بسم الله الرحمن الرحيم
حين يكون الإصلاح هَمّاً مشتركاً بين الناس فلا بد أن يكون كلاماً يتداورونه بينهم، حديثاً حاضراً في محافلهم ومجالسهمº فإن المرءَ إذا أهمَّه أمرٌ أكثر من الحديث عنهº حتى يُعرفَ به، وإذا أصبحت الأمة تتحدث عن الإصلاح وضرورته، وعن التخلف وآفته، فقد شرعت في أُولى مراحل الإصلاح.
ولا استخفاف بمقام الكلام من الإصلاحº فإنه مرحلة لازمة من مراحل الإصلاح، وإلا فالإصلاح مستحيلٌ بغير كلام يسبقه، ويكفي أن نتذكّر هذه الحقيقة لنعلم أن الكلام عن ضرورة الإصلاح هو مرحلةٌ عملية في حياتنا الاجتماعية والفكرية والثقافية، ولنعلمَ أننا نعملُ شيئاً حين نقول شيئاً.
إنه لا مندوحة من الكلام حين نريد الإصلاح، فكل المصلحين بدؤوا إصلاحهم بالكلام، وصبروا على محاولة الإصلاح به مُدداً لا يحتملها إلا الحُلماء الصابرون، حتى واتتهم فرصة الإصلاح بالفعال التي لم تكن لتتيسر لهم لولا خطواتٌ حثيثةٌ من الإصلاح بالكلام، حرّكت العواطفَ، وأحيت القلوب، وحرّرت العقول، وجعلتها جميعاً قابلة للتغيّر، مُساهمةً في التغيير.
وهكذا بدأ الأنبياء والرسل الإصلاحَ في الناس، وصابروا على التزامه وعدم مجاوزته إلى أفعال المواجهة للتغيير بها قسراً، فأثمر إصلاحهم الذي لم يَعدُ أن يكون كلاماً، وإن كان كلاماً ليس كمثله شيء من كلام البشر. وما من مصلِح إلا وقد اتخذ من لحن الخطاب سلاحاً شاكياً في الإصلاح والتغيير، فإذا هو ـ ملفوظاً أو مقروءاً ـ أشد على مناوئي الإصلاح من فِعال غيرهم، وكان تكميم الأفواه وخرسُ الألسن وحرق الكتب أبرزَ ما يحاربون به دعواتِ الإصلاح. وكان ذلك كفيلاً بإجهاض مشروعات الإصلاح في مهدها في أحايين كثيرةº لأنه أخرس وأسكت آلةَ الإصلاح الأُولَى: القلم واللسان.
لم تكن الألسنُ لتجدي شيئاً في شأن الإصلاح إلا مجردَ الكلام، ولكنَّها حوربت بكل هذه الشراسة والقسوة لأنها تلوك الكلامَ الذي يسحَرُ الألباب، ويوجه العواطف، ويغيِّر ما بالنفوس، ويهذب السلوك نحو عمل مصلحٍ, رشيد. وما من أمة حققت في واقعها مشروعاتِ الإصلاح والتغيير إلا وقد مهّدت لذلك بخطابات إصلاحية تنويرية، يتلقفها الناس سماعاً وقراءةً، فسرى التنوير والوعي في شعاب عقولهم، وتحركت العواطف الكامنة في حنايا صدورهم، ونفضت عن قلوبهم ما كان قد ران عليها من مرض التواكل، ومن شُبهةِ القناعةِ المسوِّغةِ للكسل والدعة والنكوصِ عن المقاومة رضا بحالٍ, لا يرضاه الله.
وامتدت كلمات الإصلاح بتأثيرها الساحر إلى أجيالٍ, متعاقبة، فتغيّروا بها وغيَّروا، بعد أن أرمت أجسادُ أولئك المصلحين في الأجداث. ومن عجيب أمر المتشائمين من جدوى الإصلاح بالكلام أنهم لا يذكرون للكلام خطراً إلا في جانب الشر، وقد يتمثّلون بقول القائل:
إن النار بالعودين تذكى *** وإن الحرب مبدؤها كلام
فلا يحسَبون للكلام خطراً إلا في جانب الشر والإفساد، فإذا ذكر التغيير والإصلاح، لم يروا للكلمة خطرها الإيجابي في ذلك، وعدوا من يحاول الإصلاح والتغيير بها مُفرِطاً في التفاؤل يحاول عبثاً، ويتلهّى بالكلام كما يتلهّى المهومُ بالأشعار والأراجيزº ليسرِّي عن نفسه همومَها. وإذا كان الناس يقررون أن الحرب أولها كلام، فإن الإصلاح والتغيير مبدؤه كلام. ولذا كان الإنكار باللسان درجةً من درجات تغيير المنكر وإنكارِه: \"من رأى منكم منكراً فليغيِّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه\" فسمى الرسول - عليه الصلاة والسلام - الإنكار (بالكلمة) تغييراً!
على أن بعض هؤلاء إنما يتشاءمون من جدوى الكلام وأثره في الإصلاح والتغييرº لأنهم يخلطون بين الكلام الذي يجب أن يقال ولا تقوم للإصلاح قائمة إلا به، والكلامِ الذي يتجاوز مقدار الواجبº ليصبح لغواً لا حاجة إليه. ويخلطون بين الخطاب الجاد، الذي يحصل به تحرير العقول من أغلالها، وتحريكُ العواطف من مكمنها، والكلام الهازلِ الباهت الذي يوحي لسامعه أن عجلة الإصلاح ستقف عند هذه المرحلة، فلا إلحاح ولا تجديد، ولا عملَ يتبعُ القولº لأنه ليس ثمةَ جدُّ، إنما هو قول يقوله صاحبهº ليسجل به موقفاً في قضية الإصلاح فحسب، ثم لا يعنيه بعد ذلك ما يكون من شأن الإصلاح من نجاح أو إخفاق.
وقد يستهين بأثر الكلام المتشائمون من جدواه في الإصلاحº لأنهم لا يرون له أثراً مباشراً في الواقع كأثر الأفعال، فيقولون عنه: إنما هو كلام في كلام! ولو تأملوا لأدركوا أن الأفعال التي أصلحت وغيّرت هي من نتاج العقول والعواطف التي أُصلحت وأُحييت، وهُيِّئت للأفعال الصالحة.
حين يكثر في مجالسنا الكلامُ عن الإصلاح وطرائقه فذلك دليل على أن غيبة الوعي بدأت تنـزاح عن عقولنا، وأن الرضا بالذلة والمسكنة قد بدأت تتقشّع عن قلوبنا، وأننا قد بدأنا نحس قيمةَ الحقوق المختطفة وخطورةَ الواجباتِ المهملة، وأن إهمالنا لما علينا من الواجبات والتضحيات هي التي جعلت حقوقَنا تُختطف، لتنضاف ترفاً يتمتع به العدو.
وحين يكون الإصلاح حديثاً حاضراً في مجالس الناس فسيجدون لذلك أثره النفسي الايجابي على نفوسهم، يشعرها بمسؤوليتها، ويرتفع بها عن السفاسف إلى المهم، وعن الهزل إلى الجد، فمن أكثر الحديث عن شيء وجد نفسه مطبوعةً عليه، منقادةً له، منصرفةً عن غيره، زاهدةً مترفّعةً عنه، وسيجد لنفسه هدفاً في الحياة يجعله يتعالى على عيش الهمل والفراغ.
الحديث الجاد الذي يفتش عن المشكلات ويتحسس الحلول يعلِّم الجدّ في الحياة، ويربي على تحمل المسؤولية، وعلى مجابهة الحياة بشجاعة وثقة.
إن الإلحاح في طرق قضية الإصلاح والإسهامَ فيه ولو (بالكلام) لا يصدر إلا من نفس متفائلة، تحاول النهوض، وتقاوم الإخفاق والقنوط. ولا يستخف بأثر الكلام وجدواه في الإصلاح إلا من جثم على قلبه التشاؤم واليأس، فأقعده عن أفعال المقاومة، وصرف همه إلى غير المهم، وزواه عن مواجهة أعباء الحياة.
إن ما نقوله مجرد كلام، لكن لا بد للهم أن يبقى متَّقداً في قلوبنا، فليكن الكلام وقودَه.
كلماتنا عن مآسينا هي الشموع التي توقد نار الهم في قلوبنا، وهي الكلمات التي ستذكرنا مآسينا كلما نسينا أو تناسينا، وسيجعل قضايا المسلمين حاضرة في قلوبنا.
كلماتنا تشفي، ولعلها أن تجدي، ويكفي من جدواها الآن أنها تخرج بنا من خزي الصمت المذل. وإلا فإن الصمت جبن وخور وخِذلان ممن هو قادر على أن يقول خيراً، والصمت في بعض المواقف ريبة وتُهمة لا تليق إلا....
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد