رِسَالَةُ الجِهَاتِ التَّعْلِيمِيَّةِ في مُعالجةِ الغُلوِّ


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

فمنذُ أحداثِ الحادي عشر من سبتمبر والعالمُ الإسلاميُّ يشهدُ موجةً عارمةً منْ أعمالِ الغلو والتَّطرفِ التي تقذفُ بآثارها السيئةِ على أهمِ المجالاتِ الحيويةِ الضروريةِ في حياةِ الأممِ ومجتمعاتها.

ومِمِّا لا شَكَّ فيهِ أَنَّ إشكاليةَ الغلوِ هذهِ لَتُحَتِّمُ على أربابِ العقلِ والبصيرةِ مِمَّنْ استرعاهم اللهُ ألواناً مِنَ الأماناتِ في قطاعاتِ الدَّولةِ المختلفةِ أنْ يتنادوا جميعاً في منظومةٍ متكاملةٍ رشيدةٍ لمعالجةِ هذهِ الإشكاليةِ التي راح ضحيتها-وللأسفِ- ولا يزالُ الطاقاتُ الفاعلةُ منْ شبابِ هذهِ الأمةِ.

وفي هذا الإطارِ سيكونُ الحديثُ مُنصَبًّا عنْ رسالةِ الجهاتِ التعليميةِ في معالجةِ هذه الإشكالية، إذْ إِنَّ الجميعَ يعتقدُ اعتقاداً جازماً ما لهذه الجهاتِ مِنْ رسالةٍ مُؤَثِّرةٍ في بناءِ الأجيالِ وتحقيقِ الصلاحِ المنشودِ، ولنا أنْ نتحدَّثَ-بعونِ اللهِ- في ضوءِ المحاورِ الآتية:

1-              المحورُ الأَوَّلُ : ماهِيَّةُ الغلوِ و جوهرهُ وضابطهُ.

2-              المحورُ الثاني : العواملُ الرئيسةُ التي تُشَكِّلُ قاعدةَ هذا الغلوِّ وانطلاقهُ.

3-              المحورُ الثالث : الرِّسالةُ المؤَثِّرةُ التي ينبغي أنْ تضطلعَ بها الجهاتُ التعليميةُ في معالجةِ إشكاليةِ الغلوِّ.

 

1-             المحورُ الأَوَّلُ: ماهِيَّةُ الغلوِ وجوهرهُ وضابطهُ:

حقيقٌ علينا قبل أنْ نُميطَ اللِّثامَ عن ماهِيَّةِ الغلوِ وضابطهِ أنْ نعرفَ حدودَ الحقِّ المأذونِ به شرعاً، إذِ الشَيءُ يعرفُ بضدهِ، ومِنْ هنا نقولُ: إِنَّ الحقَّ واقعٌ بينَ طرفينِ: طرفِ الإفراطِ وطرفِ التفريطِ.

أ‌-                 جاءَ في وصيةِ عمرَ بنِ عبد العزيزِ-رحمهُ الله- لرجلٍ يسألهُ عن القدرِ:

(… فَارْضَ لِنَفْسِكَ مَا رَضِيَ بِهِ الْقَوْمُ لأَنْفُسِهِمْ ؛ فَإِنَّهُمْ عَلَى عِلْمٍ وَقَفُوا، وَبِبَصَرٍ نَافِذٍ كَفُّوا،  وَلَهم عَلَى كَشْفِ الأُمُورِ كَانُوا أَقْوَى،  وَبِفَضْلِ مَا كَانُوا فِيهِ أَوْلَى، فَإِنْ كَانَ الْهدى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ لَقَدْ سَبَقْتُمُوهُمْ إِلَيْهِ، وَلَئِنْ قُلْتُمْ إِنَّمَا حَدَثَ بَعْدَهُمْ مَا أَحْدَثَهُ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهِمْ، وَرَغِبَ بِنَفْسِهِ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُمْ هُمُ السَّابِقُونَ فَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ بِمَا يَكْفِي، وَوَصَفُوا مِنْهُ مَا يَشْفِي، فَمَا دُونَهُمْ مِنْ مَقْصَرٍ، وَمَا فَوْقَهُمْ مِنْ مَحْسَرٍ، وقدْ قَصَّرَ قَوْمٌ دُونَهُمْ فَجَفَوْا، وَطَمَحَ عَنْهُمْ أَقْوَامٌ فَغَلَوْا، وَإِنَّهُمْ بَيْنَ ذَلِكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ)(1).

قالَ ابن القيم-رحمه الله- في شأنِ مقامِ التَّعظيمِ:

(هو على ثلاثِ درجاتٍ:  الأولى: تعظيمُ الأمرِ والنَّهيِ وهو أنْ لا يُعارضا بِترخصٍ جَافٍ، ولا يُعرَّضَا لتشددٍ غالٍ، ولا يُحملا على عِلةٍ تُوهنُ الانقيادَ.

 ههنا ثلاثةُ أشياءَ تُنافي تعظيمَ الأمرِ والنَّهي:

 أحدها: التَّرخُّصُ الذي يجفو بصاحبهِ عنْ كمالِ الامتثالِ.

 والثاني: الغُلوُّ الذي يتجاوزُ بصاحبهِ حدودَ الأمرِ والنَّهي.

 فالأولُ: تفريطٌ والثاني إفراطٌ .

 ومَا أمرَ اللهُ بأمرٍ إلا وللشيطانِ فيه نزغتانِ: إمَّا إلى تفريطٍ وإضاعةٍ،  وإمَّا إلى إفراطٍ وغلوٍّ، ودينُ اللهِ وسطٌ بينَ الجافي عنه والغالي فيه، كالوادي بين جبلينِ، والهدى بين ضلالتينِ، والوسطُ بين طرفينِ ذميمينِ،  فكما أنَّ الجافي عنِ الأمرِ مُضَيِّعٌ له، فالغالي فيه مضيعٌ له، هذا بتقصيرهِ عنِ الحدِّ، وهذا بتجاوزه الحدَّ)(2).

وبعد بيانِ حدودِ الحقِّ المأذونِ بهِ شرعاً، يُسفرُ اللِّثامُ عن وجهِ الغلوِّ وحقيقتهِ وضابطهِ، وفي ذلكَ يقولُ أئمةُ الإسلامِ المحققونَ:

أ-يقولُ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ-رحمه الله-: (وقالَ في النَّصارى لقد كفرَ الذينَ قالوا إنَّ اللهَ ثالثُ ثلاثةٍ إلى قوله قل يا أهلَ الكتابِ لا تغلوا في دينكم غيرَ الحقِّ ولا تتبعوا أهواءَ قومٍ قد ضَلُّوا منْ قبلُ وأضلُّوا كثيراً وضلُّوا عنْ سواءِ السبيلِ، وهذا خطابٌ للنَّصارى كما دلَّ عليه السياقُ، ولهذا نهاهم عن الغلوِّ وهو مجاوزةُ الحدِّ)(3).

ب-يقول الحافظُ ابن حجرٍ-رحمهُ الله-: (وَأَمَّا "الْغُلُوّ" فَهُوَ الْمُبَالَغَة فِي الشَّيْء وَالتَّشْدِيد فِيهِ بِتَجَاوُزِ الْحَدّ وَفِيهِ مَعْنَى التَّعَمُّق، يُقَال غَلَا فِي الشَّيْء يَغْلُو غُلُوًّا وَغَلَا السِّعْر يَغْلُو غَلَاء إِذَا جَاوَزَ الْعَادَة، وَالسَّهْم يَغْلُو غَلْوًا بِفَتْحٍ، ثُمَّ سُكُونٍ إِذَا بَلَغَ غَايَة مَا يُرْمَى)(4).

إذنْ فالغلوُّ هو مجاوزةُ الحدِّ الشَّرعيِّ الَّذي حدَّهُ اللهُ تباركَ وتعالى لعباده، وضابطهُ، كما قرَّرَ ذلكَ العلامة سليمان بنُ عبد الله آل الشيخ-رحمهُ اللهُ-: (تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله:{وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي})(5).

 

2-             المحورُ الثاني: العواملُ الرئيسةُ التي تُشَكِّلُ قاعدةَ هذا الغلوِّ وانطلاقهُ:

أثبتتِ العديدُ من الدِّراساتِ الميدانيةِ(6) التي ناقشتْ قضيةَ الغلوِّ وأجرتِ الكثيرَ من المقابلاتِ مع المتورِّطينِ في أعمالِ التخريبِ والتفجيرِ أنَّ ثَمَّةَ عاملينِ رئيسينِ هما اللَّذينِ شَكَّلا قاعدةَ هذا الغلوِّ وانطلاقته، ألا وهما:

1-العاملُ التَّكوينيُّ النفسيُّ.

2-العاملُ العقديُّ الفكريُّ.

1-العاملُ التَّكوينيُّ النفسيُّ:

أَمَّا العاملُ التكوينيُّ النفسيُّ، فهو ما نراهُ ماثلاً في طبيعةِ المنضويينَ للتياراتِ الغاليةِ، حيثُ إنِّ جُلَّهم منَ الشبابِ، أحداثِ الأسنانِ، سفهاءِ الأحلامِ، الَّذينَ يَتَّسمونَ بالاندفاعِ وعدمِ التَّروِّي، وفورانِ العاطفةِ وعدمِ تحكيمِ العقلِ، مِمَّا أوجدَ بالتالي بيئةً خصبةً لا تُقَدَّرُ بثمنٍ لأربابِ التياراتِ الغاليةِ في زرعِ جرثومةِ التكفيرِ والتفجيرِ في نفوسِ أولئك الشباب منْ خلالِ هاتيكَ الخطاباتِ الحماسيةِ التي أَجَّجتْ نارَ العاطفةِ فيهم، وأعمتْ بصائرهم عَنِ كثيرٍ منَ الأصولِ الشَّرعيةِ القطعيةِ التي جاءَ الإسلامُ بحفظها عن العبثيةِ وصونها عَنْ الفوضويةِ والتَّلاعبِ بها، والتي لا يجوزُ أبداً المساسُ بها، كما في أمنِ المجتمعاتِ، وحرمةِ الدِّماءِ المعصومةِ، والعلاقةِ الشَّرعيةِ التي ينبغي أن تكونَ بينَ أفرادِ الشَّعبِ وقياداتِ الأمةِ المخلصةِ منْ حكامٍ وعلماءَ، حتى آلَ الأمرُ بهؤلاءِ الشَّبابِ إلى زعزعةِ أمنِ المجتمعاتِ، إلى درجةِ أَنَّهم باتوا يُشكِّلونَ مصدرَ قلقٍ لأمتهم، وفزعٍ لأفرادِ مجتمعهم، وأخذوا يسفكونَ الدَّمَ الحرامَ باسمِ الجهادِ وباسمِ الأمرِ بالمعروفِ والنهي عن المنكرِ.

 كما صاروا يُفسِّرونَ كُلَّ ما يصدرُ عَنْ قياداتِ الأمةِ المخلصةِ مِنْ مواقفَ في داخلِ البلادِ وخارجها بَالتخوينِ و العمالةِ والولاءِ للقوى الأجنبية الكافرةِ الخارجيةِ.

2-العاملُ العقديُّ الفكريُّ:

أمَّا العاملُ العقدي الفكريُّ، فهو ما تسمعهُ أو تقرأهُ عنْ أدبياتِ تلكَ التنظيماتِ الغاليةِ وما تشتملُ عليهِ منْ أفكارٍ  زائغةٍ منحرفةٍ في أبوابِ الدِّينِ المختلفةِ، كما هو الواقعُ في بابِ الحكمِ بما أنزلَ اللهُ وبابِ الولاءِ والبراءِ وبابِ الجهادِ وبابِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المنكرِ.

وقدْ تولَّدَ هذا العاملُ، نتيجةً لاعتمادِ أفرادِ التياراتِ الغاليةِ في منهجِهم للتلقي على بعض المصادرِ الملَوَّثةِ لرموزِ هذه التياراتِ الذينَ نَصَّبوا أنفسهم مراجعَ علميةً للأُمَّةِ، وهم ليسوا أهلاً للولوجِ في هذا المضمارِ لا في كثيرِ الشأن ولا قليلهِ، حتى إِنَّ أحدهم ليتقَّحمُ الإفتاءَ ليسَ في المسائلِ الصغرى فحسب، بل في قضايا الأمةِ الكبرى المصيريةِ الَّتي تتعلَّقُ بمصالحها على المستوى الديني أوِ السِّياسي أو العسكريِّ والَّتي لو عُرضتْ على أميرِ المؤمنينَ عمرَ-رضيَ اللهُ عنه- وهُو هُو في جلالةِ قدره ورسوخِ علمه- وهو الملهمُ المحدَّثُ- لجمعَ لها أهلَ بدرٍ يستشيرهم ويأخذُ رأيهم.

و تَشَكلَّتْ لدى أفرادِ هذه التياراتِ وبخاصَّةٍ على مستوى الشبابِ قناعاتٌ راسخةٌ، كمثلِ رَاسياتِ الجبالِ، بحيثُ مَنْ شَكَّكَ فيها أو حاولَ النَّيلَ منها، كانتِ الخيانةُ أو العمالةُ هي التَّهمةَ الجاهزةَ التي تُضربُ عليهِ، وَيُعَيَّرُ بها أبدَ الدَّهرِ في مجالسِ القومِ العامَّةِ والخاصةِ، ومنْ خلالِ أبواقهم الإعلاميةِ التي يَنفخُ فيها الرُّويبضاتُ في كُلِّ مصرٍ وقُطرٍ.

إِنَّها بحقٍّ إشكاليةٌ جسيمةٌ مُعقَّدةٌ تُعدُّ منْ أعقدِ الإشكالياتِ في هذا العصرِ، ومنْ ثَمَّ، فإِنَّها في مسيسِ الحاجةِ إلى معالجةٍ تَتَّسمُ بأعلى قدرٍ من المعرفةِ والحكمةِ والبصيرةِ، وهذا ما نتلَّمسهُ في الرِّسالةِ المؤثرةِ للجهاتِ التعليميةِ، وما نَرجوه منها-بإذنِ اللهِ- في خضمِ ذلكَ الزَّخمِ العقديِّ السلوكيِّ المنحرفِ الذي يَضربُ بضراوةٍ على عقولِ الشبابِ ويستحوذُ على أفئدتهم.

 

3-             المحورُ الثَّالثُ : الرِّسالةُ المؤَثِّرةُ التي يَنبغي أنْ تَضطلعَ بها الجهاتُ التَّعليميةُ في معالجةِ إشكاليةِ الغلوِّ :

مِنَ المعلومِ أَنَّ البناءَ التعليميَّ له ثلاثةُ أعمدةٍ يرتكزُ عليها، ويدورُ حولها، وهي:

1-الطَّالبُ.

2-المعلِّمُ.

3-المنهجُ الدِّراسيُّ.

و كُلَّما كانَ الواحدُ مِنْ هذه الأعمدةِ راسخاً في نفسهِ، متلاحماً مع غيرهِ، كانَ البناءُ التعليميُّ أشَدَّ صلابةً وأكثرَ تأثيراً والعكسُ بالعكسِ.

إذنْ فتأثيرُ الرِّسالةِ التعليميةِ سلباً أو إيجاباً  ينبعُ بشكلٍ جذريٍّ منْ خلالِ المعيارِ المحدِّدِ لهذه المنظومةِ التَّعليميةِ المكوَّنةِ من الطالبِ والمعلمِ والمنهجِ، فإِنْ كانَ هُوَ (المعيارَ النَّوعيَّ الكيفيَّ)، وفي ضَوئهِ انطلقتِ الرِّسالةُ التعليميةُ كانَ تأثيرها إيجابياً.

ولئنْ كانَ (المعيارُ الكَمِيُّ) هو المحدِّدَ لهذه المنظومةِ دونما اعتباراً للنَّوعِ أو الكيفِ، فهاهنا ستضربُ السلبيةُ أطنابها في أروقةِ التعليمِ، ولا تسلْ بعدئذٍ عَمَّا ينجمُ منْ ذلك منْ ثمارٍ ومخرجاتٍ!!

ولو أجرينا نظرةً فاحصةً في المنظومةِ التعليميةِ بمكوناتها الثلاثِ، لوجدنا أَنَّ منها ما هو يدورُ في فلكِ الوسائلِ والأدواتِ، ومنها كذلكَ ما هو في دائرةِ المقاصدِ والغاياتِ، فالمعلِّمُ والمنهجُ مهما بلغا منَ الأهميةِ في المنظومةِ التعليميةِ وهما منها بمكانٍ، فَإنَّ حَظَّهما من ذلكَ أن يكونا في دائرةِ الوسائلِ والأدواتِ، لتحقيقِ أهدافٍ ومقاصدَ عليا.

أَمَّا الطالبُ فهو بحقٍّ قُطبُ الرَّحى الَّذي تدورُ عليهِ الرِّسالةُ التعليميةُ، وهو المستهدفُ الحقيقيُّ من وراءِ كُلِّ ما يُبذلُ منْ أعمالٍ وجهودٍ في البناءِ التعليميِّ.

وفي هذا السِّياقِ، يُمكنُ لنا أن نرسمَ المعالمَ الآتيةَ، لتكونَ خُطَّةً فعَّالةً-بعونِ اللهِ-، كيما تنهضَ الجهاتُ التَّعليميةُ بما لها منْ رسالةٍ مؤثِّرةٍ في معالجةِ إشكاليةِ الغلوِّ:

المعلمُ الأَوَّلُ: إعدادُ المعلِّمِ إعداداً متكاملاً منْ خلالِ انخراطهِ في معاهدَ خاصَّةٍ أو دوراتٍ تأهيليةٍ تدريبيةٍ، يُشرِفُ عليها المتخصِّصونَ مِنْ أهلِ العلمِ الثِّقاتِ الأثباتِ، ليصيرَ المعلِّمُ في نهايةِ المطافِ خيرَ مُمَثِّلٍ للوسطيةِ في منهجهِ العقديِّ الفكريِّ وكذا في منهجهِ الأخلاقيِّ السُّلوكيِّ، وَ مُزَوَّداً  بالحصيلةِ العلميةِ المعرفيةِ الكافيةِ، وليكونَ منْ ذوي المهارةِ الفائقةِ في محاورةِ الطالبِ ومجادلتهِ بالتي هي أحسنُ في جَوٍّ مفعمٍ بالحجةِ والشَّفقةِ، مِن أجلِ إقناعهِ بالحقِّ، واستيعابِ كُلِّ جديدٍ يَطرأُ عليهِ، مترسِّماً في ذلكَ هدي القرآنِ والسُّنةِ، وما كانَ عليهِ سلفُ الأمةِ، كما قالَ تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}النحل125.

يقولُ الحافظُ ابنُ كثيرٍ-رَحمهُ اللهُ-:

(وقوله: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أَيْ منِ احتاجَ منهم إلى مناظرةٍ وجدالٍ فليكنْ بالوجهِ الحسنِ برفقٍ ولينٍ ،  وحُسنِ خطابٍ , كقوله تعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}الآية، فَأَمَرَهُ تعالى بلينِ الجانبِ، كما أمرَ به موسى وهارون عليهما السَّلامُ حينَ بعثهما إلى فِرعونَ في قولهِ: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}) (7).

المعلمُ الثَّاني: صياغةُ المناهجِ الدِّراسيةِ صياغةً محكمةً متينةً، بحيثُ تُشحنُ بأشكالٍ من التأصيلِ والفقهِ المنهجيِّ الرَّشيدِ، ومنْ ذلكَ على سبيلِ المثالِ لا الحصرِ:

1-تأصيلُ مفهومِ الوسطيةِ والاعتدالِ، ومفهومِ التَّشدد والغلوِّ، وبيانِ تأريخِ الغلوِّ الأسودِ، وما جَرَّهُ على الأُمَّةِ في امتدادها الزَّمنيِّ منْ كوارثَ ومصائبَ.

2-تأصيلُ مفهومِ الأمنِ وضرورتهِ الحياتيةِ.

3-تأصيلُ مفهومِ العالمِ الَّذي يُمثِّلُ المرجعيةَ العلميةَ في الأمةِ، والمؤَهَّلَ بالتَّالي لأنْ يُستفتى في قضايا الأمةِ المصيريةِ، دونَ غَيرهِ مِمَّنْ يُشاركهُ في أصلِ العلمِ والتَّعلُّمِ.

4-فقهُ الولاءِ والبراءِ.

5-فقهُ الحكمِ بغيرِ ما أنزلَ اللهُ.

6-فقهُ التَّكفيرِ.

7-فقهُ الدِّماءِ المحرَّمةِ المعصومةِ.

8-فقهُ الجهادِ.

9-فقهُ السِّلمِ والحربِ.

10-فقهُ النَّصيحةِ والأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عنِ المنكرِ.

11-فقهُ التَّعاملِ مع قضايا المسلمينَ.

12-فقهُ الدُّورِ : متى تكونُ الدَّارُ دارَ حربٍ أو إسلامٍ؟… إلخ.

13-فقهُ التَّعاملُ بينَ الرَّاعي والرَّعيةِ.

ومنَ الأهميةِ بمكانٍ أن يَستثمرَ المعلِّمُ وسائلَ التقنيةِ الحديثةِ في إبرازِ ما جَنَتْهُ الأمةُ منْ ويلاتٍ ومصائبَ مِنْ جرَّاءِ الفكرِ الغاليِّ منذُ نشأتهِ في العصرِ الحديثِ وإلى يومِ النَّاسِ هذا، وذلكَ مثلاً: مِنْ خلالِ عرضِ بعضِ الأفلامِ الوثائقيةِ التي ترصدُ بعضَ أعمالِ التفجيرِ التي خُطِّطَ لها من جهةِ تلكَ التَّنظيماتِ الغاليةِ؛ وما خلَّفتْهُ منْ دمارٍ وخرابٍ وإزهاقٍ للأرواحِ وسفكٍ للدِّماءِ.

كما ينبغي أنْ تستثمرَ تلكَ القصصُ الواقعيةُ المؤَثِّرةُ لبعضِ الأفرادِ الذين كانوا يوماً منْ أيامِ دهرهم متورِّطينَ في سلكِ التَّنظيماتِ الغاليةِ، ثُمَّ مَنَّ اللهُ عليهم بالهدايةِ والتَّوبةِ، وأخذِ ما في تلكَ القصصِ منَ العبرِ والعظاتِ.

المعلمُ الثَّالثُ: تأهيلُ الطَّالبِ منْ خلالِ العمليةِ التعليميةِ تأهيلاً علمياً معرفياً نفسياً، ليكونَ على القدرِ المناسبِ مِنَ التأصيلِ والفقهِ في تلكَ القضايا التي تقدَّمَ التنويهُ بها، مِمَّا يجعلُ لديه الملكةَ على فرزِ المعلوماتِ التي يتلقَّاها منْ مصادرَ خارجيةٍ، والقدرةِ على فَحصِها ونَقْدِها، ومعرفةِ النَّافعِ مِنَ الضَّارِّ منها.

وَلكي يكونَ قادراً –بإذنِ اللهِ- على مجاراةِ غيره-إنْ لَزِمَ الأمرُ-في ميدانِ الحوارِ والمجادلةِ بالأسلوبِ العلميِّ القائمِ على قذائفِ الحقِّ الَّدامغةِ، فإذا باطلُ تلكَ الأفكارِ الغاليةِ في زُهوقٍ واضمحلالٍ، كما قال تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}الأنبياء 18.

وقبلَ ذلكَ كُلِّهِ أَنْ يكونَ راسخاً في نفسهِ أَنْ يُراجعَ مُعلِّمَهُ، أَوْ مَنْ فوقهُ مِنْ أهلِ العلمِ الثِّقاتِ إذا اشتبهتْ عليهِ الأمورُ، أوِ ادلهمتْ في وجههِ الخطوبُ.

هذا، وأسألُ اللهَ العليَّ الأعلى أن يُوفِّقَ القائمينَ على الجهاتِ التَّعليميةِ في بلادِ المسلمينَ، لينهضوا بمهمتهم الملقاةِ على عاتِقِهم، وليكونَ لرسالتهم التَّعليميةِ فِعْلَهَا المؤثِّرَ في أفرادِ مجتمعهم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 (1)-أخرجه أبوداود في سننه4614 بإسنادٍ صحيحٍ.

(2)-((مدارج السالكين)): (2/496).

(3)-((اقتضاء الصراط المستقيم)): (1/5).

(4)-((فتح الباري)): (20/352).

(5)-((تيسير العزيز الحميد)): (ص/398).

(6)-انظر: ((دور المدرسة في مقاومةِ الإرهابِ والعنف والتطرف)): (ص/14-22)، إعداد: د.عبد الله بن عبد العزيز اليوسف، و((مشكلةُ الغلو وأثره في حياةِ المسلمينَ المعاصرةِ)): (ص/367-372و925-928)، د.عبد الرحمن بن معلا اللويحق.

(7)-((تفسير ابن كثير)): (2/720).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply