بجماليون (الأسطورة المتجددة)


  

بسم الله الرحمن الرحيم

في سنوات السبعين من القرن الماضي، كتب الشاعر قصيدة بالعنوان أعلاه، ونشرها في (العلم الثقافي)، إبان انعقاد المؤتمر الخامس لاتحاد كتاب المغرب، ولكنه لم يكن يعلم أن رماد هذه القصيدة سيبعث على رأس كل عشر سنوات، رغم اختلاف الزمان والمكان، لينطلق نص جديد مكمل لهذه الأسطورة المتجددة التي لها في حياة الشاعر نصيب من الحياة.

وأسطورة بجماليون أسطورة إغريقية، مفادها أن بجماليون الفنان نحت تمثالا لامرأة، هي جالاتا، وبلغ من إتقان الصنعة أنه أعجب بتمثاله وانتظر منه أن ينطق. فلما أيس من نطق جالاتا أقبل على التمثال وحطمه..وهذه الأسطورة تمثل الصراع بين الفن والحياة،

وقد استثمرت الآداب العالمية المعاصرة هذه الأسطورة المتجددة، وانتصر بعضهم للفن وبعضهم للحياة، وقد كان من أشهر من تناولها الكاتب الإيرلندي برنارد شو في مسرحيته: (بجماليون)، وتناولها في الأدب العربي الأديب الكبير توفيق الحكيم في مسرحية تحمل العنوان نفسه، وجعلها من المسرح الذهني..

غير أن هذه الأسطورة دخلت بشكل أو بآخر إلى الشعر، حتى ولو بسبيل التلميح لا التصريح.. فأنت تجدها عند أبي القاسم الشابي في قصيدته صلوات في هيكل الحب، ومنها قوله:

يا ابنة النور إنني أنا وحدي ***من رأى فيك روعة المعبود

وهي عند الشاعر إدريس الجائي في قصيدته الغنائية ولكن.. ، ومنها قوله:

لـكـم آمـنـت في عينيك بالأحلام والشعر

لـكـم قدّست في لألاء نورهما سنى الطهر

لـكـم حلّقت في عالي سماء الحسن كالنسر

لـكـم ألّـهت أصناما من الأوهام في فكري

*   *   *

حـسـبتك آية كبرى هوت من عالم سحري

وروحـا مـن سماء الغيب خفّاقا على الغمر

ولـغزا غامض السر ورؤيا من رؤى الفجر

ووحـيـا مـا تـلـقّـاه نـبيّ غابر الدهر

*   *   *

حـسـبـتك ذلك المجهول نعبده ولا ندري

حـسـبـتك ذلك الله الذي يرتجّ في صدري

*   *   *

ولـكـن هـا أنا أصحو من النشوة والخمر

وأبحث عنك في قلبي وأبحث عنك في فكري

فـلا طـيفك يبدو لي كرؤيا من رؤى الفجر

ولا عـيـنـاك تنسكبان في عينيّ كالسحر

ألا مـا كـنت روحا من سماء الغيب والأمر

ولا وحـيـا مـن الآتي ولا من غابر الدهر

ولا بـالـكـائـن المجهول نعبده ولاندري

تـعـالى الله ما كنت لهيب الله في صدري

ولـكن كنت تمثالا خشين الصنع من صخر

ولـكـن كـنـت سكرانا فألهتك في سكري

أمام الهيكل القدّوس قد كفّرت عن عاري

بأشعاري

تركت هناك أرجاسي وأوزاري وأقذاري

إلى النار

وعدت بروح جبّار

أمجّد فنّ قيثاري

أمجّد روحي العاري بأوتاري

وتجسد قصيدة عمر أبي ريشة (امرأة وتمثال) هذه الأسطورة بشكل مثير، وقد مهد لها بقوله: (عرفها المثل الأعلى للجمال، والتقى بها بعد عشر سنوات، فإذا ذاك الجمال أثرا بعد عين، فتألم، ولما عاد إلى بيته كانت صورة تمثال فينوس أول ما وقع طرفه عليه). وعلى عادة أبي ريشة فإنه يأتي في مقطع القصيدة بما يسميه هو بيت المفاجأة، حيث تنتهي القصيدة بقوله:

حسناء، ما أقسى فجاآت الزمان الأزور

أخشى تموت رؤاي إن تتغيري... فتحجري

وأما هذه القصيدة التي بين يديك فقد انتهى بها المطاف، دونما تخطيط أو قصد، بعد تجربة ثلاثين سنة، إلى تأكيد حقيقة خالدة وهي أن الجمال الصوري يذوي، وأن بهاء التماثيل والدمى إلى زوال.. وشيء واحد يبقى أبد الدهر ولا يزول بزوال الدنيا: إنه جمال التقوى.

بجماليون

قال في العشرية الأولى:

ماذا أقول وقد أضعتكِ من يدي ***   مذ كان حبّكِ فيّ مجهول الغد؟ 

أنا أرفض الأشعار لغزاً مبهماً ***   كشرارةٍ, في صخرة لم تُزند

أنا أرفض الأشعار نزوة عاشق  ***  متوله في ذاته متعبد

أنا أرفض الأشعار جبهة خانع *** زلفى ولو كان الثرى من عسجد

الشعر عندي ثورةٌ خلّاقةٌ  ***    وقلادةٌ للثائر المتمرّد

ما الحرف يا خدن الهوى إن لم يكن ***   سيفاً يحُزّ، يحز عنق المعتدي؟

صوتا يميد الأرض تحت مكابر،  ***   متجبر، متسلّط، متوعّد

أو لم يلج قصر الطغاة يهدّهم *** حتى يعود الشر مفلول اليد

قدرُ الأديب بأن يظل مسافراً *** كي يزرع السلوى بقلب مجهد

أو يحمل الأحزان عن هذا الورى ***   والسيف يغرسه بليل أربد

- قدري أنا عيناكِ، لو لم تُعرضي *** لأحطت، يا أخت الضياء، بمقصدي

ما كنتِ إلا فكرةً مرسومةً ***  في الذهن تشرد، حين ترغب، من يدي

فجعلت محبرتي الجراح وريشتي  ***  قلباً تراوحه الظنون وتغتدي

وصنعت منك مليكةً تيجانها  ***   رصّعتها بالفنّ لا بزبرجد

ونثرت أزهار المحبة فوقها ***  ووهبت نجماتي لشلال ندي

وعشقتها، لولاك يا قدّيستي ***  لم أتخذ بالذات يوما معبدي

إني أردتك فكرة قدسيّةً ***  وأردت روحك للزمان السرمدي

ولقد أردتك ساعدا متوهجاً ***  يحدو، إذا جدّت خطوب، مقودي

الشك يغرقه اليقين فأمطري ***  قلبي رياحين اليقين وأنجدي

واستأصلي نار التحدي واصفحي *** أخمدي شوقي.. ألا لن تخمدي

واللهفة الكبرى اذبحيها واجعلي *** قلبي من الإحساس قطعة جلمد

ولتطفئي آل التوهج من دمي: ***ردي علي حقيقتي كي أهتدي

أنا قد نذرت الحرف للبؤساء إن ***  يمسَسهمُ شدقُ الزمان الأسود

ورميت للتاريخ أقداح المنى ***  نشوى وعُدتُ بخاطر متوقد

ووهبت للبلد الموات قصائدي ***  حتى يعود لفجره المتجدد

وعلى ضفاف الموت شدتُ منازلي ***  وصروحَ أيامي بغير تردّد

هذا دمي

هذي قرابيني

مزاميري

أناشيدي

وذاك توقّدي

وقفاً على شعبي

على بلدي

على الإنسان يبحر نحو ميناء الغد

الحرف مقبرة الطّغاة فأعلني

أني اتخذت الحرف بعدك معبد  

وقال في العشرية الثانية:

ما عاد حبك فيّ مجهول الغد ***  أنا في هواك محرراً كمقيّد

عشرٌ من السنوات والنار التي ***  أوقدتها بحشاشتي لم تخمد

قَتَل المحبين الهوى فاستشهدوا ***  وأنا شقيت به ولم أستشهد

فبأيّ جارحةٍ, أردّ عواديا ***  مشبوبةً نزَعَت جميعاً عن يد

ماذا لقيتِ من الليالي بعدنا ***   أسللت سيفك وانثنيت لموعدي؟

وغدوت للمستضعفين منارة ***  ومشيت في ركب الحزانى المجهد

ورفعت للألم المقدس رايةً  *** خضراء سالكة طريق محمد

أم أنت آثرت العطور وآلها ***ووطئت أشعاري بغير تردد؟

أما أنا فكما عهدتِ.. مشاغلي ***  شتى، وأحزاني الرفيق إلى غد

باريس، في لحظة رمادية، بعد عقد من الزمن 1985

وقال في العشرية الثالثة:

الأربعون تكاد تفلت من يدي ***  لكنّ حبّك في الجوانح سرمدي

من أنت؟ بجماليون أتعب ركبه ***  حرّ السؤال فما يفيء لمقصد

هل أنت سينائي التي أفرغت في ***   صحرائها عمر الضلال لأهتدي؟

أم أنت ميراثي الذي أودعته ***  سرّ القصائد وانثنيت لموعدي؟

لله من أغراك بي فأثرتِ في ***  روحي زوابعَ عاشقٍ, مستعبَد؟

أضفى عليك الله نور أميرة *** وخشوعَ ناسكةٍ, وحزنَ مُسَهّد

وجلالَ محرابٍ, ونايَ متيمٍ, ***   وأنين عاصفة وبطش مهنّد

وجِلاد زينب، واشتياقَ سكينة  ***  ورواء (موزار) ورقّة (معبد)

اللغز أنت، فكيف لا يبلى وقد  ***  عبرت عليه جياد دهر مجهد؟

ما قلتُ: سوف تخفّ نارك في غدٍ,  ***   إلا ابتليت بنورك المتوقّد

وأقلّب الطرف المحير أبتغي  ***   سلوى غدٍ,، أو ما ليومي من غد؟

النسر أطلق للشموس جناحه  ***   وفؤاده يرنو لأفق مبعد

ويصيح قلبي والسعير يلفني  ***   إنّي برئت من الهوى المتجدد

لكنني أغدو وقيدي في يدي: ***   أنا في هواك محررا كمقيّد

 

وجدت، في 1995

وقال في العشرية الرابعة:

طوي الكتاب لقد أضعتك من يدي  ***    وذوى الشباب فما يخبّئ لي غدي؟

سيرّت في بحر الجنون سفينتي ***    دهرا فلم أظفر بغير تشرّدي

ظمأ الرمال بخافقي متوقّدٌ  ***   من يا بلابل للظما المتوقد؟

كم دمية عٌبدت هوى نحّاتٌها  ***   ثم انثنت فكأنها لم تٌعبَد

خرساء أنطقها الهوى إن الهوى  ***   إن لم يحصّن بالتقى يستَعبِد

كم طفتٌ أرض الكنج ألتمس السنا: ***  سيتا، أجيبي دعوة المستنجد

قدّستها زمنا، وطفت ببابها  ***   فإذا بها رقصت بقلب المعبد

وقصدت أرض السين مضطرم الجوى: ***  دوريس يا بنت البحار خذي يدي

هذا طريق النور دونك فاسلكي ***  أفياءه، حسناء لا تترددي

ولّت كعصفور يطارد خطوه  ***  صوت يقول أنا الردى إن ترتدي

وهمست للبوسفور غير مذمم  ***  هل في السراي وصيفة ابن معبد؟

طوّفتٌ أزمنة مجاهيل الردى  ***  لم ألق غير دمُىً.. تضلّ بفدفد

ثم انثنيت، فلا ددُ منّي إذا  ***  ما جئت تسألني ولا أنا من دد

حتى إذا جلب الغروب بخيله  *** وبرجله ظمآن غير مزوّد

ومضى الزمان أتت إليك يمامةُ  ***  خضراء تصدح بالبيان المفرد

هتفت إليكَ بهيّةً من عشّها  *** الماء دونك فاغترف.. يا... يا صدي

المسجد الأقصى يظلّل تاجها  *** أكرم بظلّ وارف في المسجد

سبحانك اللهم، أجزلت العطا  *** وتقول إن تشكر عٌبيدي تزدد

لم تحتجب زمنا عطاياه سوى  *** لتفيض مغدقة بفيض أرغد

هل أنتِ من حجر؟ فكيف جوانحي  *** طويت على حبّ التراب الجلمد؟

هيهات، أنت النور يهدي خطونا *** وبغير نورك حائر لايهتدي

أفديك جالاتا المنيفة بل أنا ***  بك بهجة النور المقدّس أفتدي

سبحان ربي أنت أعظم فتنة  ***  مما تصور ريشة المتعبد

طوي الزمان وها أنا في لحظة  ***  أدع الصبا والغيث غير مصرّد

حسبي إذا أجلي تقارب أنني  ***  قبل المغيب وجدت صوتك في يدي

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply