إكرام الضّيف لدى الشّعراء الجاهليّين


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

لقد كان الشّاعر الجاهليّ "مُعلّم القبيلة ومُرْشدها"، فقد حَرَص في إِطار مَهمّات الشّعر التّربويّة على نشر القيم والمُثُل، التي تشكّل الشخصيّةَ المثاليّةَ، كما يراها المجتمع.

وكان التّراث الشّعري الجاهليّ  بما حوى من قيم سلوكيّة ومُثُل عُليا؛ مادّة التّأديب في ذلك العصر، وظلّتْ له منزلة رفيعة بين موادّ التّأديب الأُخرى في العصور الإسلامية. فعمَرُ بْنُ الخطّاب، رضي الله عنه، كان يدرك قيمةَ الشّعر التّربويةَ، وأهدافَهُ السّلوكيةَ، مما جعله يكتب إلى أبي موسى الأشعري: "مُرْ من قِبَلِكَ بتعلّم الشّعر، فإنّه يدلّ على معالي الأخلاق، وصواب الرّأي، ومعرفة الأنساب".

 وتوجيهاتُ عُمَرَ تدلّ على فَهْم عميق، لِدَوْر الشّعر في صقل النّفس والسّمو بها، فيؤكّد هذا المعنى بقولـه: "تحفّظوا الأشعـار، وطالعـوا الأخبار، فإنّ الشّعر يدعو إلى مكارم الأخـلاق، ويعلّم محاسن الأعمال، ويبعث على جميل الأفعال، ويشحذ القريحة، ويحدو على ابتناء المناقب، وادّخار المكارم، وينهى عن الأخلاق الدّنيئة، ويزجر عن مواقعة الرِّيَبِ، ويحضّ على معالي الرّتب".(1)

ولقد أوصى الآباء أبناءهم في الجاهلية بالتحلي بالقيم وها هو ذا الأعشى؛ ميمون بن قيس يفخر بأنّه كان متسامياً في حياته، عاش بين وصيّتين: واحدة ورثها عن أَبيه، وثانية ورّثها لابنه. وقد كثّفت الوصيّة الأولى نظرة أبيه إلى الحياة. لقد سجّل الأعشى باعتزاز كبير ما تلقّاه عن أبيه من وصايا تحضّ على إكرام الضّيف، وحفظ الجار، والاستبسال في القتال حيث  يقول (2):

أُوصـيكُـمُ بثـلاثٍ إنّنــي تلــفُ
حـقّـا عـلـيّ فأُعطيـه وأعتـرفُ
يومـاً من الدّهر يثنِيــهِ  فينصـرفُ
إذا تلوّى بكـفّ المعصَـمِ  العُــرُفُ

 

إنّ الأعـزّ أبـانـا كـان قـال لنـا:
الضّيـفَ، أوصيكُـمُ بالضّيف إنّ لـه
والجــارَ، أوصيكُـمُ بالجـار إنّ لـه
وقاتلــوا القـوم، إنّ القتـلَ مكرمـةٌ

وها هي وصيّة الأعشى لابنه قد كثّفتْ نظرته إلى الحياة من خلال حكمة الشيخوخة، فقد أَوصى ابنه بَصيراً بألا يلتمس الوُدّ ممّن يتباعد، وإِنْ قَرُبَتْ قرابته، ولا ينأى عن المتودّد المتقرّب، وإِنْ سبقتْ عداوته. وليس القريب مَنْ تربطك به صلة النّسب، ولكنّ القريب الحقّ مَنْ قرّب نفسه بالوُدّ، وأَخلصه.

ويشكو الأعشى من فساد العلاقات الإنسانية، فهو في زمن لا يرعى فيه أَحَدٌ قرابةً ولا نَسَبا، يغترب المرء عن أهله، فإذا هو وحيد بين قوم يعتزون بأنصارهم من رهطهم، لا يجد مَنْ يغضب له، أو ينصره إذا خاصم أحدهم.. فَهُمْ يَدٌ واحدة عليه، يحطمونه بجَوْرهم، ولا يزال كلّ يوم صريع ظُلْم جديد، يتقاذفه القوم جرّا وسحبا، فيقول(3):

وصاةَ امرئ قاسى الأُمورَ وجـرّبـا

سأُوصي بَصيرا إنْ دنوتُ من البلــى

ولا تَنْأ عن ذي  بِغْضَة إنْ  تقرّبـا

بأنْ لا تُبَـغّ الـوُدّ مـن متبـاعــد

لَعَمْرُ أبيكَ الخيــرَ لا مَنْ تنسّبــا

فـإنّ القـريـبَ مـن يقـرّبُ نفسَـهُ

مصارعَ مظلـومٍ مَجَـرّا ومَسْحَبـا

ويحْطَـمُ ظلـما لا يـزال يـرى لـه

يكنْ ما أساء النارَ في  رأسِ كوكبـا

وتـدفنُ منه الصّالحــاتُ وإنْ يُسـئْ

ولا قـائــلا إلا هـو المتعيّبــا

 

وليس مُجيرا إِنْ أتـى الحـيَّ خائـفُ

إكرام الضّيف عند الشّعراء الجاهليّين:

وكانت قيمة إكرام الضّيف من أبرز القيم التي أوصى بها الشّعراء الجاهليّون أَبناءهم، فقد كان أبناء ذلك العصر على حال من العيش تعنف كثيراً، وتلين قليلاً، فما أشدّ اضطرابهم بين العنف الكثير واللّين القليل! كانت صبابات الصّحراء من الرّزق موزّعة توزيعاً فرضتْهُ القوّة، ولم تفرضْهُ الرّحمة. والنّاظر في بِنْيَةِ ذلك المجتمع يرى فيه أغنياء قَليلين، وفقراءَ كثيرين، وما كانَ ثَمّةَ شِرْعةٌ أو قوّةٌ تأخذ من الغنيّ لتعطيَ الفقيرَ، فكان الفقير لذلك في مرارة وهَوْل، على نحو ما نجد تعبيرا لذلك في شعر الصّعاليك.

ومن رَحِم المعاناة في تلك الفيافي الواسعة وُلدتْ هذه القيمةُ الإنسانيّةُ، وهذا الخلُقُ النّبيلُ، ليكون مظهراً من مظاهر التّعاون على ظروف حياتهم القاسية، ومن ثَمَّ فَهُمْ معرّضون في أثناء رِحْلاتهم الدّائبة في مجاهل الصّحراء إلى أن يَنْفَدَ ما مَعَهُم من زاد، و"إِذا لم يعمل الكرماء على نجدة هؤلاء الذين امتُحنوا بنفاد زادهم، أو ضَلّوا طريقهم، وتقطّعتْ بهم السّبل تعطّلت الحياة في الصّحراء".

لقد كَثُرَ دورانُ وصيّة إكرام الضّيف في الشّعر الجاهليّ، فالكرم في قوم حبيبة بنت عبد العُزّى قيمة خلقيّة، يتواصى بها الآباء والأجداد، قالت:

بجُـنُـوب مكّـة هَدْيُهُـنّ مـقـلّــدُ

إِنّي وربِّ الرّاقصـاتِ إلـى مِنــى

أَبـدا ولـكـنّـي أُبيـنُ وأنـشُـــدُ

أُولــي علـى هُلْـك الطّعـامِ أليّـةً

نَـفْـضَ الـوعـاءِ وكــلّ زاد ينفـدُ

وصّـى بهـا جـدّي وعلّمنـي أَبـي

لا تخـرقَـنْـهُ فـأرة أو جُـدْجُـــدُ

فَاحْفَظْ حميِتَـكَ لا أبا لـك واحتـرسْ

ويُقري الأسودُ بنُ يَعْفُرَ النّهشليُّ الضّيفَ، التزاماً بوصيّة أَبيه:

وجارُ أَبي تَيْحــانَ ظـمآنُ جائــعُ

وإنّي لأُقري الضّيفَ وصّى به أَبــي

 

ويوصي عبد قيس بن خُفاف البُرجميّ ابنه جُبَيْلا بإكرام ضيفه:

حـقٌّ، ولا تـكُ لُـعْـنَـةً للـنــزّلِ

والضّـيـفَ أكْـرِمْـهُ فـإنّ مبيتَـهُ

بمبيـتِ ليلتـه وإنْ لــم يُـسْـــأَلِ

وَاعْـلَـمْ بـأنّ الضّيفَ مُخْبرُ أهلِـهِ

فإكرام الضّيف حقّ، لا يجوز التّفريط فيه ولا التّهاون، لأنّ التقصير في هذا الحقّ يُلحق به لعنة مدى الدّهر، ولأنّ الضّيف يُشيع هذه الأخبار بين أهله وأبناء مجتمعه سواء سألوه أم لم يسألوه.

ولإكرام الضّيف عند عمرو بن الأَهْتم بُعْدٌ أَخلاقيّ، فيوصي ابنه رِبْعيّا بإكرام ضيفه وقت الشدّة، حين يشحّ الزّادُ، ويضنّ الآخرون:

إِذا أَمـسـى وراءَ الـبـيـتِ كــورُ

وجـاري لا تُهينَـنْــهُ وضَيــْفـي

عـوانٌ لا يـنـهـنـهـهـا الفـُتـورُ

يـؤوبُ إِلـيـك أَشـعـثَ جـرّفتْـهُ

عـلـيـك فـإنّ مـنـطـقـه يَسيـرُ

أَصِـبْـهُ بالكـرامـة واحتفـظْــهُ

ويرتبط الجود عند الحارث بن حلّزة بموقف فكريّ مؤدّاه أنّ الإنسان يجب أن يبذل ما لديه للآخرين؛ لأنّه لا يدري ما سيحدث فيما عنده من المال، فلربّما صار ماله بعد حياته نَهْباً مقسّما بين الوارثين يعيثون فيه. وفي ضوء هذا الفهم خاطب ابنه عمرا وأوصاه بأن يحلب الألبان للأضياف، وألا يدّخر شيئاً من ذلك:

وقـد حـبـا مـن دونـهـا عـالــجُ

قُـلْـتُ لـعـمـرو حيـنَ أَبصرتُـهُ 

إِنّـك لا تـدري مــن  الـنّـاتـــجُ

لا تـكْـسَـعِ الشَّـوْلَ بـأغبـارهـا

فـإنّ شـرّ الـلّـبــن الـوالــــجُ

واحـلُـبْ لأَضيـافـك ألـبـانـهـا

 

إلى أن يقول:

تــاحَ لَـهُ مـن أمـره خـالـــجُ

بَيْـنـا الفتـى يَسْعــى ويُسْعى لَـهُ

يـعـيــثُ فـيـه هَـمَـجٌ هامـجُ

يتـرُكُ مـا رقّــح مـن عيشــه

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

الهوامش:

(1) .فتحي إِبراهيم خضر، وصايـا الآبـاء فـي الشّعـر الجاهلـيّ والإسلامي، جامعة النّجاح الوطنيّة، قسم اللغة العربيّة، ص2.

(2) ديوان الأعشى الكبير ميمون بن قيس، ق62، ص359.

(3) المصدر نفسه، ق14، ص163.

(4) فتحي إِبراهيم خضر، وصايـا الآبـاء فـي الشّعـر الجاهلـيّ والإسلامي، ص8-10.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply