البحث التاريخي وأخلاقية المنهج


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

ما أكثر الأخطاء التي يقع فيها كُتَّاب التاريخ!! ومن أخطائهم المنهجية: إهمال (الدقائق والتفصيلات)، والاكتفاء بالوقوف أمام الأحداث الكبيرة المتوهجة، وإصدار الأحكام تأسيسًا عليها، والكاتب الذي يسلك مثل هذا المسلك لا يعدو في نظري كونه \"مشاهدًا أو متفرجًا\" يرى بالبصر، ولكنه معطل البصيرة، والبصيرة العلمية تعتمد على الاستنباط والتعمق، وربط الأسباب بالمسببات، والعلل بالمعلولات، والأحداث الظاهرة الطافية على السطح بجذورها الضاربة في الأعماق.

 

بين القديم والحديث:

وقبل أن نعرض لمزالق أخرى يقع فيها كثير من المؤرخين وكتَبة التاريخ أجدني أمام سؤال يطرح نفسه، مؤداه: أيٌّهما أسهل تناولاً وأقل مزالق، وأوضح سُبلاً: التاريخ القديم أم التاريخ الحديث؟ ولعلي أكون في جانب الصواب إذا رأيت أن دراسة التاريخ القديم أسهل إلى حد كبير من دراسة التاريخ الحديث، مع أن هذا الأخير أوفر مصادر، وقد يلتقي الباحث المصادر الحية من الشهود الذين عاصروا الأحداث، وأراني أستند في رؤيتي هذه إلى الأسباب التالية:

1- التاريخ القديم استكمل كل ملامحه وسماته، أو أغلبها، ومِن ثَمَّ لا يعوز عهوده النضج والتكامل، إنه أشبه ما يكون بالوجبة الناضجة الجاهزة، أو الجسد المستعد للتشريح، بينما التاريخ الحديث لمَّا يستكمل حلقاته، ولمَّا تتجمع عناصره التي يتكون منها الموجود الناضج، وقد يكون ما نجزم بأنه نتائج حاسمة لا يعدو كونه

 

مقدمات لنتائج لم تُولد بعد.

2- التاريخ القديم لا يثير فينا غالبًا حدة الانفعال لبعد عهده وجذوره الضاربة في القدم، فالناظر إليه وفيه لا تأخذه في الغالب الحماسات والانفعالات الحادة، وإن أثار التفاعل والتعاطف والاعتزاز أو الازدراء، بينما التاريخ الحديث ما زال يرتبط بكثيرٍ, جدًا من قضايانا الحساسة، ومن ثَمَّ يصعب التخلص تجاهه من عواطفنا المتوقدة، ويكون التجرد في دراسته وتقييمه عملاً من أشق الأعمال.

3- أصبحت دراسة التاريخ العربي الحديث ابتداءً من الخمسينيات خاضعةً للتكييف السياسي المرتبط بنزعات أيديولوجية وسياسية وحزبية عاتية، واقترب هذا التكييف الذي يتظاهر بالعلمية من التزوير الذي يمحو الحسنات، ويبرز السيئات أو العكس، ويتغافل عن كثير من الحقائق لخدمة أهداف سياسية معينة.

4- من الأمثال الفرنسية \"لن ترى الصورة إلا إذا كنت خارج إطارها\"، وهذا يعني أن شدة الالتصاق والقُرب قد تسمح برؤية جزئية واضحة، ولكنها تُضبِّب الرؤية الكلية الشاملة، فالمواجهة القريبة المباشرة تعطينا الصورة الواضحة للمساحة المنظورة، ولكنها تحرمنا الرؤية الشاملة لكل الأبعاد والمنعطفات والزوايا للمرئي المنظور، وكلما ازداد القُرب قلت المساحة المرئية، وقد يصحب ذلك الغلط في التعريف والتقييم، كالذي خرج لاستطلاع رؤية هلال رمضان، وشهد بأنه يراه رأي العين، ولم يكن ما رأى غير شعرة بيضاء سقطت من رأسه على أطراف رموش إحدى عينيه.

 

مزالق ذات أخطار:

والكاتب الذي يتصدى للحُكم على العصر والوقائع والشخصيات يتعرَّض إذا لم يُرزَق روح التجرد والبصيرة النافذة للوقوع في عدة مآزق أو مزالق كل منها خطير ومُجافٍ, للتفكير المنهجي السديد، وهي في النهاية تقود إلى متاهات تبعده عن الحكم الصحيح السليم، ومن هذه المزالق:

1- الخلط بين الأسباب الظاهرية والأسباب الحقيقية لحادثة من الحوادث أو ظاهرة من الظواهر، فليس من اللازم أن يكون السبب الظاهري هو السبب الحقيقي، بل قد يكون السبب الحقيقي أخفى الأسباب على الإطلاق، ومن هذا القبيل الخلط بين الأسباب الرئيسة والأسباب الثانوية للحدث أو الظاهرة.

2- التقاط الحدث والتعامل معه معزولاً عن مجموعة الأحداث والوقائع التي ترسم ملامح الشخصية التاريخية، وتفتح عيوننا على معطيات العصر والبيئة.

3- الحكم على معطيات عصر وظواهره بمعايير عصر آخر، فمن الحقائق البدهية أن لكل عصرٍ, آلياته وأبعاده وعاداته وتقاليده، ومناهجه في العيش والتفكير.

والحكم على العصر بغير معاييره نزعة تفشَّت للأسف مع مطلع الخمسينيات، وتولى كبرَ ذلك أدعياءُ التجديد ودعاةُ التحديث، ومن النماذج الصارخة لهذه النزعة ما كتبه أحدهم وهو يفسر اختلاف وجهات النظر بين بعض المسلمين في صدر الإسلام إذ جعل هذا الاختلاف صراعًا بين اليمين واليسار فحكم على صحابيٍّ, جليل هو \"أبوذر الغفاري\" بأنه كان يمثل اليسار الإسلامي أو \"البلوريتاريا الإسلامية\"، أما \"عبدالرحمن بن عوف\" فهو في نَظر الكاتب يمثل \"اليمين الرأسمالي\"!

4- وآفةُ الآفات ألا يقرأ الباحث التاريخ نفسه بل يكتفي بالقراءة \"عن التاريخ\"..وفرق شاسع بين مَن يقرأ تاريخ العصر أو الشخصية من المصادر الأصلية، ومَن يكتفي ويقنع بآراء الآخرين عنهما.

وتكون الخطورة أشد وأعتى إذا كانت هذه الآراء لمشاهير لهم ثقلهم ومكانهم المرموق في الساحة الفكريةº مما قد يستهوي الباحث ويستغويه، فينساق إليها مُردِّدًا مسبِّحًا، دون الرجوع إلى المصادر الأصلية، ودون تحكيم العقل والبصيرة.وهؤلاء الذين يروجون أقوال المشاهير وآراءهم في العهود والأشخاص والوقائع اعتمادًا على شهرتهم دون تمحيص وتدقيق يشبههم \"أرنولد توينبي\" بمروجي \"العملة الزائفة\".. همّهم الأول والأخير أن تُروّج العملة، ولو أدَّى ذلك إلى إفلاس الاقتصاد القومي.

 

العُميان والفيل المظلوم:

هذه الآفات العلمية التي أصابت كثيرًا من الأقلام والمفاهيم وتلك المزالق التي يهوي إليها كثير من الدارسين وتكون حصيلتها الأحكام القاصرة الغالطة، التي حرمت النظرة الشمولية المحيطة بكل الجوانب والأجزاء والملامح تذكِّرني بقصة قرأتُها في صغري خلاصتها أن جماعةً من العميان أحاطوا بفيل، وشرعوا يتبارون في وصفه، فوضع أولهم يدَه على خرطومه، وقال \"إن الفيل حيوان لا عظام فيه، وهو يتحرك إلى أعلى وأسفل\" ووصفه الأعمى الذي لمس نابه بأنه \"حيوان صلب مدبب\" أما الأعمى الذي أمسك برجله فقال \"الفيل حيوان غليظ قائم\"، وكانت هذه هي حصيلة المباراة التي ظُلِم فيها الفيل، كما ظُلم ويُظلم التاريخ والحق والحقيقة بأقلام عاجزة عمياء.

منهج أخلاقي: ومنهج البحث في التاريخ بخاصة يجب أن يكون منهجًا أخلاقيًا قبل كل شيءº معتمدًا على الصدق في الرواية، والصدق في التثبٌّت، والصدق في التفسير، والصدق في التكييف، مع توافر حسن النية في كل مرحلةٍ, من المراحل. ولا أغلو إذا قلت إن تراثنا الإسلامي قد أرسى قواعد هذا المنهج العلمي الأخلاقي في نفوس المسلمين وضمائرهم، ويشدّني ما جاء في الأثر من أنَّ رجلاً أتى رسول الله {، وقد أمسك بتلابيب رجل آخر، وهو يقول في غضب شديد وثورة \"يا رسول الله إن هذا الرجل سرق مني كذا وكذا\" فرد عليه النبي {قائلاً: \"لاَ تَقُل سَرَقَ، وَلَكِن قُل أَخَذَ\"، نعم لا تقل سرق، ولكن قل أخذ، إنها كلمات مشرقة عجيبة تكثّف في بساطة ووضوح المنهج الأخلاقي في ملء مناحي الحياة، فمن معطيات هذه الكلمات العلوية قاعدة قانونية إنسانية، خلاصتها: ضرورة التثبت قبل الإدانة، فالمتَّهم بريء حتى تثبت إدانته، والأصل هو البراءة، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بنص.

والعطاء الذي تمنحه هذه الكلمات يمتد حتى يصبح \"منهجًا علميًا\" من ملامحه التأنّي والتعمق، والتمحيص، والترفع عن الشبهات والبُعد عن كل ما لا يطمئن إليه القلب والعقل والضمير.

واستقاءً من هذا المنهج العذب حرص أسلافنا في كتابة التاريخ، وتدوين الحديث النبوي على \"السند\" أو \"الإسناد\"، أي \"العنعنة\": حدثنا فلان عن فلان عن فلان، وظهرت كتب \"الجرح والتعديل\"، وهي الكتب التي تبحث في أحوال الرواة والمحدثين وأخبارهم، وتضع معايير الأخذ منهم أو رفض ما قدموا، فتُجيز مَن يُطمأَن إلى دينه وأخلاقه وحفظه، وترفض من يُشك في يقينه وعقيدته، أو مروءته، أو سلوكه، أو حافظته.

وقد تأخذ الحيطة والأناة والحذر والتثبت العلمي عند بعض السلف صورةً تدعو إلى الدهشة والإعجاب، وفي هذا المقام يُروَى أن \"أحمد بن حنبل\" - رضي الله عنه - تجشَّم مشاق السفر إلى اليمن لأسابيع أو أشهر ليتحقق من صحة حديث نبوي، فلما عثر على العالِم المحدث المطلوب رآه يضم إليه أطراف ثوبه، ويدعو بغلته النافرة إلى طعام في حِجره، وحِجره فارغ، فتراجَع \"أحمد بن حنبل\"، ورفض أن يسأله عن الحديث الذي جاء من أجلهº لأنه كذِب على بغلته بإيهامها أن في حِجره طعامًاº مما يشكك في مصداقيته ومروءته!

تلك هي الوجهة الأخلاقية التي يجب أن يتسم بها منهج البحث في كل العلوم، وخصوصًا التاريخ، حتى لا نكون أدعياءَ وعالةً على تراثنا وتاريخنا البعيد والقريب، وحتى لا تتكرر في حياتنا قصةُ \"الفيل والعميان\"، وتصبح منهجًا له قواعده وكتبه ورجاله وحواريوه.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply