صور من ذكاء الصحابة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

إن المؤمن كيّس فطن، ذكى واسع الأفق، حسن فى تصرفه، حكيم فى تدبيره؛ وقد تعلم الصحابة رضوان الله عليهم من معلمهم صلى الله عليه وسلم ذلك؛ وهذه صور من ذكاء الصحابة تبين بجلاء رجاحة عقولهم، وعبقرية تفكيرهم.

وقد حرصنا على أن نقدم ثلاث صور الأولى لصحابى جليل، والثانية لصحابية جليلة، والثالثة لأسرة طيبة من أسر الصحابة.

 

النموذج الأول: الصحابى حذيفة بن اليمان:

قال ابن إسحاق: قال حذيفة بن اليمان: والله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخندق وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هويًّا من الليل ثم التفت إلينا فقال: "مَن رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع -فشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجعة- أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة"، فما قام رجل من شدة الخوف وشدة الجوع والبرد، فلما لم يقم أحد دعاني، فلم يكن لي بُد من القيام حين دعاني، فقال: "يا حذيفة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثن شيئا حتى تأتينا"، قال: فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدرا ولا نارا ولا بناء، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش، لينظر امرؤ مَن جليسه؟، قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي، فقلت: مَن أنت؟ قال فلان ابن فلان (في الواقدي: معاوية عن شماله، وعمرو عن يمينه). ثم قال أبو سفيان: ... ارتحلوا فإني مرتحل. ثم قام إلى جمله وهو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه فوثب به على ثلاث، فما أطلق عقاله إلا وهو قائم، ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إليّ: "لا تحدث شيئا حتى تأتيني" لقتلته بسهم. قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم يصلي فلما سلم أخبرته الخبر. وقد روى هذا الحديث مسلم بن الحجاج في صحيحه .

فانظر كيف تصرف حذيفة رضى الله عنه فى هذا الموقف العصيب؛ لقد استخدم مهاراته العقلية فى ذكاء خارق ، وفى سرعة بديهة لا تحتمل التأخر لحظة؛ فعلى الرغم من أنه جلس بين اثنين من أذكى العرب (معاوية رضى الله عنه وعمرو بن العاص رضى الله عنه) إلا أنه تفوق عليهما، وأثبت أنه -فى هذا الموقف- أذكى منهما وتمثل ذلك فى:

أولا: مبادرته بالسؤال الفورى السريع لهما: حين قال أبو سفيان: يا معشر قريش، لينظر امرؤ مَن جليسه؟ فإذا بحذيفة يبادر مسرعا، ويأخذ بيد الرجل الذي كان إلى جواره ويسأله فى حزم: من أنت؟ فأُسقط فى يد مَن إلى جواره وكان لابد له من الإجابة قائلا: فلان ابن فلان.

ثانيا: تجنب حذيفة بذكائه وحسن تصرفه أن ينكشف أمره، لأنه لو عُرف لكانت النتائج وخيمة عليه وعلى الجيش المسلم المرابط.

ثالثا: تحكم حذيفة فى نفسه واستخدامه منتهى الحكمة بعدم رميه أبا سفيان بسهم يقتله، لأنه من ناحية لا يضمن أن ينفذ السهم فيقتل فعلا أبا سفيان، ومن ناحية أخرى سيكون قد خالف رسول الله فى طلبه منه ألا يحدث شيئا. فكان هذا فى قمة الذكاء وحسن التصرف.

 

النموذج الثانى: الصحابية أم سليم عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رضى الله عنه قال: اشْتَكَى ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ قَالَ فَمَاتَ وَأَبُو طَلْحَةَ خَارِجٌ فَلَمَّا رَأَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ هَيَّأَتْ شَيْئًا وَنَحَّتْهُ فِي جَانِبِ الْبَيْتِ فَلَمَّا جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ قَالَ:كَيْفَ الْغُلَامُ؟ قَالَتْ: قَدْ هَدَأَتْ نَفْسُهُ وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَرَاحَ. وَظَنَّ أَبُو طَلْحَةَ أَنَّهَا صَادِقَةٌ. قَالَ: فَبَاتَ فَلَمَّا أَصْبَحَ اغْتَسَلَ فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعْلَمَتْهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ؛ فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَخْبَرَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بِمَا كَانَ مِنْهُمَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُبَارِكَ لَكُمَا فِي لَيْلَتِكُمَا". قَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَرَأَيْتُ لَهُمَا تِسْعَةَ أَوْلَادٍ كُلُّهُمْ قَدْ قَرَأَ الْقُرْآنَ . هذا الحديث يبرهن على ذكاء أم سليم رضى الله عنها ويظهر ذكاؤها فى هذا التدرّج الواعى فى إعلام زوجها بخبر موت طفلهما الصغير أَبى عُمَيْر الَّذِي كَانَ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُمَازِحهُ وَيَقُول لَهُ "يَا أَبَا عُمَيْر، مَا فَعَلَ النُّغَيْر" وكَانَ أَبُو طَلْحَة يُحِبّهُ حُبًّا شَدِيدًا. وتمثّل هذا التدرج فى كتمان الخبر عنه تماما فى البداية؛ ثم تعمُّدها أن تتزين له لتسليه وتنسيه قلقه على ولده ولو مؤقتا، ثم استخدامها أسلوب التعريض بقولها: "وَأَرْجُو أَنْ يَكُون قَدْ اِسْتَرَاحَ". ثم استخدامها أسلوب تهيئة النفس لتلقى الخبر المؤلم بقولها فى رواية مسلم: "يَا أَبَا طَلْحَة ، أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ قَوْمًا أَعَارُوا أَهْل بَيْت عَارِيَة فَطَلَبُوا عَارِيَتهمْ أَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ؟ قَالَ: لَا". ثم لما تأكدت من عدم اعتراضه على أن يسترد صاحب العارية عاريته قَالَتْ: فَاحْتَسِبْ اِبْنك. ولا يخفى علينا ما فى تصرف أم سليم من صبر جميل وهى الأم التى مات طفلها الحبيب، وما فى تصرفها كذلك من جلد وتحكم هائل فى مشاعر الحزن والألم إلى الدرجة التى تزينت فيها لزوجها، حتى تغشاها، ولا يخفى كذلك علينا ما فى قلبها من رسوخ الإيمان بقدر الله، والتسليم لقضائه. وهذا فى منتهى الحكمة والذكاء. فكان طبيعيا أن يبارك الله لهما فى ليلتهما -كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما- فيرزقان تسعة من الولد كلهم قد حفظ القرآن وعلمه.

يقول ابن حجر: وَفِي قِصَّة أُمّ سُلَيْمٍ هَذِهِ مِنْ الْفَوَائِد:

مَشْرُوعِيَّة الْمَعَارِيض الْمُوهِمَة إِذَا دَعَتْ الضَّرُورَة إِلَيْهَا. وَشَرْط جَوَازهَا أَنْ لَا تُبْطِل حَقًّا لِمُسْلِمٍ. وَالْمُبَالَغَة فِي الصَّبْر وَالتَّسْلِيم لِأَمْرِ اللَّه تَعَالَى وَرَجَاء إِخْلَافه عَلَيْهَا مَا فَاتَ مِنْهَا، إِذْ لَوْ أَعْلَمَتْ أَبَا طَلْحَة بِالْأَمْرِ فِي أَوَّل الْحَال تَنَكَّدَ عَلَيْهِ وَقْته وَلَمْ تَبْلُغ الْغَرَض الَّذِي أَرَادَتْهُ، فَلَمَّا عَلِمَ اللَّه صِدْق نِيَّتهَا بَلَّغَهَا مُنَاهَا وَأَصْلَحَ لَهَا ذُرِّيَّتهَا... وَفِيهِ َبَيَان حَال أُمّ سُلَيْمٍ مِنْ التَّجَلُّد وَجَوْدَة الرَّأْي وَقُوَّة الْعَزْم.

 

النموذج الثالث لأسرة طيبة من أسر الصحابة:

أبو طلحة وأم سليم قال البخاري: عن أبي هُرَيرة قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أصابني الجهدُ . فأرسل النبى صلى الله عليه وسلم إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يُضَيّفُ هذا الليلة، رحمه الله؟". فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا. فقالت: والله ما عندي إلا قوتُ الصبية. قال: فإذا أراد الصبيةُ العَشَاء فنوّميهم، وتعالى فأطفئي السراج ونَطوي بطوننا الليلة. ففعلَت، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: "لقد عجب الله عز وجل - أو: ضحك-من فلان وفلانة". وأنزل الله عز وجل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) وفى الرواية الأخرى: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضى الله عنه أَنَّ الرجل قَالَ لامرأته: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي. فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ، وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ، وَنَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً. فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا، وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا، وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا، ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ؛ فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ. فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ. وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة، رضى الله عنه: "فَقَامَ رَجُل مِنْ الْأَنْصَار يُقَال لَهُ أَبُو طَلْحَة" هذا الحديث الشريف يبدو فيه جليا الذكاء الجميل المختلط بالحفاظ على الإحساس والشعور فى أعلى درجاته. ويتمثل ذلك فى:

أولا: إثارة أبى طلحة اهتمام زوجه بالضيف إلى أقصى درجة بذكاء شديد، و ذلك بقوله لها "أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" وهو بهذا الأسلوب الموجز البليغ يحثها على أمرين: طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بإكرام ضيفه؛ ثم طاعة الزوج الواجبة فى المعروف؛ فقدمت للضيف طعام أولادها! ونفذت أمر زوجها: "ضَيفُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَدّخريه شيئًا".

ثانيا: ذكاء أم سليم فى ردها على زوجها لتتأكد منه، فتقول له: "والله ما عندي إلا قوتُ الصبية." وقد حرصت على ذلك، كأنها تستأذن زوجها فى أنها ستقدم للضيف طعام أولادها الذى ليس فى البيت سواه!؛ واستئذانها هذا يقطع الطريق على لوم زوجها إياها إذا ما حدث مكروه لطفل من الأطفال أو قام من نومه باكيا من الجوع ؛ وكأنها تقول له: لنكن متفقين على ذلك.

ثالثا: الذكاء الشديد وحسن التصرف مع الصبية الصغار. َقَالَ: "نَوِّمِي صِبْيَانَكِ إِذَا أَرَادُوا عَشَاءً" ونحن لا ندرى كبف استطاعت أم سليم أن تنوّم صبيانها بغير عشاء، اللهم إلا بذكائها الشديد وحسن تصرفها.

رابعا: الحرص على إحساس الضيف، وتنفيذ دواعى الإكرام معه كاملة؛ ومنها الجلوس مع الضيف وتناول الطعام معه؛ وهذه عادة عربية أصيلة أقرها الإسلام وشجع عليها، ولكن السؤال هنا: كيف سيجلس أبو طلحة و زوجه لتناول العشاء مع الضيف، والطعام قليل قليل لا يكاد يكفى إلا هذا الضيف وحده؟؟! إن حل هذه المعضلة يحتاج إلى ذكاء شديد؛ وهذا ما فعله أبو طلخة وأم سليم؛ لقد قال لها: "فنوّميهم وتعالى فأطفئي السراج" ففعلت ذلك بمنتهى الذكاء: " ُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ" فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ وهما فى الحقيقة لا يأكلان.. إنه الحرص على تنفيذ آداب الضيافة، من إيناسٍ للضيف، وإيثاره بالطعام المتوافر؛ مع إيهامه بأنهما يأكلان معه.

خامسا: لقد علم أبو طلحة وأم سليم بذكائهما الإيمانى أن إرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو فى الحقيقة إرضاء لله عز وجل، وأن فى هذه الطاعة، وفى هذا التصرف الأخلاقى الذكى ثمرات عظيمة عند الله عز وجل فإذا بأبى طلحة حين يصبح ذاهبا إلى المسجد يبادره النبى صلى الله عليه وسلم بقوله: "ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فَعَالِكُمَا" يقول ابن حجر: "وَنِسْبَة الضَّحِك وَالتَّعَجُّب إِلَى اللَّه مَجَازِيَّة وَالْمُرَاد بِهِمَا الرِّضَا بِصَنِيعِهِمَا".

لقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طريق الوحى بما صنع أبو طلحة و زوجه مع الضيف؛ ففرح بحسن تصرفهما، وبشرهما بنزول قول الله تعالى فيهما وفى من يصنع مثلهما: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ)

هذا والله أعلم

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

الهوامش

1.    المغازي للواقدى 2 / 489

2.    البداية والنهاية لابن كثير ج4ص130

3.    البخارى 5/53 و مسلم 12/221

4.    فتح البارى لابن حجر 4/350

5.    تفسير القرآن العظيم لابن كثير 8/71

6.    البخارى 12/157

7.    مسلم 10/380

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply