الموعظة بالإكراه !


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ليس من المواعظ ما يجب القعود له والإنصات إليه سوى خطبة الجمعة، ومن زعم ذلك فقد أساء وتعدّى وظلم. ولو سألت أحداً ـ وخاصة الوعّاظ ـ: هل يجب ـ شرعاً ـ الإنصاتُ لموعظة غير خطبة الجمعة؟ لما أجابك بغير الجواب الذي تعرف.

وعلى أننا متفقون على هذا نظرياًº إلا أن بعض الوعّاظ قد تمرَّد على هذا الاتفاق عملياً، فأرغم الناسَ على سماع موعظته بأساليب فيها معنى القسر والإكراه على السماع، ولولا إفلاسُه من مهارات الإلقاء وأساليب التشويق والتأثير وحسن السبك لما لجأ إلى تلك الأساليب (الإكراهية) لحبس الناس لموعظته، فأوجب عليهم ما لم يوجبه عليهم ربهم، ونفَّرهم وهم جلوس إليه! ولَتنفيرُه هذا أشدٌّ مِن تنفير مَن ينفِّر بأسلوبه من غير أن يُرغمَ أحداً على الاستماع إليهº فالنافر الذي يخرج مختاراً لا شك أنه أقل سخطةً من نافرٍ, راغبٍ, عن الموعظة راغبٍ, في الانصراف فيُرغَم على الجلوس مُكرهاً.

فهذا أحدهم، يتحين في إلقاء موعظته وقتاً يكتظ المسجد فيه بالمصلين، وهو وقت صلاة التراويح، ولكنه ـ لِما يعلم من إفلاس موعظته من المؤثرات والمشوقات ـ يخشى لو جعلها بعد انصراف الإمام من صلاة الوتر ألاّ تجلس إليه تلك الجموع الحاشدة، فيحتال لأجل إرغامهم على الجلوس لها بحيلة قذرة، لا يحتالها إلا من أفلس من مهارات الإلقاء والأساليب المؤثرة، فقد عمد صاحبُنا إلى جعل موعظته (الميتة) قبل صلاتي الشفع والوتر، وربما بدأها بالتأكيد على أن الاستماع إليه غير واجب، وأنه لا يملك ـ شرعاً ـ أن يُكرِه أحداً على الجلوس لها!! يقول هذا وهو يعلم أن الناس إنما هم محبوسون لصلاتي الشفع والوترº فهم لن يخرجوا قبل أن ينصرفوا مع إمامهم لتُكتب لهم قيام ليلة؟!!

أليس هذا من أعظم التنفير عن المواعظ وتكريِه الناس في الوعاظ؟!

أليس في هذا الإكراه لسماع الموعظة مخالفة لهدي النبي وسنته؟! أليس من الابتداع في الدين أن يتحيّن الواعظ هذا الوقت غير المناسب ويجعله ميقاتاً لموعظته؟!

وهذا واعظٌ آخر كان يعلم ـ بواقع تجربته ـ أنه مفلس من تلك الأساليب المؤثرة فلجأ إلى تخويف المنصرفين عنه وعن موعظته (المحنّطة) بنصوص شرعية يوردها في غير موضعهاº فيبدأ موعظته ـ قبل أن يرى منصرِفاً عنه ـ بالتخويف من الإعراض عن الذكر بما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -  بينما هو جالس في المسجد والناس معهº إذ أقبل ثلاثة نفر، فأقبل اثنان وذهب واحد، فوقفا على رسول الله، فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً. فلما فرغ - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أخبركم عن النفر الثلاثة: أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه)، فكأنه ـ حين صدَّر بهذا الحديث موعظته ـ يريد أن يجعل موعظته كموعظة الرسول، والمعرض عنها كالمعرض عن موعظة الرسول، ليخوِّف كل من تسوّل له نفسه الخروجَ والإعراضَ عن موعظته بأن ذلك هو إعراضٌ عن الذكر نفسه وعن آيات الله وسنة رسوله. بيد أن إيراده لهذا الحديث ليخوِّف به المنصرفين المعرضين يدل على جهلهº إذ أخذ بظاهر الحديث ولم يحقِّق، و إلا فمن المعلوم أن الجلوس للموعظة غير واجب سوى خطبة الجمعة، وهذا الحديث له تأويله الذي فقهَهُ أهل العلم، فقال القاضي عياض: \"من أعرض عن نبيه - عليه الصلاة والسلام - وزهد منه فليس بمؤمن، وإن كان هذا مؤمناً وذهب لحاجة دنيوية أو ضرورية فإعراض الله عنه ترك رحمته وعفوه، فلا يثبت له حسنة ولا يمحو عنه سيئة\" أ. هـ

إذن الإعراض المذموم في الحديث يحتمل أن يكون خاصاً بالإعراض عن موعظته، ولذا قال ابن حجر (فتح الباري 1/189): \"يُحتمل أن يكون ـ أي المعرض ـ منافقاً\" وإنما أورد هذا الاحتمالº لأن الله قد جازى هذا المعرِض بإعراضه - سبحانه - عنه.

وإن قيل بالعموم فالحديث ـ مع ذلك ـ لا يدل على أن من لم يجلس للموعظة فهو آثم، وإنما غاية ما يُقال فيه: إنه قد حُرم أجر الجلوس للذكر وبركته. ولو أعملنا ظاهر الحديث فحكمنا على كل من أعرض عن موعظة بأنه آثم لكنَّا قد أوجبنا حضور ما سوى موعظة الجمعة، وفي هذا إيجاب لما لم يوجبه الله.

ويكفي في الدلالة على أن الحديث ليس على ظاهره، وأنه ليس عاماً في حق كل من حضر مجلس موعظة ـ أن الجلوس لاستماع خطبة العيد غير واجب.

فيا أيها الوعّاظ! لا تُكرهوا الناس على سماع مواعظكم، ولا تغضبوا منهم إن هم خرجوا ولم يجلسوا لها، فلا تلوموهم ولوموا أنفسكم، فليس العيب والتقصير ـ بالضرورة ـ فيهم، وفتّشوا في أنفسكم ومواعظكم فربما كانت (محنَّطة) تحتاج إلى أن ينفخ فيها من روح الحياة.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply