ماذا يجري لمسلمي تايلاند ؟!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

   لم تكن المواجهات التي اندلعت يوم 28-4-2004 بين قوات الأمن التايلندية ومسلحين مسلمين ينتمون إلى (حركة تحرير فطاني المتحدة "بولو") في مدينة فطاني جنوب تايلاند ("باتني" كما يسميها الإعلام الغربي) والتي قتل خلالها 108 من الشباب المسلم، سوى حلقة من حلقات الصراع بين مسلمي تايلاند المطالبين بالانفصال وتحسين أحوالهم المعيشية السيئة في الجنوب.

ولم يكن العنف غير المبرر الذي لجأت إليه قوات الأمن التايلندية تجاه الشبان المسلمين المسلحين الذين هاجموا مراكز للشرطة بسبب الممارسات الأمنية التعسفية ضد مسلمي الإقليم، لحد قصف 30 منهم تحصنوا داخل مسجد وهدمه على أشلائهم، سوى تعبير عن حالة من الهلع الشديد من جانب الحكومة البوذية تجاه تنامي دور التيار الإسلامي في هذا الإقليم الجنوبي والاستفادة من أجواء العداء الدولي ضد المسلمين لقمع أي تمرد أو انفصال يسعى إليه مسلمو الإقليم.

فإقليم فطاني الذي يقع بين تايلاند وماليزيا ويضم 18% من سكان تايلاند (حوالي5- 8 ملايين مسلم) تنشط به منذ عشرات السنين حركة إسلامية قوية تدعو لإنشاء دولة إسلامية تضم أقاليم (يالا وباتاني وناراثيوات) ذات الأغلبية المسلمة في الجنوب، وهناك مناوشات مستمرة بين الحكومة التايلندية البوذية وهؤلاء المسلمين تصل لحد الانتهاكات الصارخة لحقوقهم وتعذيبهم.

وسبق أن أصدرت منظمات دولية تقارير عن اضطهاد مسلمي فطاني، كان آخرها تقرير لجماعة هيومان رايتس ووتش الحقوقية ومقرها نيويورك دعت فيه تايلاند لبدء تحقيقًا فيما أسمته ضرورة "المستوى المرتفع من القوة المميتة " في الأحداث الأخيرة حيث أكد شهود عيان أنه كان من الممكن تسوية الأمر سلميًا واستسلام المهاجمين أو إجهاض الهجوم الذي علمت به قوات الأمن من جواسيس مسبقًا، ولكن الحكومة اختارت أسلوب القوة وهدمت مسجد "كروي سي" على رؤوس المسلمين وحشدت فرقتين مدرعتين كاملتين في الإقليم لإرهاب المسلمين.

السياحة سر الصدام!

وتتميز مناطق جنوب تايلاند بأنها من المناطق السياحية الهامة في البلاد ويرتادها سياح غربيون بكثرة خاصة أنها تقع على الحدود مع ماليزيا أكبر نمور آسيا تقدمًا اقتصاديًا، ولكن هذه السياحة ترتبط بانتشار الرذيلة وتجارة الجنس التي تنتشر في تايلاند بشكل وبائي، كما ترتبط بمئات الخمارات وأندية الليل التي تدمر حياة مسلمي الإقليم وتتعارض مع تعاليم دينهم.

وقد سعت حركة تحرير فطاني (بولو) عدة مرات لمعارضة هذه السياحة المدمرة، وحث بيان منسوب لحركة بولو الإسلامية -وهي اختصار لمنظمة تحرير باتاني المتحدة- شعب مالاي في جنوب تايلاند والمسلمين في أرجاء البلاد على إتباع التعاليم الإسلامية.

وعلى سبيل المثال حذر بيان نشره موقع الحركة على الإنترنت يوم 7 مايو 2004 المسلمين من ارتياد أماكن مثل الحانات والملاهي الليلية والحفلات الموسيقية وطلبوا منهم بدلاً من ذلك البقاء في منازلهم أو في المساجد، وقال البيان: "إذا اتبعتم هذه التعليمات ستعيشون في سعادة".

ويبدو أن تصاعد انتشار الرذيلة في الإقليم المسلم وعدم التفات الحكومة أو مراعاتها مشاعر المسلمين هناك كانت وراء لجوء شباب من حركة التحرير إلى الهجوم الأخير على عدة مراكز للشرطة، الأمر الذي استدعى هذا الرد العنيف من جانب الجيش التايلندي خشية انهيار صناعة السياحة في هذه المنطقة الهامة التي تعتبر مكان سياحي جيد ولكن لا يستفيد منها مسلمو الإقليم.

وقد حذرت عدة حكومات غربية رعاياها من السفر إلى الأقاليم الجنوبية من تايلاند عقب هذه المواجهات الأخيرة، ما يؤكد أن المعركة الأخيرة جاءت على خلفية السياحة في المنطقة رغم محاولات الحكومة هناك تصوير المهاجمين على أنهم مجموعة من اللصوص وقطاع الطرق، مثل إعلان تاكسين شيناواترا رئيس الحكومة: "إن الهدف من الهجوم كان "سرقة أسلحة قوات الأمن لإعادة بيعها"!!.

 

سلسلة من المواجهات المستمرة:

ومع أن المواجهات الأخيرة هي أخطر هذه المواجهات بين الجيش التايلندي ومسلمي الإقليم بسبب قتل 108 من المسلمين وإصابة واعتقال آخرين، فهي لم تكن هي الأولى ولن تكون الأخيرة بسبب الجذور التاريخية للمشكلة والتي تمتد إلى مملكة فطاني الإسلامية التي نشأت في القرن الثامن الهجري.

فقد سبق هذا مواجهات أخرى قريبة في يناير 2004، حيث اندلعت اشتباكات لم تعرف أسبابها أدت إلى سقوط نحو 60 قتيلاً في المناطق المسلمة الجنوبية المحاذية لماليزيا، حيث شنت قوات الجيش التايلندي حملة اعتقالات واسعة شملت عشرات المسلمين للاشتباه في علاقتهم بـ"إرهابيين"، ووضعتهم قيد الاعتقال بدون محاكمة وهو ما أثار سخط المسلمين في الجنوب.

كما اعتقلت تايلاند يوم 11-8-2003 القيادي البارز بالجماعة الإسلامية الآسيوية رضوان بن عصام الدين المعروف باسم "الحنبلي" الذي تتهمه واشنطن بأنه العقل المدبر لتفجيرات بالي في أكتوبر 2002 وفندق ماريوت بجاكرتا في أغسطس 2003، وتزامن ذلك مع عمليات مداهمة شملت عددًا من المساجد والمدارس وعددًا من القرى النائية، وهي العمليات التي أثارت استياء شديدًا بين المسلمين هناك.

وقد صرح "ساد أريفين جهماه" رئيس لجنة (يالا) الإسلامية، في مؤتمر صحفي عقده مؤخرًا، بأن ما يدعم التوتر في المنطقة هو عمليات البحث والتفتيش التي تشنها السلطات في المدارس والمباني الإسلامية بحثًا عن "الأشخاص الذين يرتدون ملابس بيضاء ويطلقون لحاهم"، كما ذكر عدد من المسلمين من ولاية كيلانتان الماليزية الحدودية المجاورة لتايلاند أن "العديد من زعماء المسلمين في تايلاند أبدوا مخاوفهم على أمنهم الشخصي، وسعوا مؤخرًا إلى اللجوء إلى ماليزيا".

وقد نفى وجهاء إقليم فطاني مزاعم الحكومة عن وجود إرهابيين وقالوا: إنها حجة وفرصة اتبعتها كل الحكومات التي لديها أقلية مسلمة (مثل الفليبين والصين وغيرها) للتخلص من حركات التحرر الإسلامية في هذه الأقاليم تحت ستار شعار (محاربة الإرهاب) الذي رفعته الولايات المتحدة الأمريكية!

وفي هذا الصدد نُقل عن الكاتب التايلندي المسلم "منصور صالح" المقيم بمنطقة جنوب تايلاند قوله: "لا يوجد إرهابيون في جنوب تايلاند.. كما لا يوجد أشخاص مقربون من تنظيمي القاعدة أو الجماعة الإسلامية -الذي ينبغي أن لا يسمى بالجماعة الإسلامية بأي حال من الأحوال - في المنطقة".

وأضاف صالح أنه "ليس كل المسلمين (في تايلاند) مقاتلين، ولكن هناك من هم بالفعل منخرطون في تنظيم محلي يدعى "المجاهدين" وهم مجموعة على أتم الاستعداد للموت من أجل قضية الانفصال.. ونحن لا يمكننا أن نوقف تلك النزعة طالما أنه لا يوجد القدر الكافي من التنمية التي تساعد مسلمي الجنوب على التقدم.

وزاد الأمر سوءًا انتشار الملاهي والخمارات وبيوت الدعارة في وقت يشعر فيه مسلمو تايلاند بالغضب من عدم اعتراف الدولة رسميًّا بلغتهم وثقافتهم وعرقيتهم المالاوية الإسلامية على الرغم من مرور أكثر من 102 سنة على ضم حكومة تايلاند (مملكة سيام في ذلك الوقت)، مملكة باتاني (فطاني) الإسلامية (جنوب تايلاند) إليها عام 1902.

 

المسلمون من مملكة فطاني إلى أقلية!

وتقع منطقة فطاني بين ماليزيا وتايلاند ويرجع أصل سكانها للمجموعة الملايوية المسلمة، ويتكلمون اللغة الملايوية ويكتبونها حتى الآن بأحرف عربية بسبب أصولهم العربية منذ نشأة مملكة فطاني الإسلامية في القرن الثامن الهجري.

وتقول المراجع التاريخية أن الإسلام وصل إلى فطاني عن طريق التجارة في القرن الخامس الهجري وأخذ في التنامي حتى صارت المنطقة كلها إسلامية وتحت حكم المسلمين في القرن الثامن الهجري وصارت فطاني مملكة إسلامية خالصة ومستقلة.

وعندما احتل البرتغاليون الصليبيون تايلاند أوعزوا إلى قادة تايلاند بحتمية احتلال فطاني للقضاء على سلطنة الإسلام بها ولابتلاع خيراتها فقام التايلاندون باحتلال فطاني سنة 917هـ ولكنهم ما لبثوا أن خرجوا منها بعد قليل تحت ضغط المقاومة الإسلامية.

ومع انتشار الاحتلال الإنجليزي في المنطقة الآسيوية، دخل الإنجليز تايلاند وفطاني، وقمعوا بدورهم مملكة فطاني ومسلميها، وأضعفوا الإقليم مما مهد الطريق أمام مملكة تايلاند (مملكة سيام) لضم فطاني رسمياً لها سنة 1320هـ (1902 ميلادية) بعد سلسلة طويلة من الثورات والمقاومة الباسلة من المسلمين وكان هذا الضم إيذاناً بعهد جديد في الصراع بين المسلمين وأعدائهم البوذيين في تايلاند.

 

وتشير المراجع التاريخية إلى أن إقليم فطاني لم ينضم بسهولة ويخضع لمملكة تايلاند سوى بالحديد والنار، حيث اندلعت العديد من الثورات التي قادها أمراء مسلمون آخرها ثورة الأمير عبد القادر، وهو آخر ملوك فطاني المسلمين، والذي تقدم بقيادة الثورة سنة 1321هـ بعد سنة واحدة فقط من الضم وتعرض للاعتقال واندلعت الثورة بفطاني على إثر ذلك، ولكن التايلنديين قمعوها بمنتهى الوحشية بمساعدة قوية من الإنجليز.

وعندما تحول الحكم من ملكي إلى جمهوري عقب الانقلاب العسكري عام 1933 م (سنة 1351هـ) الذي أطاح بالملكية وتردد أن هل فطاني لعبوا دورًا في نجاحه للتخلص من الحكم الملكي الذي اضطهدهم، وسعى مسلمو المناطق الإسلامية الأربعة (فطانى - جالا - ساتول بنغارا) ذات الأغلبية المسلمة في جنوب تايلاند للمطالبة بعدة حقوق لهم في عريضة قدموها للحكومة الجديدة كان أبرز ما فيها:

1- تعيين حاكم واحد على المديريات الأربعة المسلمة عن طريق أهل البلاد ويكون مسلماً.

2- أن يدين 80% من موظفي الحكومة بفطاني بالإسلام.

3- أن تكون اللغة الملايوية هي لغة التعليم بالمدارس واللغة الرسمية لأهل فطاني.

4- تطبيق الشريعة الإسلامية.

5- تكوين مجلس أعلى إسلامي لتسيير شؤون المسلمين.

ولكن جاءت الريح بما لا يشتهي المسلمون وتحول الحكم العسكري إلى واقع مرير للمسلمين ليس لأنه تجاهل مطالبهم، ولكنه سعى لمسخ هويتهم تمامًا وإذابتهم داخل الدولة، حيث أصدر الفريق أول (سنقرام) الذي تولي السلطة في تايلاند قرارات بتغيير الأسماء المسلمة إلى تايلندية ومنع لبس الثوب الأبيض المميز للمسلمين وغطاء الرأس للنساء، وتحريم استعمال اللغة الملايوية ذات الحروف العربية، وأغلقت أبواب المدارس والجامعات أمام الفطانيين وكذلك المناصب الحكومية والجيش والشرطة، وأغلقت الجوامع والمساجد وحرم التبليغ والتبشير بالدين الإسلامي.

وقد توالت على الإقليم المسلم عدة ثورات ومحاولات من جانب المسلمين لإعادة المطالبة بحقوقهم واجهتها السلطات هناك بالقمع والاعتقال لكل من قاد المطالبة بهذه الحقوق، مثل حركة الحاج محمد سولونج أحد العلماء المسلمين بفطاني الذي طالب عمل بعدم إخراج محصولات وموارد فطاني خارجها واستهلاكها محلياً واعتقل وحكم عليه بثلاث سنوات، ثم قتلوه!.

ولذلك لم تكن انتفاضة الشباب المسلم الأخيرة ومهاجمة مراكز للشرطة سوى جزء من محاولة لفت الأنظار إلى قضية مسلمي الإقليم الذين لم يعودوا يطالبون بالانفصال بقدر ما يطالبون بأقل حقوق الإنسان الضرورية المحرومين منها، مثل حقهم في تعلم دينهم والتعلم بلغاتهم الملاوية ومراعاة عاداتهم وتقاليدهم الإسلامية.

ولن يهدأ مسلمو الإقليم على الرغم من القمع الدوري لهم ومحاولات تصفية قضيتهم تمامًا، وسيستمرون في نضالهم من أجل الحصول على حقوقهم.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply