صادق فالأمر جد، والعقوبة مؤلمة، والخسارة كبيرة، فكان الورع أفضل الأعمال لأنه المبدأ الصحيح لعمل متيقن النتيجة بإذن الله.

 

والخروج من الشبهات وعدم الولوج في السيئات مدار هذا الدين، لذا كان الأولون يدعون كثيرا مما لا بأس به مخافة ما به بأس، ويراغمون أنفسهم في مجابهة الشهوات وقمعها كي لا تزل قدم بعد ثبوتها، ويضعون بينهم وبين الحرام حواجز كثيرة من الحلال، لا يخرقونها.. قال سفيان بن عيينة: (لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال، وحتى يدع الإثم، وما تشابه منه)، فتراهـم يتورعون عن كل ما يضر في الدار الآخرة، وكان الورع عندهم هو المقياس الأصيل في وزن قدر الرجال، فكان ضمرة بن أبي حبيب يقول: \" كان يقال: لا يعجبنكم صيام امرء، ولا قيامه، ولكن انظروا إلى ورعه، فإن كان ورعا مع ما رزقه الله من العبادة فهو عبد الله حقا \".

 

فطاعة الله والعمل بأمره يحببان العبد في التوكل على الله، والأخذ بما أحل، واجتناب ما حرم، والطاعة تغطي كل جوانب الحياة، ولا تقتصر على الجانب التعبدي من صلاة وصيام ونحوهما، فحتى المباحات، وأوقات المرح تصبح عبادة إذا صاحبتها النية الصالحة، والورع يدخل في كل نواحي الحياة، من معاملات، وحركات، وكلمات.. فكان التحرز من الآفات عظيما، ومن أشد الأمور عندهم توجسا هو اللسان الذي قال عنه الحسن بن صالح: (فتشنا الورع فلم نجده في شيء أقل منه في اللسان) الذي سرعان ما ينطلق بكلمة دون ترو، فتورد صاحبها المهالك.. كما لا يصح جسم نبت من حرام، ولا يقبل الله إلا الطيب، ولطالما وقع الكثيرون في المحظورات والمحرمات بحجة أن الناس يفعلونها، مرددين كلمة (إن الدين يسر)، ويشكلونها على أهوائهم! فيحلون ما حرم الله، مع أن لهم في غيرها باب واسع ومبارك.. (سأل الحسن غلاما فقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: ما آفته؟ قال: الطمع، فعجب الحسن منه).

 

فلذة عاجلة في منطق، أو مأكل، أو ملبس، أو مكسب سريع، أو كبير، تكون وبالا حين يفقد الرجل بها دينه، قال بشر الحافي: (كان عشرة ينظرون في الحلال ولو استفوا التراب، فذكر منهم علي بن الفضيل)، كذلك شأن أئمة الهدى الذين عاشوا مع الناس في حياتهم وتعاملهم، ولكنهم ارتفعوا عنهم في مفاهيمهم الناصعة التي يحققون ذواتهم بها.. فهذا الإمام أبو حنيفة، يرسل لشريكه متاعا فيه ثوب معيب يبيعه، ويبين ما فيه من العيب، فباعه ولم يبين العيب نسيانا، وجهل المشتري، فلما علم أبو حنيفة تصدق بثمن المتاع كله، وكان ثلاثين ألفا درهم، وفاصل شريكه (أي فارقه).

حساسية صادقة في معرفة العواقب، شاركه فيها عبد الله بن المبارك حين كان في غزوة (فنزل عند نهر، وغرز رمحه، وربط فرسه، وتوضأ، وشرع يصلي، فلما سلم وجد أن فرسه انفلتت وأكلت من الزرع، فقال: أكلت فرسي حراما فلا ينبغي لي أن أغزو عليها، فتركها لصاحب الزرع واشترى غيرها وغزا عليها).

 

ولله در النساء الصالحات اللواتي يتورعن من ضوء مشعل، فما ظنكم غيره؟ (جاءت امرأة إلى الإمام أحمد بن حنبل تسأل وتقول: يمر بنا العسس بالليل حاملين مشاعل السلطان، ويقفون أمام بيتنا، فهل يحل لي أن أغزل على ضوء مشاعلهم؟ فقال: من أنت رحمك الله؟ قالت: أخت بشر الحافي، قال: من بيتكم يخرج الورع الصادق، لا تغزلي في شعاعها).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply