نالت الصور الاجتماعية اهتمام الشعراء قديماً وحديثًا، فتحدثوا عن الفقر، واليتم، والتشرّد، والمرض، والكوارث بأنواعها، ولكن بعض النقاط الجديرة بالاهتمام بقيت بمنأى عن عدسة الشعراء المصورة، ومنها موضوع الخدم والتعاطف معهم وتصوير مشاعرهم. وفي رأيي يعود السبب في هذا الإغفال إلى احتقار هذه الطبقة مع ما جاء في الأحاديث النبوية من التوصية بهم، فقلما يتعاطف صاحب العمل مع من يعمل لديه، أو المخدوم مع الخادمº إذ لا يعمل الخدم إلا لدى الطبقة العالية ماليًا واجتماعيًا فيكون تسليط الأضواء على المخدوم لا الخادم.
الشاعر خالد الحليبي تجاوز بهذه القصيدة عقبات عديدة، وارتفع إلى الأفق الأعلى..أفق الإنسانية، وحقق بهذا التصوير الرائع الإنسانية من عدة مستويات:
الأول: التفاته إلى معاناة الخدم عامة.
والثاني: كون الخادم امرأة.
والثالث: كون المرأة أمًّا.
والرابع: كون الأم مغتربة فارقت أولادها الصغار.
والخامس: كونها مغتربة في بلاد بعيدة جداً خارج الوطن، ولا يمكن أن ترى أولادها لفترات متقاربة.
والسادس: كونها فقيرة وهي صفة مشتركة لدى الخدم.
ولو تأملنا هذه المستويات لوجدنا كلاً منها تستحق وقفة من الشاعر، فكيف وقد اجتمعت في شخص واحد!!
جاءت القصيدة على لسان الخادمة الأم تواسي نفسها في اغترابها وفراقها أولادها.
هجرت مهد الصبا والموطن الحاني *** وعفتُ من أجلكم روحي وريحاني
ولكنها هاجرت بجسمها، أمّا القلب فهو مع الأحبة:
رحلت لكن فؤادي قيد وجهتكم *** أنّى اتجهتم، فهل في الدمع سلواني؟
وهي إذ تطير من أرض إلى أرض، فإنها تحسّ بالخوف يفجّر كيانها في لحظة الهبوط الأولى:
حتى إذا هبطتُ أحسست قنبلة *** تستأصل الأمن من أرجاء وجداني
ويصور الشاعر لحظات الوصول وسريان دفق من مشاعر المهانة لدى هذه الإنسانة وأمثالها حين يأتي المخدومون فيختارون خادماتهم، وليس هناك من صلة ولغة إلا لغة العيون:
واختارني واحد من بينهم فغدت *** تسري نواظره في كل أرداني
كأنه مشترٍ, ألفى مطالبه *** بعد الضنى فرحاً في قعر دكان
إن إنسانية الشاعر الحليبي لم تغفل ضرورة الخروج من دائرة المهانة التي تلفّ هذه (الخادمة الأم) وأمثالها فراح يكشف لنا تلك الغيوم الكالحة المخيفة، فيصفو الجو وترتاح النفس، وتطمئنº لأنها صارت في أسرة تعرف معنى الإنسانية، وترتقي إلى مستوى التعامل بمبادئها، ذلك أن الأسرة المسلمة يجب أن تتحلى بهذه الإنسانية من أجل الإنسانية ومن أجل الإسلامية.
تقول الخادمة في وصف منزلها الجديد في الغربة:
فضمني منزل طابت سرائره *** في كل قلب به للخير نبعان
فالأم أمي ورب البيت يشملني *** منه الرعاية شأن الوالد الحاني
ولكن أنّى للطائر الجريح أن يكفّ جناحاه عن محاولة الطيران! وأنّى للأم الحنون أن تسلو عن أحشائها، وتمنع قلبها عن الخفقان! كل حركة في هذا المنزل الآمن تذكرها بمنزلها الآمن الذي تحِنّ فيه قلوب الصغار إلى أمهم، وهل عن الأم عوض للصغار فهي غائبة حاضرة، وبعيدة قريبة:
إني لأنظركم في كل ناحية *** على أرائك من حولي وجدران
أحس هرولة الأوراق تجرفها *** الرياح عودتكم من كل ميدان
وإن تراقصت الأغصان هامسة *** حسبته صوتكم بالحب ناداني
لقد حبست دمعي ووضعت يدي على قلبي وأنا أقرأ هذا البيت الهامس عندما قرأت (حسبته صوتكم بالحب ناداني).
فهي لا ترى في أولاد مخدومها إلا أولادها الذين خلفتهم وراءها.
إنها أفق إنساني آخر يصوره الشاعر بعد ذلك الإحساس الإنساني الذي سرى في كيان (الخادمة الأم) عندما صارت في أسرة كأنها أسرتهاº فتبادلهم الإنسانية وتندمج معهم بل تذوب فيهم فإذا هم وهي في وعاء الإنسانية الواحد. ومع مرور الأيام تتأجّج الأشواق، ويزداد أُوارها، وتمرّ الدقائق بطيئة بطيئة...
تمضي الدقيقة كالأيام في مَهَلٍ, *** حتى أظن أن الوقت عاداني
وتتساءل:
متى أعود إلى روحي برؤيتكم *** وتستلذ بطعم النوم أجفاني؟!
هذه القصيدة من روائع الشاعر خالد الحليبي وقد جاءت حلقة في دائرة الهمّ الإنساني في ديوانه (قلبي بين يديك)، يُوجّه هنا سؤال إلى الشاعر المبدع وهو: أين الجزء الثاني من هذه القصيدة؟! أين جواب هذه الرسالة من أولادها؟! تُرى: ماذا قالوا عندما قرؤوا رسالة أمهم، أم أن الرسالة ضاعت في صناديق البريد؟!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد