حين تشعل بغداد جراح الأمة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

أقامت رابطة الأدب الإسلامي العالمية ملتقى الإبداع الشهري للشباب في مكتبها الإقليمي في الرياض لشهر محرم 1425هـ، وأشرف عليه الناقد د. حسين علي محمد الأستاذ في جامعة الإمام- وقد ألقى الأدباء الشباب مجموعة من نصوصهم بين شعر وقصة وخاطرة ومقالة، واحتشد جمهور واسع في حوار مفتوح حيث الكثير من الحميميّة والصدق والشفافية.

 

آفاق مشرقة:

حملت القصائد التي ألقيت في الملتقى آفاقاً مشرقة رغم أن عناوينها أحياناً توحي بأشجان وآلامº ففي قصيدة (الظلام) لعبد العزيز الحمود يقبل الصبح المشرق كفارس يبدد الظلام والأحزان، ويملأ الآفاق بهجة ونوراً!! وإن كان الظلم يخيّم على أجزاء واسعة من عالمنا الإسلاميº لكنّ الحق والعدل أقوى، وليست هذه النظرة التفاؤلية تفهم بمعزل عن الرؤية الإسلامية الساطعة الصادقة، فلا بدَّ من انتصار هذه الأمة ونهضتها إن عادت إلى ربّها، وعملت بهذا المنهج القويم:

 

هل لنا في الدروب نور صلاح  ***بجـــهاد به آقال الــــعثارا

 

فلقد تاقت الخطوب لسيفٍ, *** يقطع الظلم صارماً بتّارا

 

يا ديار الفدا سقيت نميراً  *** نافعاً مغـــدقاً يعم الديارا

 

أمتي أمتي أناجيك: هلاّ *** سطع الحق في الدرب أنارا

 

نهجها سنة الحبيب ففيها *** خير نهج لمن أراد إدّكارا

 

كلما عاث في الدّيار جبانٌ *** أقبل الأفق فارساً مغوارا

 

أقبل الصبح حاملاً كل نورٍ, *** أقبل النور يحمل استبشارا

 

فارتحل يا ظلام هذا صباح *** مثلما الغيث قد أتى مدراراً

 

وتزخر قصيدة "الخطوط الأرضية والخطوط السماوية" لسعد جبر بسخرية مرة، بأسلوب كاريكاتوري مما يحدث للأمة من هجمة شرسة على كيانها ومدخراتها وشعوبها، ولكنها تنهض رغم الانكسارات:

خط أخضر

خط أحمر

قم فتقدم لا تتأخر

هيّا نمحُ الخط الأخضر

هياّ نمحُ الخط الأحمر

هيّا نمحُ جدار الفصلِ

وهيّا نمحُ المعبر

لا تعبأ بالنسر الأشقر

سوف تراه غداً كذباب

حين يقابل أسداً يزأر.

هذه القصيدة رغم ما فيها من المباشرة والإعلانية المتكئة على زخم الأحداث على رأي الناقد د. حسين علي محمد، إلا أنني أرى أنها تحمل وهجاً عالياً من الصدق الفني يشحننا بكثير من الحماس والقوة لتغيير واقعٍ, مفجع، كما أنها تبشر بفجر آت، وإضاءات تخاطب وجدان الأمة، تعبر عن تفاؤل بنصرها القريب:

حلمي يكبر

حين يزيد الليل سواداً

فأنا أوقن أن الفجر

قريباً يُسفِر

 

أدب الدعوة وحميمية التواصل:

أما قصيدة مداعبات الشوق، لخالد اليوسف، فلم تخرج عن أدب الدعوة، والترفع عن الدنايا، والعفاف أمام دواعي الهوى، وهي لم تأتِ بجديد من حيث الصور الشعرية، والمعاني التي يلح عليها كثيراً في قصيدته:

 

فمالك يا شوق مالك بي *** تداعب قلبي وقلبي ارعوى

 

تدغدغ قلبي بوصل قديم  ***سمت عنه نفسي وأهل الهوى

 

فدهر الوصال انقضى وانتهى *** وعاد يومي وأمسي سوى

 

وتأتي قصيدة الشاعر جميل الكنعاني (الزيت والعسل) لتكون ومضة وفاء من شاعر لصديقه، وهي مهداة للشاعر الفلسطيني غازي الجمل، وهو مهندس في الأصل، ولديه دراية كافية بالمعالجة بالعسل والأعشاب ووصفات العطارة، وينطلق شاعرنا الكنعاني بداية من حسّ المكان المفعم بالألفة والحميمية والود الصافي ليرسم خيوط قصيدته بعفوية تهزنا وتشدّنا إليها منذ مطلعها:

 

شرق(الرصيفة) بين السيل والجبل *** خذ اليسار وأوقف كابح العجل

 

تلق الأديب صفي الضاد منغمساً *** يداعب الشعر من نقد ومن زجل

 

أضحى طبيباً وعطاراً بحكمته *** يجبى له العشبُ من وادٍ, ومن دغل

 

يُعالج الداء باسم الله مُبتدئاً *** فيلطف الله بالمرضى على عجل

 

ميزاته الصدق والتقوى له سمة *** يكتال للناس صفو الزيت والعسل

 

عطر الزهور إناثُ النحل تجمعه *** حلو المذاق مع المّرار والأثل

 

في سورة النحل ربّ الكون أعلمنا *** فيه الشفاء من الأمراض والعللِ

 

وتحلَّق بنا قصيدة (نوّارتي لغة الترقي والصعود) للشاعر سامي البكر إلى الرموز الشفيفة التي تأخذنا إلى أصالة الأشياء والتواصل مع رقي الذات الجماعية وقيمها السامية، وهي قصيدة من شعر التفعيلة على غير عادة شاعرنا البكر، وذات ومضات فنيّة عالية في كثير من مقاطعها.

أما قصيدة شاعرنا يوسف بن محمد الدوس بمناسبة افتتاح المعهد العلمي في الدرعية فهي تورق من (الدرعية) تلك المدينة العريقة في تاريخها الإسلامي، ودعوتها السلفية المجددة وهي قصيدة تحفل بالصور الموحية المختارة بعناية، وتبشر بطاقة شعرية متميزة للشاعر الشاب يوسف الدوس الذي شارك في مُلتقى الشباب مرات كثيرة، وبقصائد تحملُ وهج الشعر الحقيقي.

 

حين تشعل " بغداد جراح الأمة"

 

وجاءت القصيدة الأخيرة (ذكرى ميلاد) لهيثم السيد لتمضي بنا إلى العراق، العراق الذي يجاهد ضيم الأصدقاء، والأعداء، العراق الذي كان يعلمنا في تاريخنا العريق معنى الإقدام، والعراق الذي يظمأ اليوم وكانت أنهاره تروي أعماق الكون، العراق دار السلام الدائمة ولكنه الآن فتنة قائمة في ظل حراب العدو المشرعة في وجه شعبه وأمنه وسلامه:

دقت ساعاتك بالذكرى ***والعمر يجاهد دونك ضيم الأيام

وشحوبك يرسم في وجه الزمن حكاية ماضيك المأسوف

يا أسفي.. كم أسرتك فصول الخوف

وقد كنت تعلّمها يوماً معنى الإقدام

لغة هيثم السيد مشبعة بالأسى وهو يشعل فينا صوراً شعرية حزينة، وصوراً مركبة تمضي من همّه الخاص إلى الهمّ العام، ولديه قدرة على تطويع الإيقاع الشعري وتلوينه بما يخدم المضامين المتجذرة في أعماق التاريخ غير المنفصلة عن هويتها الإسلامية ودفئها الوجداني، رغم ركام الهزيمة والاندحار والتخاذل:

دقّت ساعاتك

والعمر يسابق كلماتك

وهمومك تزداد

إحساسك شعب يعتاد مع الوقت صموداً

وخيالك يتلمّس برماد الأطلال وروداً

من أين ستدرك ما هو أعظم من ذكرى ميلاد

اسأل.. وتجيبك بغداد.

 

عبق الأرض

وفي القصة القصيرة (صحوة) للقاص د. أسامة المجاليº قدرة جلية في مؤانسة عبق الأرض من خلال أسلوب يتكئ على الوصف في التعبير عن أزمة كاتب عاش يبحث عن بساطته وأشيائه الصغيرة في قريته التي يحنّ إليها في ظل تسارع الحضارة الجارفة لأعزّ ما يملك من ذكريات وحنين وخصوصية وقد نجحت القصة لتشدنا في فنيتها وصورها واستدعائها لماضٍ, يفر من بين أصابعنا! فهل نستطيع استحضاره؟!

أما القاص أحمد محمد صوّان فهو دائماً يتوّجه للطفولة الغضة، يحاورها بلغته الحيّة وعباراته المشرقة، وفكره المستمد من قيمنا العظيمة، فهو يعالج (البخل) في قصته (العصفور البخيل) ويدعو أطفالنا إلى الإيثار والتعاون مع الآخرين، بأسلوبه الواقعي البسيط، ويعتمد القاص منذر سليم محمود في قصته (كنز وكنز) على التناص القرآني، كما وظف الأحاديث الشريفة في محاولاته لاستثمار نصوص السنّة بما يؤثر في وجدان الناشئة.

وفي خاطرة (هواء وأهواء) للكاتب مروان خالد التفاتة صادقة من خلال حوار متدفق بين (كرة القدم وعشاقها)، ولا تخلو هذه الخاطرة من سخرية مريرة من خلال الاتكاء على الاستفهام والتعجب الذي فيه الكثير من التشويق، وكذلك التشخيص المفعم بالمفارقات الموجعة!.

أما خاطرة (لغة الإعلانات) للكاتب أيمن أحمد ذو الغنى، فهي خاطرة أدبية وفقت في أسلوبها ومعالجتها لمحاولات طمس لغتنا الفصحى في وسائل إعلامية كان ينبغي أن تحافظ على أصالة الأمة وهويتها ولغتها وتراثها، لأن الفصحى هي لغة الدين الحنيف، ونزل بها أشرف كتاب على أشرف نبي في أشرف أمة. فهل نستيقظ ونرتقي بلغة إعلاناتنا عن الإسفاف والانحدار من خلال لغتنا العربية الفصحى القادرة على العطاء والتجدّد؟!

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply