صناعة الكتابة (1-2)


بسم الله الرحمن الرحيم

 

كثيراً ما يرد السؤال عن كيفية الكتابة، وأدواتها، وسبل الترقي فيها إلى غير ذلك من الأسئلة التي لا تكاد تهدأ، خاصة وأنك ترى كثيراً من الأساليب المتخاذلة، والكتابات الركيكة أو المتكلفة.

ولا ريب أن الحديث عن ذلك متشعب طويل، والمقام ههنا لا يسمح بالتفصيل، وإنما هي إشارات عابرة هي أشبه بالمعالم العامة للكتابة الرصينة النافعة.

وقد أَفَدتُها من خلال التجربة اليسيرة، ومن خلال ما مرَّ بي من كلام العلماء وأكابر الكتاب الذين حاموا حول هذا المعنى.

وقبل الدخول في ثنايا الموضوع يحسن التنبيه على أن صناعة الكتابة ليست كغيرها من الفنون لها قواعدها المضبوطة، ومسائلها المدونة يتدارسها الكتاب، فتنتهي بهم إلى إمداد اليراعة بالبراعة.

وإنما هي تنبيهات ترشد إلى الجهات التي تنمو بها قوى التفنن في تصاريف الألفاظ، والتأنق في تحسين هيآتها التأليفية.

أما أسلوب المرء فهو الذي يخترعه صاحبهº فيكون عليه طابعهº فهو ابن مزاجه وتربيته، وبيئته، وذوقه، وفنه.

فالمعاني مطروحة، والألفاظ مطروقة، وإنما العبرة بالتراكيب، والتراكيبُ ابنةُ من يصوغهاº فيزيدها جمالاً علمُ الكاتب، ووفرة اطلاعه، وأدب نفسه، واستكمالهُ أدواتِ الكتابة.

ولا تجود الكتابة إلا بما تحمل من الألفاظ، وبما تنطوي عليه من المعاني، وبالتلطف في أدائها، واطراح التكلف في إحكام نسجها.

ومهما يك من شيء فهناك أسباب تعين على الارتقاء بالكتابة، وتجعلها نافعة مؤدية لغرض منشئها، وإليك طرفاً من تلك الأسباب، فمن ذلك:

1- الإكثار من تلاوة القرآن وتدبره: فعلاوة على كون ذلك عبادةº فهو كذلك يقوي ملكة الكتابةº فالقرآن الكريم هو الذروة في البلاغة، وفيه اللفظ الجزل، والأسلوب الذي لا يدانيه أسلوب، وفيه الجمال والجلال، والبهجة، والرهبة والسلامة من الخطأ.

2- الإكثار من مطالعة كتب السنة: كالكتب الستة وغيرها من الصحاح والمسانيدº فهي تمد الكاتب بالأساليب البيانية الراقية، وترفد مادته اللغوية والشرعية، فالنبي \" أوتي جوامع الكلم، ودانت له نواصي البلاغة، ودنت له قطوف الحكمةº فهو يتكلم بالسهل الممتنع، وبالألفاظ المعبرة المأنوسة.

3- مطالعة دواوين العرب في الشعر وحفظ ما تيسر منها، كأشعار الجاهليين وخصوصاً أصحاب المعلقات، وكأشعار المخضرمين كحسان وغيره، وأشعار الذين نشأوا في عصر صدر الإسلام كعمر بن أبي ربيعة، والأخطل، والفرزدق، وجرير، والراعي النميري، وذي الرمة.

وأشعار العباسيين كبشار وأبي تمام، والبحتري، والمتنبي، وأشعار الأندلسيين كابن زيدون وغيره.

ومما يفيد في هذا قراءة كتاب المفضليات، والأصمعيات، فهي مليئة بالقصائد الرائعة الرائقة.

وكذلك دواوين المعاصرين كالبارودي، وشوقي، وحافظ، وغيرهم.

4- استكمال أدوات الكتابة: وذلك بالإلمام بقواعد اللغة، والبلاغة، وعلوم الشريعة، والثقافة العامة.

ومن أعظم ما يعين على ذلك قراءة كتب النحو والصرف التي ترتقي بفصاحة قارئها، وتجنبه الخطأ في اللغة.

ومن أنفعها ألفية ابن مالك وشروحها، كشرح ابن الناظم، وشرح ابن عقيل، وشرح ابن هشام.

وكذلك كتاب قطر الندى وبل الصدى وشرحه لابن هشام.

وإن كان مبتدئاً فهناك الآجرومية ومن أحسن شروحها شرح الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، والشيخ عبد الرحمن بن قاسم.

ومن أنفع الكتب في النحو والإعراب كتاب مغني اللبيب عن كتب الأعاريب لابن هشام.

وكذلك قراءة كتب اللغة عموماً كالكتاب لسيبويه، ومعجم مقاييس اللغة، والصاحبي وهما لابن فارس، وسر صناعة الإعراب، والخصائص وهما لابن جني.

 

وكتاب فقه اللغة وسر العربية للثعالبي، وكتاب المزهر للسيوطي وغيرها.

وكذلك قراءة الكتب التي تُعنى بالبلاغة، وترتقي بقارئها درجات في ذلك المضمار، ومن أشهرها دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة وهما للشيخ عبد القاهر الجرجاني، وكتاب المفتاح في علوم البلاغة للقزويني، وموجز البلاغة لابن عاشور، وغيرها من كتب المعاصرين التي ربما تفتح للمبتدئ باب البلاغة كالبلاغة الواضحة لعلي الجارم، ومصطفى أمين، وكتابات د. عبد العزيز عتيق، ود. بكري شيخ أمين، وغيرها.

وكذلك الاطلاع على الكتب التي أُلفت في علم الإملاء، ككتاب الإملاء للشيخ حسين والي، وعلامات الترقيم لأحمد زكي باشا.

ولا يخفى ما في سلامة الكتابة من الأخطاء الإملائية من الجمال والروعة.

بل إن علامات الترقيم من أعظم ما يبين المعنى، ويوضحه، ويفسرهº فإغفالها في الكتابة خلل يحسن تلافيه.

وكذلك الاطلاع على الكتب التي تعنى بصناعة الكتابة، ككتاب أدب الكاتب لابن قتيبة، وأدب الكتاب للصولي، والمثل السائر لابن الأثير، وكتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري، وأمراء البيان لمحمد كرد علي.

5- الانصباب على مطالعة المنشئات البعيدة الغور في بيانها، المنتمية إلى الطرف الأعلى في عذوبة ألفاظها ورشاقة معانيها ككتابات ابن المقفع، والجاحظ، وابن قتيبة، وسهل بن هارون، وعمرو بن مسعدة، وعبد الحميد الكاتب، وأبي حيان التوحيدي.

وقل مثل ذلك في كتابات كثير من الكتاب المُحدثين على تنوع مدارسهم، كالمنفلوطي، والرافعي، والزيات، وشكيب أرسلان.

وكذلك كتب العلماء الذين يعنون بتحريراتهمº فيجمعون إلى العلم التمهرَ في الكتابة، وشدةَ الأسر، وجمال الأساليب كابن عبد البر، وابن الجوزي، وابن حزم، وابن تيمية، وابن القيم، والشاطبي، وابن حجر، والشوكاني.

ومن المعاصرين محمد الخضر حسين التونسي، ومحمد الطاهر بن عاشور التونسي، ومحمد البشير الإبراهيمي الجزائري.

وأما أشهر الكتب في هذا السياق -زيادة على ما مضى- فأمهات الأدب والبيان، ككتاب الأدب الكبير والأدب الصغير، وكليلة ودمنة وهما لابن المقفَّع، والبيان والتبيين للجاحظ، والكامل للمبرد، والأمالي لأبي علي القالي، وعيون الأخبار لابن قتيبة، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وزهر الآداب للحُصري القيرواني.

ومن كتب المُحدَثين والمعاصرين: النظرات، والعبرات، والمختارات للمنفلوطي، ووحي القلم، وتاريخ أدب العرب للرافعي، والارتسامات اللطاف، والحلل السندسية لشكيب أرسلان، والرسالة لأحمد حسن الزيات، وفيض الخاطر لأحمد أمين، ورسائل الإصلاح، والحرية في الإسلام، ومحاضرات إسلامية، والهداية الإسلامية، والسعادة العظمى لمحمد الخضر حسين، وأليس الصبح بقريب، وشرح ديوان بشَّار لمحمد الطاهر بن عاشور، وآثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي خمسة مجلدات.

6- سلامة الذوق: وذلك بمراعاة حال القراء، واستشعار أنك أمامهم تنظر في تَلَقِّيهم لما تكتب.

ولا يعني ذلك أن تجاملهم على حساب الحقيقة، وإنما تحسن المدخل، وتتلطف في الوصول إلى ما تريدº فذلك مما يأخذ بالألباب، ويجعل الكتابة تأخذ طريقها إلى القلوب.

7- نبل الهدف، وسلامة القصد: بحيث يكون الباعث على الكتابة نية الإصلاح، ورغبة الوصول إلى الحق، لا أن يكون باعثها المراء، والجدال، وطمس الحق.

8- مراعاة حال الخصوم وأتباعهم: خصوصاً إذا كانت الكتابة رداً على أحدº فيحسن أن يراعى حال الخصوم، وحال أتباعهمº فيحرص الكاتب على لزوم العدل، والرفق، والتدرج بالخصوم، وتقريبهم من الحق بلطف ويسر.

ويحرص -كذلك- على طهارة المنطق، وطلاوة العبارة، والبعد عن الاستعلاء.

ويحرص -كذلك- على اجتناب الكلمات الجافية المستكرهة، ويحذر من إطلاق عبارات السب، والتسفيهº فالكتابة التي تُحرَّر برحابة صدر تَلقَى من القبول ما لا تلقاه الكتابة التي يخالطها السفه، والطيش.

9- لزوم الاعتدال: وذلك بأن يكون الكاتب متزناً في طرحه، بعيداً عن التهوين والتهويلº فالحقيقة تضيع بين ذلك، والعرب تقول في أمثالها: \"خير الناس هذا النمط الأول والأوسط\" يعني بين المقصر والغالي.

وذلك مما يدل على حكمة الكاتب، ورجحان عقله، وحرصه على الحقيقة.

ومن الاعتدال في الألفاظ أن تكون رشيقة واضحة، وأن يكون الكلام حالاً بين حالين: بين الوحشي الغريب، والسوقي القريب.

ومن الاعتدال: أن يبتعد عن التكلفº فلا يبالغ في سجع، ولا يقصد إلى التعمية، ولا يأتي بالعبارات القلقة.

10- توظيف الثقافة والمعارف لخدمة الموضوع: فمن أعظم ما يرتقي بالكتابة، ومن أجمل ما يحسن بالكاتب - أن يوظِّف طاقاته وثقافته، ومعارفه لخدمة الغرض الذي يرمي إليهº لأجل أن يكون موضوعه متكاملاً مُشبعاً من جميع الجوانبº فيجتمع فيه الدليل الشرعي، والشاهد التاريخي، والنكتة البلاغية، والنادرة الأدبية، والبيت الشارد، والمثل السائر، وهكذا...

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply